أما الناشط الحقوقي والسياسي المغربي «سيون أسيدون»، فإنه يؤكد، في معرض حديثه عن أصل اليهود في المغرب، ضرورة وضع هذا الموضوع في سياقه التاريخي، مميزا بين ثلاث مراحل، لكل مرحلة سماتها.. مرتفعاتها ومنخفضاتها: مرحلة ما قبل الإسلام، حيث تعايشت الطائفة اليهودية مع طوائف مسيحية رومانية، ومرحلة إسلامية، ومرحلة استقلال المغرب. بين الأمازيغ والرومان
مما لا شك فيه أن الوجود اليهودي في المغرب يمتد إلى ما يقرب من ألفي سنة، حيث دلت على ذلك نقوش وحفريات عثر عليها بالمآثر الرومانية بالمدن المغربية مثل «وليلي» و«ليكسوس»، حفرت فوقها حروف باللغة العبرية، لكن أساطير وقصصا أخرى في بعض المصادر القديمة اليونانية والإغريقية، أوردها ابن خلدون، تحكي عن مطاردة جيوش داود للكنعانيين، وجلائهم عن فلسطين، ووصولهم إلى ساحل الأطلسي بالمغرب. إنهم من أقدم الشعوب التي استوطنت أراضي المغرب. وبالعودة إلى الرواة والمؤرخين العرب، ومؤلفاتهم «الإسطوغرافية» العربية الإسلامية للعصور الوسيطة والحديثة والمعاصرة، مثلما هو الحال مع كتابات عبد الواحد المراكشي، وعبد الرحمان بن خلدون، والطبري وابن أبي زرع والفشتالي والإفراني، وأكنسوس، والناصري وابن الخطيب، فإن جماعات يهودية أمازيغية قاومت لفترة من الوقت الفتح الإسلامي لبلاد المغرب، وهو ما يفسر تقديم الكاهنة «داهية» التي وحدت قبائل الأمازيغ على أنها يهودية. تناقص عددهم بعد الفتح الإسلامي، حيث اعتبرت مصادر من التاريخ العبري أن بعض القبائل الأمازيغية اليهودية دخلت في الإسلام تحت الإكراه. تكتل اليهود المغاربة ونزوعهم نحو العزلة سيترك لهم هوامش للحفاظ على ثقافتهم وديانتهم ولغتهم القديمة، إبان الدولة الإدريسية. اندماجهم كان محدودا، لكن مصادر من التراث المغربي أشارت إلى أن إدريس الأول تحالف مع بعض اليهود في مواجهة الخليفة العباسي هارون الرشيد في الشرق، وتبقى انتكاستهم التاريخية الأولى بأرض المغرب أثناء حلول العصر الموحدي، الذي ستفرض فيه العقيدة السنية الموحدة بالقوة، ما سيؤدي إلى تعرضهم لبعض الاضطهاد الرسمي والشعبي. ويقول تقرير نشرته صحيفة «معاريف» الإسرائيلية في ماي سنة 2009 للصحافي «يميني بن درور»: «أسفر تولي سلالة الموحدين للسلطة عن سلسلة من المذابح الكبرى، حيث أفادت إحدى الشهادات التاريخية بأن مائة ألف يهودي ذبحوا في فاس، ونحو 120 ألفا في مراكش». المراجع العبرية، التي يصطلح على تسميتها ب«علم القبانة»، تقول: «هاجر اليهود الأوائل إلى هذه المنطقة (المغرب) بعد تدمير الهيكل الثاني في القدس، أما الموجة الثانية فقد هاجرت من شبه الجزيرة الإيبيرية في الفترة السابقة مباشرة بعد مرسوم الحمراء عام 1492، عندما تم طرد اليهود من ممالك إسبانيا والبرتغال». وهنا تبرز واحدة من أهم اللحظات التاريخية في سيرة اليهود المغاربة: سقوط الأندلس، فالفردوس المفقود كان فاجعة بالنسبة إلى المسلمين واليهود على حد سواء. يقول الباحث أمين الكوهن: »غالبا ما يحاول المؤرخون العبريون اعتبار اليهود أيضا ضحايا للاضطهاد الكاثوليكي في الأندلس، من قبل إيزابيلا وقساوستها، لكننا لم نتوصل إلى ما يدل على أن محاكم التفتيش كانت تستهدفهم». الباحث الأركيولوجي زكرياء العزوزي، في جوابه عن أصل اليهود المغاربة، قال: «هناك إيحاء حقيقي في أسماء الجنس اليهودي بالمغرب، فكلمة «مغورشيم»، تعني المطارد، وهم اليهود الذين بدؤوا يتوافدون على المغرب منذ سنة 1492 بعد طردهم من الأندلس، أما لفظة «تشاييم» فالمقصود بها الطائفة المحلية، وهي الأصلية التي تمتد إلى ما قبل الميلاد بقرون». الجلاء من الأندلس سيمكن اليهود من جلب تحضرهم وحسن تدبيرهم، واحتلال أغلبهم مكانة متميزة في المجتمع المغربي، منهم من دخل إلى الإسلام، ومنهم من حافظ على عقيدته الأولى، لكن مساهمتهم الحضارية والثقافية في جميع مناحي الحياة كانت بارزة، حيث أعادوا استنساخ المعمار الأندلسي، وقدموا معارفهم الفكرية في الطب والصيدلة، والموسيقى والطبخ، فلا يكاد يوجد منزل مغربي يخلو من أثر يهودي في الشكل أو في العادة. الأديب المغربي اليهودي الراحل، إدمون عمران المالح، في كتابه (الثقافة اليهودية بالمغرب)، يؤكد مسألة التلاقح والتأثير المتبادل، وينفي أن يكون قدوم اليهود إلى المغرب مؤثرا من جانب واحد. يقول المالح: »إن الطائفة اليهودية بالمغرب بعدما أثريت وطعمت بقدوم يهود الأندلس… حيث وجدت نفسها في الآن ذاته متجذرة ومتحصنة في أرض الإسلام، فامتزجت في نطاق كيان وطني متأصل في حدوده الترابية الاجتماعية والسياسية والدينية». »أرض الإسلام» كلمة موحية تقود نحو وضع اليهود القانوني والشرعي على هذه الأرض. إنهم الذميون أهل الكتاب، دماؤهم حرام وأموالهم حرام على المسلمين، وهم يعيشون في كنف الإمام/السلطان، ووفقا لقواعد النظام القانوني الإسلامي، كانت لهم محاكم قانونية منفصلة تتعلق ب«قانون الأحوال الشخصية»، والتي بموجبها يطبقون الشريعة «الموسوية»، وأحكامهم الشرعية المستنبطة من الفقه التوراتي ومن التلمود، والذي كان الفضل في إعادة إحيائه وتعليمه واستنباط الأحكام منه يرجع إلى يهودي مغربي يدعى «إسحاق الفاسي».
يهود القصور
الحضور اليهودي بالمغرب خلق مناخا ثقافيا جديدا انتبه إليه السلطان، خصوصا إزاء ما أبان عنه اليهود من قدرة على تدبير الخلاف، وسلمية وذكاء في التعايش داخل الأوساط المجتمعية المختلفة، فكانت بداية تقريبهم من قبل البلاط. يقول زكرياء العزوزي: «احتفظت الطائفة اليهودية بميزاتها الخاصة وعاداتها ونمط حياتها اليومي والسلوكي، وقد فضلت الاستقرار بالمدن الكبرى. لقد قدموا نموذجا حضاريا جعل السلطان يلتفت إليهم». وخلال بحث قدمته اليهودية المغربية «نيكول الزرفاتي» المتخصصة في التاريخ اللساني ليهود المغرب، تحاول المتخصصة في البحث في تاريخ اليهود في إفريقيا من خلال مركز دراسات إسباني، أن تثبت أن السلاطين الوطاسيين والسعديين والعلويين الذين تعاقبوا على حكم المغرب، على امتداد القرون الخمسة الماضية، اعتمدوا في مسائلهم المالية والتجارية والاستشارية على الخبرات اليهودية، رغم ما كان يشكله اليهود من أقلية في بلاد الإسلام (المغرب). بالرجوع إلى عدد من المصادر، نقف على عدد من الأسماء التي رافقت السلاطين، بل وكانت لها مساهمة واضحة في مسار بعض الممالك المغربية. أول يهودي مغربي برز اسمه بشكل واضح على عهد السلطان يوسف بن تاشفين هو «سليمان بن فاروسال» الذي كلفه ابن تاشفين بالعلاقات الخارجية. لقد لمس ابن تاشفين قدرة الرجل على التفاوض، ففوض له مسائل دبلوماسية، خصوصا أن الأندلس كانت تعج ببني عقيدته. سيغتال ابن فاروسال في إحدى معارك المرابطين، وسيرثيه شعراء البلاط المرابطي. في سنة 2002، سيظهر بحث بجامعة ستانفورد يحمل عنوان: «يهود السلطان.. عالم السفرديم بالمغرب»، لدانييل شرودر. هذا الكتاب سيقف كثيرا عند شخصيتين يهوديتين كان لهما أثر كبير في تاريخ الدولة العلوية، أحدهما هو «صامويل سومبال»، والثاني هو «مايير مقنين». الأول كان مستشارا دبلوماسيا للسلطان العلوي سيدي محمد بن عبد الله، والكاتب الرئيس في ديوانه، ويقال إنه هو الذي نبه السلطان إلى أهمية الموانئ البحرية، ودفعه إلى الاستقرار بالجديدة، لقربها من مدينة الصويرة، المدينة التي تعرف حضورا متجذرا لليهود المغاربة، ثم توفق ابن سومبال بعد ذلك في جعل الصويرة أهم ميناء في المغرب، ومركزا لإقامة كل القنصليات الأجنبية. جاكوب بنيامين، أحد أعضاء الجماعات اليهودية بطنجة، يقول: «منذ قرون والعالم يثق فينا وفي آرائنا»، بينما يرجع الباحث خالد بن الصغير، مترجم بحث «شرودر»، تمييز السلطان للصويرة، مدينة وميناء، إلى حرصه على التحكم في مداخيل التجارة في الموانئ الجنوبية، التي كانت تعرف حالات تمرد من طرف بعض العمال والنافذين السياسيين في الجنوب، كما هي حالة العامل «الطالب صالح» الذي استأثر لزمن بمداخيل ميناء أكادير، وقد جرى العرف السلطاني التجاري بإقراض التجار اليهود رؤوس الأموال اللازمة لتجارتهم، ولهذا كانوا يحملون صفة «تجار السلطان»، الذين يغذون الخزينة بمداخيل الرسوم الجمركية، كما كان يعول عليهم في تلبية حاجات المخزن من الأسلحة وباقي اللوازم. تجار السلطان كانوا يتمتعون ببعض الرخص والامتيازات، لكن عندما تتأزم الظروف يطالبهم السلطان بأداء القروض، وربما الزيادة من الأموال لضخها في بيت المال. «شرودر»، وهو ينقب في كنانيش تجارية قديمة من القرن التاسع عشر، سيجد حصرا لكل المواد التي احتكر اليهودي «مقنين» استيرادها إلى المغرب أو جلبها لدار المخزن خصيصا (النسيج، البن، الإبزار، السكر، الورق، قضبان الحديد)، وعندما سيصل الشاي الأخضر من الصين عبر إنجلترا، سيحتكر توريده اليهودي «مقنين»، فالمشروب الشعبي للمغاربة أدخله اليهود. بالرجوع إلى الوثائق السلطانية، نجد ظهيرا للسلطان مولاي عبد الرحمن مؤرخا في 22 صفر 1239ه الموافق ل28 أكتوبر 1823، ورد فيه: «اقتضى نظرنا الشريف الإنعام عليه بالوسق من أربعة من مراسينا، وهي العرائش ومزكان والدار البيضاء وآسفي، لأنواع السلع الآتية: القمح والثيران والغنم والدجاج والشمع والجلود والصوف، ولجميع الموسوقات من السلع الخارجة، وأمرنا بأن يتخذ نوابا عنه في جميع المراسي المذكورة، فيلزم على كل من يريد وسق السلع من تلك المراسي، الحصول منه على إذن بذلك، والتفاهم معه أو مع نوابه»، والمقصود بالمنعم عليه اليهودي «مايير مقنين»، كما أورد ذلك شرودر، هذا الظهير ليس سوى تتمة لظهير سابق أصدره المولى سليمان سنة 1809، السلطان الذي عرف بسياسة الاحتراز والحيطة من الغرب الأوربي، وخاض حروبا ضد إسبانيا والبرتغال، سيأتمن آل المقنين من خلال إصداره ظهيرا سلطانيا سنة 1809 موجها إلى محمد عبد الصادق عامل الصويرة، كتب إليه ما يلي: «نأمر وصيفنا الحاج محمد بن عبد الصادق أن يبقي التاجر ولد مقنين على ما اعتاده منا من المراعاة والتمييز عن غيره من أهل الذمة، لقيامه بوظائف خدمتنا الشريفة، واعتزازه بها.. فراع فيه هذا القدر، ولا تترك أحدا يسومه خسفا». الباحث أمين الكوهن يشير إلى مسألة أساسية، وهي أن اليهود المغاربة، فضلا عن مهامهم الرسمية المرتبطة بالسلطان، كانوا يقومون باستغلال ظرفية الحرب ضد الأيبيريين، والتي عرفت بالجهاد البحري، ويتولون الوساطة في عمليات افتداء الأسرى الفرنجة. هذا الوضع المتميز والمتقدم لليهود المغاربة يرجعه الباحثون في تاريخ اليهود، في أكثر من مرجع، إلى اعتبارهم جزءا من المجتمع اليهودي العالمي النافذ إلى بلاطات الحكام الأوربيين، والمتمركز في أهم مواقع التجارة البحرية آنذاك. كان القرن التاسع عشر قرنا عاش فيه اليهود المغاربة توهجا كبيرا، وتبوؤوا مواقع هامة داخل المجتمع والمخزن، حتى وصل الأمر بالسلطان الحسن الأول إلى كتابة رسالة إلى بعض ولاته يقول فيها: «إن الواجب يدعونا إلى احترام اليهود والدفاع عنهم، وأن نحمي حياتهم وممتلكاتهم وأن نحصنها.. وسأقف بنفسي ضد كل من اعتدى عليهم». لقد كان تحذيرا من السلطان لما لمس بعض الانحرافات الاجتماعية التي بدأت تظهر داخل المجتمع المغربي المسلم، وخصوصا نظرتهم الدونية إلى اليهود، ورغم أنه لم تشب هذه المرحلة أي اعتداءات جسدية، فإنه على المستوى الشعبي كان اليهود المغاربة في بعض المواقع يعانون نبذا اجتماعيا. لكن يبدو أن السلطان الحسن الأول كان يتنبأ بما سيحدث لليهود سنوات قليلة بعد وفاته، ففي بداية القرن العشرين بدأت أوضاعهم في التراجع، ولا سبب يجده المؤرخون سوى تراجع حركة التجارة اليهودية، وسيطرة الأوربيين الفرنسيين والإنجليز بالخصوص على موانئ المغرب، حيث سحب البساط من تحت أقدام اليهود. يقول «شرودر» في كتابه «تاريخ الصويرة»، الذي ترجمه إلى العربية الأكاديمي خالد بن الصغير: «إن الطائفة اليهودية في المغرب عرفت، في الفترة المعاصرة، أزمات سياسية واقتصادية مقارنة بمستوى وضعيتهم في القرن 18 والقرن 19، وذلك راجع إلى مساهمة نظام الحماية الفرنسية في تعجيل ظاهرة تردي أوضاع العديد من اليهود الذين كان مصيرهم وثيق الارتباط بالقصر والسلطان».
يهود المغرب المحتل
عندما دخلت الحماية الفرنسية والإسبانية إلى بلاد المغرب وجدت بلدا قروسطيا، متخلفا يعج بالتناقضات، وفي الآن نفسه مجتمعا يسوده نوع من التساكن، وبالنظر إلى الحضور اليهودي في المجتمع المغربي، يمكننا أن نقف على إسهامات هائلة ارتبطت بوجود الطائفة اليهودية فوق الأرض المغربية، وبحقيقة أدوارها داخل الدولة والمجتمع المغربيين لعهود طويلة، فقد كان منهم التاجر والصراف والطبيب والمستشار والحرفي والفلاح… وكانوا ينتظمون في إطار روابط جماعية مع باقي المكونات العربية والأمازيغية والأندلسية، من دون أن يؤثر ذلك في شيء على التساكن المتوارث تاريخيا بين مختلف تلك المكونات. الباحث والأكاديمي أسامة الزكاري: «الملاحظ أن هذا التجانس لم يتململ عن منطلقاته الراسخة إلا مع دخول الاستعمارين الفرنسي والإسباني إلى بلادنا في مطلع القرن 20. في هذا الإطار، سعى الاستعمار إلى تأجيج التناقضات الداخلية للمجتمع المغربي بتوجيه البحث المسمى «علميا»، الوظيفي المنزع، نحو تفكيك مكونات الجسد الواحد، والاهتمام بواقع «التنافر» القائم على تعارض الخصوصيات، وعلى تباين آفاق التعايش المشترك بين مغاربة المرحلة». وربما انتبه اليهود المغاربة المواطنون إلى هذا الفخ، وهو ما دفع «عزوز كوهين» إلى إصدار بيان ونداء إلى اليهود المغاربة باللغتين الفرنسية والعبرية، يحثهم فيه على تعلم اللغة العربية، قائلا في هذا النداء الذي أصدره سنة 1933: «المغرب الذي ولدتم فيه وتربطكم به أكثر من آصرة، لغته الرسمية هي العربية، إنها ليست فقط اللغة الرسمية إنها لغة آبائكم، واللغة المتداولة بيننا وبين مواطنينا.. يجب أن نتحرك عاجلا لتعلمها. إن اللغة العربية ستسمح لنا بتواصل أشمل وبتقدم معرفي واجتماعي أفضل.. من أجل هذا وجهت إليكم هذا النداء، تعلموا اللغة العربية وعلموها، فلا غنى لكم عنها»… عزوز كوهين سيتجاوز الدعوة إلى تعلم اللغة العربية، إلى فرضها في المدارس اليهودية، واعتبار الفرنسية لغة للتفرقة بين المغاربة، ثم سينحو إلى توجيه نداء للتوحد مع المسلمين المغاربة ضد الحماية. لكن الكاتب المغربي اليهودي، إدموند عمران المالح، له رأي آخر في هذه المرحلة. يقول: «بمجرد إبرام اتفاقية الحماية، فتحت العصبة اليهودية المدارس في المدن الكبرى، لكن بدت هذه العصبة كمؤسسة خاصة، كان ارتباطها وثيقا بأجهزة الدولة، وبالدائرة الحكومية الفرنسية، فاستقلالها الذاتي، شكلي فقط، وهو يخفي سياسة امبريالية تحت غطاء العمل التحرري والتقدمي والحضاري». في عام 1941 أنشئت في فرنسا الكولونيالية لجنة عامة بخصوص المسألة اليهودية، تحت قيادة «كسافيير فالات»، لتطبيق وتنفيذ قوانين معادية للطوائف اليهودية. وقد كان هذا جزءا من بدء العمل بتشريع «فيشي» القاضي بمعاداة السامية من قبل الحكومة الفرنسية، التي كانت تخضع لألمانيا النازية، وتداعت تطبيقات هذا القانون العنصري على يهود شمال إفريقيا التي كانت تحتلها فرنسا، فمنع اليهود من جميع امتيازات المواطنة كالشغل والعمل أو الانتماء إلى الجندية، بل تم منعهم حتى من التجارة. وقد طبق هذا القانون بشكل أكثر حدة في الجزائر، لكن، الباحثة في جامعة ستانفورد الأمريكية، سارة سوسمان، ترى أنه «عكس الجزائر، كان اليهود في المغرب وتونس يعرفون على أساس انتمائهم الديني. هذا التمييز أتاح لمؤسسات المجتمع اليهودي استقلالية أكبر، خففت بعض الشيء من أثر القوانين المعادية لليهود، وتم السماح لليهود بتقلد المناصب داخل مجتمعاتهم. وهذا لم يمنع من وجود بعض الانفلاتات، ففي المغرب، تم إجبار اليهود الذين انتقلوا إلى الأحياء الحضرية الأوربية على العودة إلى الأحياء اليهودية التقليدية المعروفة باسم ملاح». السلطان محمد بن يوسف سيكون له موقف حاسم من تشريعات «فيشي»، فقد اعتبر أمير المؤمنين وحامي أهل الذمة هذه القوانين التي تميز بين رعاياه على أساس العرق مرفوضة، وأعلن على الملأ رفض تطبيقها، غير أن البلاد كانت بدأت تتحول نحو الاعتداء على اليهود والتحرش بهم، تارة عن طريق المغاربة المسلمين، وتارة عن طريق المعمرين الذين تأثروا بصعود اليمين المتطرف إلى الحكم في فرنسا. في تقرير نشرته وكالة الأنباء الفرنسية صيف 1941، جاء التأكيد الرسمي من فرنسا أن الملك محمد بن يوسف يجاهر بعدم الامتثال لقوانين «فيشي» وتشريعاتها العنصرية، فكان رد الملك بأن أقام حفلا بمناسبة عيد العرش استدعى إليه رجالات الإدارة الفرنسية، وشخصيات بارزة، ولأول مرة سيقوم السلطان بدعوة أعضاء من الجماعة اليهودية المغربية، وأجلسهم في أبرز المواقع بجانب الضباط الفرنسيين، وعندما أظهر الضباط الفرنسيون دهشتهم وامتعاضهم من ذلك، توجه محمد الخامس إليهم بالقول: «لا أعترف بالقوانين الجديدة المعادية للسامية، وأرفض الانصياع لشيء لا أقبله، وأؤكد أنه مثل العهد السابق، فإن اليهود سيبقون تحت حمايتي، لأنني أرفض أي تفرقة يمكن أن تتم بين أفراد شعبي». بعد هذا الحدث سيستقبل محمد الخامس في سنة 1942 بالقصر الملكي بالرباط ممثلين عن يهود، وصرح لهم بأنه لا يفرق بينهم وبين المواطنين المغاربة المسلمين، وهو ما ستبادر الطائفة اليهودية المغربية إلى تبليغه للمؤتمر العالمي اليهودي بنيويورك في السنة نفسها.
الهجرة إلى أرض الميعاد
لقد ظل الملك محمد الخامس يرفض دائما عملية تهجير اليهود المغاربة نحو إسرائيل، وهو ما نشرته سنة 1948 النيويورك تايمز حين كتبت: «سلطان المغرب يعارض ذهاب اليهود إلى إسرائيل». لقد استوعب الملك أن نشاط الدعاية الصهيونية، وما كانت تروجه تحت مسمى «نداء الرب» أو «وعد الله»، سيؤثر بشكل كبير على النفسية الجماعية ليهود المغرب، خصوصا مع الاضطهاد الشعبي الذي بدأ يتنامى ضدهم عقب احتلال فلسطين سنة 1948، حيث أدت الأحداث التي شهدها العالم العربي في تلك الفترة إلى خلق البلبلة في صفوف يهود المغرب، انضافت إليها أحداث وجدة وجرادة وهي المذبحة التي وقعت في 07-08 يونيو، 1948، أي أياما بعد الاحتلال الصهيوني لفلسطين، حيث قتل في تلك الأحداث 42 يهوديا، وأصيب ما يقرب من 150 يهوديا على أيدي المغاربة المسلمين في رد فعل على احتلال فلسطين. الهجرة ستتضخم قبيل سنة 1950، إلى أن صدر حظر رسمي من قبل الحكومة المغربية. ومع ذلك، تواصلت الهجرة بشكل سري. وفي سنة 1956، سينال المغرب استقلاله، وعاد الملك محمد الخامس ليؤكد مواقفه من اليهود المغاربة، فمنح حقوقا سياسية لليهود، وكان أول خطاب صرح فيه بأن اليهود المغاربة مواطنون كاملو المواطنة، وتوج ذلك بتعيينه لليهودي بنزاكين في حكومة امبارك البكاي، وأصدر أوامره بتوقيف الهجرة، حيث توقفت عملية تسهيل إعطاء الجوازات لليهود المغاربة، ولكنها لم تمنع كليا. الباحث المتخصص في تاريخ اليهود بالمغرب، أمين الكوهن، يعتبر أن العملية تمت بشكل واسع مباشرة بعد وفاة محمد الخامس، إذ تم إنشاء مكتب مخصص لجوازات سفر اليهود، وسقطت مقاومة الوطنيين اليهود لمسألة التهجير، بعد أن أصبح القانون يتيح عملية التهجير بتسهيل إعطاء الجوازات لليهود المغاربة، يقول الكوهن: «كانت هناك جوازات جماعية تمنح لليهود المغاربة». الباحث والصحافي، جامع بيضا، يقف عند مرحلة التهجير، محملا المسؤولية للدعم الغربي الذي رعى عملية مغادرة اليهود نحو إسرائيل، يقول بيضا: «غداة الحرب العالمية الثانية، خضع المغرب والعالم لمناخ سياسي جديد تصاعدت فيه الدعاية الصهيونية تحت تأثير مستجدات الشرق الأوسط، أهمها ميلاد دولة إسرائيل سنة 1948. وكان هم الدعاية الصهيونية، التي اشتد عضدها بفعل الدعم الغربي، خاصة من الولايات المتحدةالأمريكية، هو العمل بكل الوسائل على تهجير اليهود إلى «أرض الميعاد». وقد أوكلت هذه المهمة في المغرب منذ أبريل 1949 لجهاز صهيوني يحمل اسم «كاديما» (إلى الأمام) راهن على الأزمة المغربية-الفرنسية وعلى تداعيات أحداث الشرق الأوسط، وعلى اتجاه المغرب نحو «مستقبل مجهول» في ظل الاستقلال لكي يقتلع اليهود المغاربة من أرض أجدادهم، فتصاعدت هجرتهم إما إلى إسرائيل أو إلى بعض الدول الأوربية (خاصة فرنسا) أو إلى الولايات المتحدةالأمريكية وكندا. وبالرغم من إقدام الحكومة المغربية على حظر نشاط «كاديما» في يونيو 1956، فإن عملية الهجرة (أو التهجير أحيانا) لم تزد إلا عنفوانا بمرور السنين، فانتقل عدد سكان المغرب من اليهود من 250000 نسمة سنة 1948 إلى 160000 سنة 1960 إلى 40000 سنة 1967 إلى أقل من 4000 اليوم». في 10 يناير 1961، ستغرق سفينة «إيغوز» التي كانت تحمل على ظهرها 44 مهاجرا يهوديا على الساحل الشمالي للمغرب، قبالة شاطئ الحسيمة. العملية سيشيع صداها عالميا، وهو ما خلق ضغطا كبيرا على السلطات المغربية والمؤسسات الصهيونية على حد سواء. ثم جاءت عملية «ياشين»، التي أشار إليها كتاب «يهود الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في العصر الحديث»، لكل من سيمون ريفا ومايكل لازكيير وسارة ريكير جاء فيه: «كانت عملية Yachin عملية منظمة لهجرة اليهود المغاربة سرا إلى إسرائيل، وهي العملية التي أجراها الموساد الإسرائيلي بين نوفمبر 1961 وربيع 1964. حيث غادر حوالي 80.000 يهودي مغربي نحو إسرائيل على متن الطائرات والسفن انطلاقا من الدار البيضاء وطنجة عبر فرنسا وإيطاليا. وقد حظيت العملية أيضا بمساعدة هامة من الجنرال فرانكو حاكم إسبانيا. ومع ذلك، استقر بعض اليهود في فرنسا وكندا والولايات المتحدة بدلا من إسرائيل. وقد تلقى المغرب تعويضات مقابل تسهيل العملية». يقول أمين الكوهن: «كان شيمون ليفي يعتبر أن عملية الهجرة تمت بيعا وشراء، وقد أسر لي بأن ثمن اليهودي المغربي ارتفع من 25 دولارا للشخص إلى 250 دولارا، وقد رحل وزير مغربي آنذاك إلى سويسرا لقبض الثمن». في ماي 2001، وخلال حوار أجرته معه صحيفة le journal، قال المناضل السياسي أبراهام السرفاتي، عن ذكرياته عن مرحلة ما بعد الاستقلال: «أثناء الاستقلال أكدت الطائفة اليهودية، برئاسة الدكتور بنزاكين، لصاحب الجلالة محمد الخامس أنهم يسخرون جميع طاقاتهم لتنمية الوطن، ولكن مع الأسف تعرض هذا العزم لنكسة منذ ماي 1960، كما أن الحركة الصهيونية في هذه الفترة عرفت أنشطة مكثفة وجادة ومتميزة في مختلف الأقطار العربية، ما أدى باليهود المغاربة إلى الهجرة من أجل التنعم بجنة إسرائيل». في حرب 1973، ستعود الدعاية الصهيونية لتنشط بالمغرب، لكن من مصادر خارجية، حيث خلق جو من الرعب داخل الأوساط اليهودية المغربية، وقد حاولت بعض الجهات الصهيونية ترويع المغاربة اليهود، وإيهامهم بأن المسلمين سيضطهدونهم ويعتدون عليهم، وكانت هجرة أخرى، لكنها لم تركز بشكل كبير على إسرائيل، حسب الباحث زكرياء العزوزي. مباشرة بعد حرب أكتوبر سنة 1973، تلك الحرب التي أرعبت قيادة إسرائيل وأحدثت رجة اجتماعية وسياسية كبيرة هناك، نشرت الصحافة الإسرائيلية والأمريكية تقارير تفيد بأن معظم المغاربة اليهود داخل إسرائيل يعيشون في ظل ظروف اقتصادية صعبة أدت إلى مجاهرة الكثيرين منهم بفكرة العودة إلى المغرب، خصوصا مع وجود عاملين أساسيين، أولا أن المغرب مازال يشكل أكبر تجمع لليهود في البلدان العربية، والعامل الثاني يتمثل في أن الجنسية المغربية لا تسقط لأي سبب كان. منظمة التحرير الفلسطينية ستحاول استغلال هذا الوضع، وسيطلب ياسر عرفات آنذاك من الملك الحسن الثاني أن يوجه نداء إلى المغاربة اليهود بالعودة إلى وطنهم، وبالرغم من أن الملك الحسن الثاني لم يوجه ذلك النداء بالنظر إلى السياقات المتوترة في الشارع العربي آنذاك، لكنه في مطلع الثمانينات سيطلب من رعاياه اليهود في إسرائيل الابتعاد عن تكتل الليكود المتطرف، وكان من بين أشهر زعمائه وزير الخارجية الأسبق ديفيد ليفي، وهو يهودي مغربي لايزال منزله قائما في حي السويقة بالرباط.