حظي اليهود المغاربة بموقع متميز في هرم السلطة بالمغرب منذ عهد السلطان المرابطي يوسف بن تاشفين، وعاشوا عصورا ذهبية مع المرينيين والسعديين، لكن سيصبح لهم نفوذ أكبر منذ القرن 17، تجاري وسياسي، لقد قام يهود البلاط بدور هام في مجال تدبير العلاقات الخارجية للمغرب مع الدول الأوربية، على المستوى الدبلوماسي وإدارة الأعمال التجارية، وسعى جل السلاطين والملوك المغاربة إلى استثمار الإمكانات التي تتوفر عليها النخبة اليهودية والاستفادة من خبرتها في إدارة الأموال وفي التجارة الخارجية، وفي علاقاتها داخل وخارج المملكة، وهذا كان يسمح بتبادل المنافع، من جهة هناك السلطة السياسية التي تقدم الحماية لليهود المغاربة، ونجاحهم في اختراق البلاط يساعد على تعزيز نفوذهم وحماية أنفسهم وتنمية ثرواتهم، ومن جهة أخرى يستفيد السلطان من نخبة التجار اليهود، من خبرتهم وعلاقاتهم مع الدول الأوربية خاصة.. من الوزير أبو أيوب بن المعلم وسليمان بن فاروسال، الوزير والدبلوماسي، وأبراهام بن كمنيال، وزير وأمير في الدولة المرابطية، حتى ليون بن زاكين، وزير البريد على عهد محمد الخامس، وأندريه أزولاي، المستشار الملكي على عهدي الراحل الحسن الثاني ومحمد السادس، وسيرج بيرديغو وروبير أصراف، اللذين تقلدا مناصب وزارية في حكومات متعاقبة على عهد الملك الراحل، دون نسيان يهود آخرين كانوا مقربين من السلاطين من غير النخبة التي توجد في قلب القرار السياسي والاقتصادي، ولكن من اليهود الذين كانت لهم وظائف مختلفة في قلب الحياة اليومية للسلطان ولهم حظوة في القصر الملكي مثل سالم ساسون، الخياط الشهير للسلطان مولاي الحسن الأول الذي خلفه ابنه أبراهام بعد وفاته في نفس المهمة مع مولاي عبد العزيز ومولاي حفيظ ومولاي يوسف، وبعده سيصبح صهره حاييم بوطبول وابنه رافائيل خياطي السلطان محمد الخامس والحسن الثاني، ليرث هذا المنصب روجي، ابن رافائيل بوطبول، ثم الخادمة الشهيرة مسعودة، مرافقة للا ياقوت أم الحسن الثاني، مرورا بابن شلوخة، خازن بيت المال بسجلماسة في عهد الخلافة الموحدية، وهارون بن بطاش، كبير وزراء السلطان عبد الحق المريني، وصامويل بلاش، ممثل المغرب لدى هولندا في عهد المولى زيدان، وجوزيف ميمران مستشار المولى إسماعيل وشيخ اليهود بالمغرب، وأخيه أبراهام ميمران، دبلوماسي ومستشار ومدير للأعمال التجارية، وموشي بن عطار، خازن بيت مال السلطان المولى إسماعيل، وصموئيل سومبال، الدبلوماسي والكاتب الرئيس في ديوان السلطان سيدي محمد بن عبد الله، ومايير مقنين، تاجر ودبلوماسي مغربي وسفير السلطان المولى عبد الرحمن وخلفه لدى العديد من الدول الأوروبية… تشكل في المغرب ما يطلق عليه حاييم زعفراني «الأوليغارشية» اليهودية، أي تلك العائلات الأرستقراطية اليهودية العريقة التي استطاعت بفضل خبرتها وفطنتها أن تمتلك نفوذا قويا في قلب النخبة السلطانية، أصبح متوارثا في الكثير من الأحيان وملمحا مميزا للإيالة الشريفة وموقع اليهود فيها.. مثل آل بَّلاش، سومبال، بن يدَّر، روتي، ميمران، طوليدانو، آل عطار، روزاليس، بوزاكلو، آل مقنين، آل قرقوز، آل كدالة، وآل بَنْ عَلِّيل.. عائلات يهودية استطلعت النفوذ إلى قلب بلاط المملكة الشريفة، وظل العديد منهم خداما أوفياء للقصر الملكي يحتلون مناصب سامية في قلب نسيج الدولة المغربية بما يشكل الاستثناء في العالم الإسلامي.
لا يسعى هذا الملف إلى الحديث عن مسار اليهود النافذين في البلاط السلطاني وتميز المغرب بهذا البعد عن باقي بلدان العالم الإسلامي، حيث كان السلطان يقدم بنفسه الحماية لليهود المغاربة، وإنما الوقوف على حكايات مثيرة في صلب هذه العلاقة المتميزة في المغرب الأقصى، بين السلطان الشريف وما أصبح يعرف ب «يهود السلطان» أو «يهود البلاط»، وقائع بعضها غامض، مثير، شيق، مأساوي، عنيف.. هي ما تدخل في اعتبارنا، فجوزيف ميمران تعرض لمؤامرة التسميم في بيته، وأخوه أبراهام ميمران، مستشار السلطان المولى إسماعيل وشيخ الطائفة اليهودية ووكيل تجاري أو قائم بأعمال السلطان التجارية، تم سجنه، ووجهت التهمة لموشي بن عطار للتخلص من يهودي البلاط من طرف مستشارين مسلمين، فتم اعتقاله وتوفي في السجن وقتل ابنه صمويل، وحكم على حفيده حاييم بغرامة مالية عجز عن تسديدها بعد تتريك عائلته، فسجن، وبعد مغادرته السجن أصبح خياطا ماهرا، رفض أن يخيط ثوب زفاف حاكم السلطان بالرباط فاعتقله ورمى به في عرين للأسود، وما حدث بعد ذلك لا يخلو من طرافة وغرابة.
السلطان اليزيد يعيث فتكا بالنخبة اليهودية، ويأمر بحرق مستشار أبيه السلطان سيدي محمد بن عبد الله حيا في ساحة عامة.. موقنين الداهية، الدبلوماسي والمفاوض الذكي، والتاجر الذي كان يعرف ما يريد، وصل إلى مراتب عليا لدى السلاطين العلويين، لكن نهايته لم تكن سعيدة كما بداياته… وصمويل سومبال الذي أدار التجارة السلطانية مع الدول الأجنبية في القرن 18 انتهى بتسميمه داخل معتقله.. تلك بضع حكايات مما نكشف عنه في «الأيام» من خلال هذا الملف.
آل ميمران وآل العطار مستشارو السلطان إسماعيل:مؤامرات وقتل وتسميم وسجن حتى الموت
جوزيف ميمران أو يوسف معيمران هو تاجر يهودي مغربي، كان رئيسا للطائفة اليهودية، وشغل منصب الصدر الأعظم على عهد المولى اسماعيل بين 1672 و1683م، وكان أحد أكبر مستشاريه، وهي ذات المهام والوظائف التي سيرثها ابنه أبراهام ميمران (أو إبراهيم معيمران كما تم تعريبه)، الذي قوى العلاقات الدبلوماسية والتجارية للمغرب مع فرنسا، والبرتغال، وإسبانيا وهولندا.. وتمتع بنفوذ قوي على عهد السلطان المولى إسماعيل وخلفه، إذ شغل مهام دبلوماسي مكلف بالشؤون الأوربية ومستشار للسلطان ووكيل الأعمال التجارية للمخزن بين 1683 و1722. وستنتشر عائلة ميمران في مدن مغربية عديدة من مكناس، الصويرة إلى مازاغان، وامتد نفوذ هذه الأخيرة حتى القرن 19، حيث شغل أحد فروع نسل ميمران منصبا ساميا لدى السلطان سيدي محمد بن عبد الله، واستقدمه المولى سليمان من آسفي وعينه مبعوثا إلى أوربا قصد تنشيط المبادرات التجارية معها، خاصة في مجال الحبوب، الصوف والأسلحة والشمع والفول…
قامت منافسة قوية بين عائلة ميمران وعائلة آل طوليدانو، التي اختصت بالتجارة مع هولندا، وآل بن عطار مع انجلترا وجبل طارق من جهة، وبين مستشارين للسلطان مولاي اسماعيل، أغضبهم النفوذ اليهودي في دار المخزن وحظوتهم لدى السلطان، فتم تسميم إبراهيم ميمران، فيما سجن شقيقه صموئيل الذي أصبح رئيسا للطائفة اليهودية، فيما تم قتل ابنه في بيته..
نفس الطريقة المريبة سيلقى بها يوسف ميمران الأب حتفه بين التسميم والاغتيال، وقد لفقت تهمة القتل لموشيه بن عطار، الذي سجنه المولى اسماعيل وتوفي وسط السجن، وهكذا تسنى للوزراء النافذين التخلص إلى حين من آل ميمران وبن عطار الذي تم الاستيلاء على ثروته بعد التخلص منه.
بن بطاش: أصبح الحاكم الفعلي قبيل سقوط المرينيين
بلغ اليهود شأنا عظيما في النفوذ على عهد عبد الحق المريني، آخر سلطان مريني، وكان هارون بن بطاش القائم بأمر الحكم والمسؤول الأول عن تسيير شؤون الدولة المرينية في آخر أيام حكمها بالمغرب..
كان التجار اليهود قد امتلكوا نفوذا قويا في قلب البلاط السلطاني، وحين جاء عبد الحق المريني إلى العرش وجد نفسه رهينة أوليغارشية يهودية متنفذة، استعان بها السلطان عبد الحق المريني في القرن 15 بحكم اضطراب أحوال الدولة واتساع خريطة السيبة وحاجة بيت مال المسلمين إلى الدعم المالي.. لجأ السلطان إلى التجار اليهود وخاصة وجهاءهم النافذين، وكان بينهم هارون بن بطاش، الذي قربه المولى عبد الحق المريني منه ومنحه تسهيلات وامتيازات في تجارته، ظل هارون بن بطاش بمثابة ظل السلطان ومنقذه في الأزمات، وترقى بفضل نباهته ونجاعته في البلاط السلطاني إلى أن عين في منصب الصدر الأعظم.
كان بن بطاش بمثابة الممول الأساسي لحكم السلطان، بحكم علاقته بكبار التجار اليهود الذين كان يعدهم بالنعيم أو يهددهم بجحيم غضب السلطان، الذي كان في حاجة ماسة لنشر حكمه وبسط سلطانه ودحر خصومه، وقد أوحى الوزير اليهودي أن لا حكم مستقر في ظل استمرار مزاحمين في الحكم من أقرباء المولى عبد الحق المريني، الذي سوف يخطط لأكبر مذبحة في حق أفراد أسرته ممن اعتقد بقدرتهم على مزاحمة سلطانه والمطالبة بالعرش، وهو ما جلب عليه غضب الناس من جبروت السلطان ومساعده اليهودي، الذي أصبح هو الحاكم الفعلي بمدينة فاس، وهو اليهودي هارون بن بطاش، تروي نصوص تاريخية أن عبد الحق المريني «ترك اليهودي يقبض من أهل فاس المغارير، أي الجبايات»، فكان يقبض الضرائب من السكان، ويشدد عليهم، ويبالغ في الضرائب التي لا تعرف كلها طريقها إلى خزينة السلطان، فاستاء سكان فاس من بطش هارون بن بطاش ورفيقه «شاويل»، وثاروا في وجه السلطان وحاشيته اليهودية بزعامة قائد الثورة خطيب القرويين أبو فارس عبد العزيز ابن موسى الورياغلي، الذي دعا إلى الثورة على اليهود وإلى خلع السلطان عبد الحق المريني، وتنصيب الشريف أبي عبد الله مكانه، وهكذا تم قتل هارون بن بطاش والسلطان عبد الحق المريني، فكان ذلك آخر عهد حكم المرينيين.
صامويل سومبال.. اليهودي المفاوض البارع ضبطه السلطان يتلقى رشاوى من الأجانب فاعتقله
كان صامويل سومبال يهوديا ذا حظوة ونفوذ كبيرين لدى السلطان، اشتغل مترجما ثم كاتبا ومحررا متميزا بالبلاط الملكي لدى المولى عبد الله وابنه سيدي محمد، أصبح الكاتب الرئيس في ديوان هذا الأخير، وعين دبلوماسيا بحكم براعته في التفاوض، وسيكلفه السلطان العلوي بالشؤون الأوربية.. لكن طمعه الزائد أوقعه في ورطة بعد أن وشى به الأعداء إلى حاشية سيدي محمد بن عبد الله بكونه يستغل منصبه لسلب من هم أقل نفوذا ممتلكاتهم، وضبط وهو يتلقى رشاوى من التجار الأجانب الذين كانوا يرغبون في مقابلة السلطان، وفي الليلة التي كان يعتزم فيها مغادرة المغرب متخفيا في زي تنكري فارا إلى غينيا، تم اعتقاله، ويقال إن رجال المخزن وجدوا بمنزله ما لم يقووا على حمله من أموال وهدايا كان يبتز بها كل صاحب حاجة لدى السلطان أو راغب في مقابلته.
صامويل سومبال كان ذا شخصية قوية وعلى اطلاع واسع، تؤكد العديد من المصادر التاريخية أنه هو الذي أوحى للسلطان سيدي محمد بن عبد الله بالتركيز على الموانئ البحرية لأهميتها التجارية، وهو الذي خطط لجعل ميناء الصويرة أحد أهم الموانئ المغربية الذي شهد أكبر المبادلات التجارية، من جهة لضبط تمرد الجنوب، وأيضا لخفض الأطماع الأجنبية والاستفادة من الرسوم الجمركية والضرائب، وضمان استمرار إمدادات السلاح والذخيرة للمخزن، وضمان تقوية العلاقات الاقتصادية مع أوربا.. ودفع السلطان سيدي محمد بن عبد الله لاتخاذ الجديدة عاصمة لحكمه لقربها من ميناء الصويرة، القلب النابض للمملكة يومها.
ألقي القبض على صامويل سومبال ونقل إلى سجن سلا، لكن السلطان سيدي محمد بن عبد الله أحس بالفراغ من حوله ولم يجد شخصا بقدر ذكاء صامويل سومبال فأفرج عنه ليعود إلى خدمته من جديد، إلى أن قتل بدس السم في طعامه بطنجة عام 1782، وقد خلف فقده حزنا كبير لدى السلطان العلوي، يروي المؤرخ هوشت في كتابه «تاريخ الإمبراطور» أنه: «كثيراً ما وضعت وفاة صاموئيل سومبال السلطان في حالة من الحيرة والارتباك، لأنه افتقده كثيراً، ولم يستطع العثور على الشخص المناسب القادر على العناية بشؤونه، بالقدر نفسه من المثابرة والذكاء اللذين كان يتحلى بهما هذا اليهودي».
حاييم بن عطار الخياط رماه الحاكم في قفص أسود لم تفترسه
حاييم بن عطار هو أحد أحفاد موشي بن عطار الذي كان مستشارا لدى السلطان المولى إسماعيل ومكلفا بالعلاقات التجارية مع إنجلترا وجبل طارق، واتهم بقتل منافسه جوزيف ميمران وابنه وحفيده، ودفع سلطان المحكمة اليهودية لإدانته بجريمة القتل التي دبرها مستشارون من حاشية السلطان أغاظهم النفوذ اليهودي في البلاط الملكي.
فقد قدمت السلطات ادعاءات بشأن الميراث المستحق لحاييم بن عطار وزوجته، فتم سجن حاييم، ولم ينجه سوى اكتتاب باقي اليهود المغاربة لجمع الأموال اللازمة للإفراج عنه.. رحل حاييم بن عطار مباشرة إلى سلا، حيث تعلم تطريز الذهب والفضة مع الاستمرار في مهمته كحاخام، ونظرا لمهارته الصناعية، فقد طلب منه حاكم الرباط أن يطرز له ثوب الزفاف في فترة زمنية قصيرة، لكن حاييم أصر على أنه لا يستطيع تلبية طلب الحاكم في هذه الفترة الوجيزة، ورغم إغراءات حاكم الرباط، فإن حاييم أكد له أنه تعهد بتخصيص ساعة واحدة في اليوم للتطريز، فيما يقضي باقي الوقت في التعلم.. وبسبب هذا الرفض سيتم القبض على حاييم بن عطار والرمي به في قفص للأسود، تروي الحكايات اليهودية في هذا الباب أعاجيب أسطورية، تقول إن حاييم نجا بأعجوبة، لأنه كان يرتل المزامير لتهدئة الأسود، التي لم تمسسه بسوء، فأدرك ممثل السلطان بالرباط أن اليهودي حاييم ولي صالح ورجل مقدس، فأطلق سراحه وأغدق عليه الكثير من الهدايا لاسترضائه وليصفح عنه.
عندما أمر السلطان اليزيد بحرق المستشار الملكي اليهودي مردخاي شريكي
تعتبر مرحلة حكم السلطان اليزيد أكبر محنة في تاريخ اليهود بالمغرب الذي اتسم بالتعايش والتسامح وحماية السلطان الشريف للطائفة اليهودية.. فمباشرة بعد موت سيدي محمد بن عبد الله عام 1790، عمت الفوضى البلاد، وقاد ابنه اليزيد حملة اضطهاد غير مسبوقة ضد اليهود، فرض عليهم الضرائب وطردهم من فاس، وزرع جنوده الخراب والموت في العديد من المدن، واعتقل المولى اليزيد مستشار أبيه اليهودي مردخاي شريكي وأمر بحرقه حيا. لم يكن مردخاي شريكي مجرد مستشار للسلطان سيدي محمد بن عبد الله، بل كان صديقا مقربا ومثقفا حكيما، نزح من مراكش واستقر بالعاصمة مازاغان بالقرب من السلطان الشريف، لكن المولى اليزيد اعتقله وخيره بين اعتناق الإسلام والقتل، لكن زعيم الطائفة اليهودية، كما تقول بعض المؤلفات التاريخية: «سخر منه وتنبأ بموته المأساوي في وقت قصير»، وأوصى بأن يحرق في فرن الجير، وقد نجحت عائلته في الفرار بثرواته الضخمة إلى فاس.
بن مشعل: من ملك تازة إلى النهاية التراجيدية على يد المولى رشيد
آل مشعل عائلة يهودية عريقة بشرق المملكة، اشتهرت بثرائها ونفوذها التجاري واعتمد عليها الملوك المغاربة لعقود طويلة.. ولد هارون بن مشعل بوجدة وورث عن أسرته المجد والثروة والمكانة الاجتماعية في قلب البلاط السلطاني، كان يسكن القصور الفخمة ويتمثل بحياة السلاطين في مدينة تازة التي حول قصبته داخلها إلى حصون منيعة.. كان هارون مفتونا بالسلطة، خليعا وماجنا، يحيا حياة ملوكية.. في رحلات صيده وظهوره في الساحات العامة، كان يعتمد طقوسا احتفالية باذخة في استعراضه.. أحاط هارون بن مشعل نفسه بالخدم والحشم، والظهور بأزياء الملوك والسلاطين، لكن غواية السلطة وطغيان جبروته سيؤديان به إلى الهلاك بشكل مأساوي.. كان في البداية يعمل لفائدة السلطان على عهد مغرب مفكك بين السملاليين والدلائيين وقراصنة أبي رقراق، لكن مع نشوء الدولة العلوية سيتسع طموح هارون بن مشعل ليعلن نفسه حاكما على منطقة تازة، كانت له ابنة اسمها زليخة.. تقول المصادر التاريخية إنها كانت شابة مثقفة تتقن ألسنا عديدة مكنتها من أن تقوم بدور المترجم في لقاء أبيها مع القناصل والدبلوماسيين الأوربيين، وبلغ الأمر باليهودي الطاغية هارون أن أصبح يفرض الجزية والإتاوات على ساكنة تازة وتجارها، وينزع بالقوة النساء من حضن أسرهن، يحضر الغواني والحسان إلى قصره، يجلس جلسة الأمراء والسلاطين ويحتسي الماحيا في لهو وطرب محاطا بالغلمان والراقصات والماجنين من حاشيته، وفي الصباح يصبح جادا، يمتطي جواده ويمشي في حركة من الجنود، يجلد هذا وينتزع أرض هذا، ويخطف بنت هذه العائلة ممن لم تقو على تأدية الضرائب التي لم يعد يصل منها إلى خزينة الدولة سوى النزر القليل، وقد تمكن بفضل ثروته الهائلة من أن يشتري الأسلحة والعتاد وذمم الناس أيضا.. تقوى أعداء هارون بن مشعل حتى من اليهود التجار الذين تضررت مصالحكم بسبب طغيانه وتسلطه..
بلغ هذا الأمر المولى رشيد الذي كان قد بدأ في نشر نفوذه بسجلماسة معلنا قيام الدولة العلوية، وكان ينوي التوجه إلى قلب المملكة فاس للاستيلاء عليها لكن تنقصه الموارد والعتاد، ومع ما أخذ يصله من طغيان هارون بن مشعل الذي بسط نفوذه على تازة وكان ينوي توسيع حدود إمارته، استعان السلطان بطلبة في زاوية الشيخ الواطي الموجودة بمدينة تازة، وهو ما أصبح طقسا سنويا في المغرب يعرف باسم «عيد سلطان الطلبة»، الذي يعتبر أحد أشكال الطقوس المسرحية، حيث يحتفي الطلبة بسلطان منهم عدة أيام، إحياء لقصة القضاء على طاغية تازة اليهودي، فكانت نهايته على يد المولى رشيد، وفي ذلك تروى حكايات بعضها مليء بالخيال الأسطوري والتزيد، منها أن ابنة هارون بن مشعل سقطت في عشق مجنون لشاب مسلم دلته على طريقة سرية لدخول القصر ومكنته من أن يحضر بشكل سري مجالس وحفلات والدها ابن مشعل، مما مكنه من الإطلاع عن قرب على كل التفاصيل الدقيقة لحياته وقصره وحراسه، وكان العاشق ينقل أسرار القصر إلى المولى الرشيد العلوي الذي كان يمهد لتأسيس دولته.. وكان يخشى أن يسبقه ابن مشعل لاحتلال مدينة فاس، فبدأ بالتخطيط لقتله والاستيلاء على أملاكه، وفي رواية أخرى فإن المولى رشيد تقمص دور الفتاة المسلمة العذراء التي كانت ستهدى لهارون ابن مشعل، وأخفى أربعين من معاونيه في الصناديق المخصصة لنقل الهدايا للحاكم المستبد، وبمجرد أن وصلوا إلى قصره، انتفضوا انتفاضة رجل واحد وقتلوه، وصادروا أملاكه الكثيرة، وتذهب رواية أخرى بشكل مجمل إلى أن المولى رشيد دخل لوحده متخفيا إلى قصر هارون بن مشعل وفصل رأسه عن جسده.
وبعد مقتل ابن مشعل شكلت الأملاك الكثيرة التي تم نهبها عاملا حاسما في تجهيز جيش السلطان المولى رشيد العلوي الذي استرجع بها مدينة فاس وتقدم نحو وجدة، حيث هزم أخاه المولى محمد.
تاجر السلطان مايير مقنين: استولى على أموال المولى سليمان بادعاء إفلاسه فذاق الجحيم
تصلح سيرة اليهودي مايير مقنين لفيلم ميلودرامي طويل، لأنها تعج بالأحداث والوقائع الغريبة التي تبرز علاقة اليهود المغاربة بالسلاطين الذين توالوا على حكم الإيالة الشريفة، فبدهائه استطاع أن ينال الحظوة في قلب السلطان سيدي محمد بن عبد الله ويصبح تاجرا للسلاطين الذين جاؤوا بعده، حتى غدا مقنين على لسان النخبة التجارية وحاشية السلاطين لعقود طويلة.. يقول عنه الباحث الأمريكي دانييل شروتر: «أصبح مقنين في وقت قصير الوكيل الذي لا غنى عنه للمغرب في أوربا، وكان في وسع مقنين أن يتمتع بحرية أكبر في الحركة بأرض المغرب، مما كانت تتيحه في كثير من دول أوربا.. إن الحيز الأكبر من تجارة المغرب مع أوربا أصبح بيد مقنين».
سيلمع اسم مايير مقنين، كتاجر ألمعي ومستثمر ذكي في نهاية القرن 18، فبعد إحساس السلطان سيدي محمد بن عبد الله بأن عامل المخزن على ميناء أكادير الطالب صالح أصبح يستفرد بالأرباح والضرائب الناتجة عن المرسى دون السلطة المركزية، أغلق السلطان ميناء أكادير، وأصبح ميناء الصويرة الجديد هو محور المبادلات التجارية.. كان السلطان العلوي يحيط به وسطاء يهود كبار أمثال: مردخاي دي لامار، دافيدو إسحاق، لوردوزو وإلياهو ليفي ويعقوب عطال..
سيتحول مايير مقنين إلى أشهر تاجر يهودي بالصويرة، نجح في بناء علاقات قوية مع البلاط الملكي على عهد المولى سليمان، لقد أدرك بدهائه أن حفظ الثروة وتقوية الموقع الاقتصادي يقتضيان مظلة سياسية، هكذا وطد علاقاته التجارية مع الأوربيين، فكانت السبيل الذي جعله الممثل الشخصي للسلطان، كما تعكس ذلك رسالة من السلطان الشريف إلى عامله على أكادير الذي لم يكن سوى ابن أخ المولى اسماعيل، مما جاء فيها: «حيث يرد عليك ذمي خدمتنا الشريفة مايير بن مقنين، نأمرك أن تنفذ له داره ينزل ويعمرها بالتجارة… واستوص به خيرا وميزه عن تجار اليهود هناك، لأنه ذمينا ومتاعنا» (انظر كتاب الباحث الأمريكي دانييل شرودر «يهودي السلطان»).
أعطى السلطان الشريف مايير امتيازات عديدة، مقابل الحرص على جلب الأسلحة والذخيرة لحماية الإيالة الشريفة، لكن من يذوق من عسل السلطان عليه أن يجرب جرح سيفه أيضا، وهذا ما حدث، فبعد أن أصبحت جل تجارة المغرب الخارجية بيد مايير مقنين، منحه المولى سليمان أموالا طائلة لشراء الأسلحة والذخيرة التي كان المخزن في حاجة إليها لقمع القبائل المتمردة، لكن مقنين ابتدع خدعة إعلان إفلاسه التجاري واستحوذ على أموال السلطان، وهو ما جر عليه نقمة المخزن، فقد اعتقل عامل إقليمالصويرة وقاضي المدينة وأمناء الجمارك وأخ مقنين شلومو، وصادر المخزن سفنا قادمة من لندن باسم مايير مقنين..
ومع ذلك استمر مقنين، الذي كان يقيم في العاصمة البريطانية بعد الغضبة المخزنية، في تقديم نفسه كممثل للسلطان، حتى ابتكر خدعة، حيث أرسل أسدين من المغرب إلى الملك جورج الثالث، مدعيا أنهما هدية من السلطان الشريف، لكن البريطانيين سيكشفون خدعة مقنين الذي كان يسعى لتقديم نفسه كوسيط أوحد لا غنى عنه لدى الإنجليز.. لكن ما كل مرة تسلم الجرة، ففي عام 1808، رغب المولى سليمان في شراء السفينة البريطانية «آرثور» عبر وساطة مايير مقنين، لكنه غش في الصفقة، وحول جزءا من ثمن شرائها إلى حسابه الخاص، وساءت أحواله التجارية، فعجز عن إتمام الصفقة، فبعث القصر السلطاني إلى مايير مقنين برسالة كلها تهديد، مما جاء فيها: «إلى الذمي مقنين الكائن باللوندريز، كيف تسمح لنفسك أيها الساقط اللئيم والتافه الحقير، أنه توجه لك الأمر من سيدنا إلى بر النصارى لدفع نصيب من المال الموجود في ذمتك لسيدنا، وكان عندك أكثر منه بكثير، فمانعت عن الامتثال لأمر سيدنا، وحتى ولو تعلق الأمر بما هو أكثر من ذلك، فالواجب أن تدفع وتطيع أمر المقام العالي، ولو اقتضى ذلك رهن نفسك، فإن سيدنا يخلصك بعد ذلك، والآن عليك أن تدفع إلى وزير النكليز ما يطلبه، إما بسعر صرف اليوم، أو بسعر الصرف أيام بناء السفينة، ولا تتخلف عن ذلك طرفة عين».. وعاش بعدها سنوات عجافا مع المخزن، لكنه كان دوما يخلق الحاجة إليه ويعود أكثر قوة إلى البلاط السلطاني.