عرضت هذا الكتاب الأمريكي القيم منذ قرابة عشر سنوات؛ وقد بدا لي اليوم، في سياق بعض الانتقادات المغرضة، الداخلية والخارجية، الموجهة للمملكة المغربية – التي لم تزد على تجديد العهد مع مواطنيها اليهود، وهي تعترف بدولة إسرائيل- أن أعاود التذكير به، باعتباره مصدرا بحثيا أكاديميا وأجنبيا يرْسم – من خلال آل مقنين – الإطار العام للنشاط الاجتماعي اليهودي بالمغرب؛ خصوصا التجاري. قراءة مفيدة وممتعة. تقديم: "اقتضى نظرنا الشريف الإنعام عليه بالوسق من أربعة من مراسينا؛ وهي العرائش ومزكان والدار البيضاء وآسفي؛ لأنواع السلع الآتية: القمح والثيران والغنم والدجاج والشمع والجلود والصوف، ولجميع الموسوقات من السلع الخارجة؛ وأمرنا بأن يتخذ نوابا عنه في جميع المراسي المذكورة؛ فيلزم على كل من يريد وسق السلع من تلك المراسي، الحصول منه على إذن بذلك، والتفاهم معه أو مع نوابه……". -من ظهير للسلطان مولاي عبد الرحمن، مؤرخ في 22 صفر 1239ه الموافق 28 أكتوبر 1823- *من يكون هذا اليهودي المغربي، الذي نال كل هذه الحظوة التجارية؟ *وكيف ارتقى ديبلوماسيا ليصبح "قنصلا، وسفيرا للسلطان لدى جميع الأمم المسيحية"؟ *كيف يختزل الرجل الحضور الاقتصادي الكثيف لليهود المغاربة، السفرد، ما بين القرنين الثامن عشر والتاسع عشر؟ دانييل شروتر خير من يجيب: Daniel J.Schroeter أستاذ للتاريخ المعاصر في جامعة "مينيسوتا" بالولايات المتحدةالأمريكية؛ ويحمل بحثه الأكاديمي القيم عنوان: يهودي السلطان: المغرب وعالم اليهود السفرد: The sultan's jews :morocco and the sephardi word Stanford University press ;Stanford,California 2002 وقد ترجم الكتاب، إلى العربية، الأستاذ خالد بن الصغير، أستاذ التاريخ المعاصر، بجامعة محمد الخامس. وصدرت طبعته الأولى عن نفس الجامعة: دار أبي رقراق للطباعة والنشر، الرباط: 2011 تألق نجم آل مقنين داخليا: كنية "مقنين" -وهي تسمية عرف بها في المغرب طائر الحسون الجميل- كانت تطلق على والد "ما يير بن ابراهام كوهين" موضوع الدراسة. ولد الابن بمراكش، في ستينيات القرن الثامن عشر؛ وحمل مع إخوته اسم "أولاد مقنين". بيد أن الأسرة انتقلت إلى الصويرة، ضمن أسر يهودية أخرى اختارها -بتكليف من السلطان سيدي محمد بن عبد الله- الديبلوماسي والكاتب الرئيس في الديوان، صماوئيل سومبال. كان هدف السلطان من هذه العملية هو الارتقاء بميناء الصويرة ليصبح الميناء الرئيسي في المغرب؛ وجعل المدينة مركز استقطاب للأنشطة التجارية الأجنبية، ومقر إقامة لكل القنصليات. يذكر الباحث أن تمييز السلطان للصويرة، مدينة وميناء، نابع من حرصه على التحكم في مداخيل التجارة في الموانئ الجنوبية؛ خصوصا وقد عرفت حالات تمرد، من طرف بعض العمال والنافذين السياسيين في الجنوب؛ كما هي حالة العامل الطالب صالح الذي استأثر لزمن بمداخيل ميناء أكادير. وقد جرى العرف السلطاني التجاري بإقراض التجار اليهود رؤوس الأموال اللازمة لتجارتهم؛ ولهذا كانوا يحملون صفة "تجار السلطان"، الذين يغذون الخزينة بمداخيل الرسوم الجمركية؛ كما كان يعول عليهم في تلبية حاجات المخزن من الأسلحة وباقي اللوازم. وحينما يعم الركود، وتهزل المداخيل يطالب التجار بتسديد ما في ذممهم من قروض سلطانية. ومن الأسماء اليهودية التي برزت، إلى جانب آل مقنين: سالومون صباغ، حاييم كدالة، ومرخاي دي لامار وبوجناح… بخصوص تفاصيل المعاملات التجارية لآل مقنين بالمغرب، يستثمر الباحث العديد من الوثائق وبصفة خاصة كناشين تجاريين للأخوين مقنين؛ ويصل إلى حصيلة دقيقة تعطي صورة صادقة عن الأنشطة التجارية لليهود المغاربة السفرد في أوائل القرن التاسع عشر. شملت الواردات المنسوجات السكر، البن، الإبزار، قضبان الحديد، الصلب، القصدير، الشبة، الورق والسكاكين…. "وفي العقود اللاحقة وصل الشاي الأخضر من الصين عبر إنجلترا، ليصبح مشروبا للجماهير، وليكون واحدا من أهم السلع المستوردة من طرف التجار اليهود" ص: 31. وتشكلت السلع التي كانت تصدرها "دار مقنين" من جلود الماعز، البقر، اللوزن التمر، الصمغ العربي، صمغ السندروس، ريش النعام والشمع… لقد استفاد مقنين دوما من عطف السلطان وحمايته وكان حريصا على أن تظل روابطه بالمخزن عموما على أحسن ما يرام: يرد في ظهير سلطاني موجه سنة 1809الى محمد عبد الصادق عامل الصويرة ما يلي: "نأمر وصيفنا الحاج محمد بن عبد الصادق أن يبقي التاجر ولد مقنين على ما اعتاده منا من المراعاة والتمييز عن غيره من أهل الذمة؛ لقيامه بوظائف خدمتنا الشريفة واعتزازه بها. فراع فيه هذا القدر ولا تترك أحدا يسومه خسفا". وكان لهؤلاء اليهود نشاط آخر يدر عليهم أموالا طائلة: يتعلق الأمر بدور الوساطة لافتداء الأسرى الأوروبيين الذين يتم أسرهم؛ سواء خلال أعمال القرصنة أو كنتيجة لجنوح مراكبهم إلى السواحل المغربية؛ خصوصا ما يقع منها جنوبالصويرة، وكان يعتبر خطيرا. الامتدادات الخارجية لتجارة "آل مقنين" يقول الباحث: "شكل أعضاء النخبة اليهودية جزءا من هذا المجتمع العالمي المتعدد الأجناس والملل؛ المهتم بالتجارة الخارجية، والمطلع جيدا على أحوال أوروبا. وكثيرا ما كان للتجار اليهود ممن تاجروا مع أمستردام وليفورنو ولندن ومرسيليا، أقارب من عائلاتهم يقيمون في هذه المراسي الأوروبية". وقد شكلت "ليفورنو"- وهي واحدة من أهم الشركاء التجاريين للمغرب في القرن الثامن عشر- مركز استقطاب للتجار اليهود المغاربة، خصوصا التطوانيين؛ موسعين عبرها شبكاتهم التجارية التي كانت قائمة على ما يسمى "الاستثمار في الهيبة"، للمحافظة على دعم السلطان المادي والمعنوي وعلاقات المصاهرة، كوسيلة للرقي داخل مجموعة اليهود المغاربة السفرد. لم ترتبط ليفورنو بالمغرب تجاريا فقط؛ بل ثقافيا أيضا؛ إذ كان هناك تبادل على مستوى الأحبار والدراسات الحاخامية؛ ووصلت الكثير من منشورات ليفورنو اليهودية إلى المغرب. بعد الاحتلال الفرنسي لليفورنو وركودها اقتصاديا، حدثت هجرة معاكسة كان من نتيجتها وصول عدد من التجار والعمال اليهود إلى سواحل شمال إفريقيا. "كانت لآل مقنين علاقات تجارية وثيقة مع ليفورنو، إذ كانوا يرسلون منها حمولات من السلع ويستقبلون فيها أيضا مواد أخرى… وقد أصبحت (بليدة) شقيقة ما يير مقنين، زوجة لهارون عمار؛ المتحدر من أسرة يهودية ليفورنية ذات أصول جزائرية…." (ص:133) إلى جانب ليفورنو حل عدد من اليهود المغاربة بجبل طارق -سواء كمستقر أ ومنطلق صوب وجهات أخرى- مما أغضب الإنجليز، متذرعين بتسبب المهاجرين في غلاء الأسعار، واحتلالهم لأفضل المساكن.. ورغم اتفاقية أوترخت بينها وبين إسبانيا، التي نصت على منع هذه الهجرة، لم يغادر اليهود الصخرة لأنهم يعرفون كيف يجعلون وجودهم ضروريا بل حيويا. سنة 1725 كان بالصخرة 111يهوديا؛ 77في المائة منهم قدموا من المغرب. لم يكن ممكنا لهؤلاء اليهود الدخول إلى إسبانيا لأن محاكم التفتيش ظلت قائمة تطاردهم؛ ولم يرتفع المنع إلا في منتصف القرن التاسع عشر. وقد سارت البرتغال على نفس النهج. (قارنوا مع تسامح المغرب وانفتاحه على جميع الجنسيات). مايير مقنين يحل بلندن: بتاريخ 26 يوليوز1799، أبحر مقنين إلى لندن، منطلقا من الصويرة على متن السفينة أورورا. وبحلوله بها باعتباره ممثلا لمصالح السلطان التجارية، إضافة إلى أنشطته الشخصية، يكون مقنين قد ارتقى إلى نادي كبار التجار اليهود السفرد بالعاصمة الإنجليزية. لعل مغادرة مقنين للمغرب أنجته من وباء الطاعون الذي أهلك وقتها، خلقا كثيرا بالمغرب، بمن فيهم العديد من رجال الدولة، وقادة الجيش. ولم تسلم النخبة اليهودية التي ظلت بالصويرة وضمنها صهره. يقول شوبرومونت، النائب القنصلي الهولندي بطنجة: "توفي مايير بنطو بوم فاتح أكتوبر في حالة يرثى لها من الوباء؛ وكانت زوجته وابنته البكر مريضتين جدا، فتحدث الناس عن ضياع تام لهذه الدار. وفقد السيد فوكسكفروت ابنتيه التوأم، نتيجة لقسوة المرضعتين اليهوديتين اللتين تركتاهما عرضة للإهمال؛ لكنهما لقيتا جزاءهما إذ أصبحتا الآن في عداد الموتى…. وعند هلاك السيد بنطو فقدت ابنته التي تزوجها مايير مقنين صوابها..". روح المغامرة وحتى الإخلال بالالتزامات، من طرف مقنين جعلاه يواجه مشاكل عديدة؛ سواء في علاقته بالسلطات الإنجليزية أو في ارتباطه بالمخزن المغربي. فخلال سنتي 1801 و1802 كان موضوع مراسلات عديدة بين القنصل البريطاني في طنجة والسلطات في لندن؛ تبعا لحجز السلطان مولاي سليمان لسفينتين له بمرسى الصويرة. وتكشف مراسلات أخرى عن تورط مقنين في المتاجرة لحسابه، بأموال أمنه عليها السلطان. وتورط معه أخوه شلومو مقنين، وعامل الصويرة وأمناء الجمارك بمرساها؛ مما جر عليهم غضب السلطان ودخول السجن. ترتب عن هذا عدم وفاء مقنين بالتزاماته التجارية في لندن، مدعيا الإفلاس التام. في محاولة لاستعطاف السلطان، حتى يستعيد مقنين مكانته، ويؤدي ما في ذمته لبعض التجار؛ وجه هؤلاء ملتمسا يقولون فيه: "مهما كان الباعث وراء إقدام مقنين وأسرته التعيسة الحظ، على إثارة الاستياء لدى حضرتكم السلطانية، فإن حكمة جلالتكم ورحمتكم وسعت كل ذلك. لكنه مهما كانت الأحوال، لا يحق السماح بمعاناة الأبرياء وبأدائهم الثمن عن أخطاء يشتبه أو يصح حقا ارتكابها من الآخرين. وعليه فإننا نلتمس من فضل جلالتكم أن تفرجوا عنا هذه الكربة…". بعد هذا سيتقدم مقنين بطلب العفو، وسيستجيب له السلطان باعتبار أنه استوفى ديونه من السفينتين المحجوزتين، وسيعود التاجر اليهودي إلى المغرب لمواصلة أنشطته التجارية، سواء الشخصية أو التمثيلية؛ أما تجار لندن فلم تدعمهم حكومتهم بما يكفي لاستعادة حقوقهم؛ حفاظا على مصالحها المشتركة مع المخزن. إن ما خلفه مقنين من ديون في لندن وغيرها من العواصم الأوروبية جعل السلطات الإنجليزية تعترض على تعيينه سفيرا لديها، في أواخر سنة 1826، من طرف السلطان المولى عبد الرحمن؛ الذي وضع من ضمن أولوياته تنشيط التجارة مع الخارج. أصر السلطان على اختياره فسافر مقنين إلى لندن في آخر مهامه الديبلوماسية. آخر أيام ما يير مقنين: يرجح الباحث أن مقنين عاد من إنجلترا إلى المغرب سنة 1833، واستقر في مسقط رأسه مراكش؛ حيث قضى السنتين الأخيرتين من حياته. ويستفاد من شهادة عدلية أنه توفي يوم 3غشت 1835/9أف5595، حسب التقويم العبري. لم يخلف آل مقنين ورثة ذكورا معلومين، بالمغرب لمؤسساتهم التجارية؛ أما أبناء مسعود مقنين فقد استقروا ببريطانيا وقطعوا كل صلاتهم بالمغرب. وبقدر ما ترك مايير مقنين ممتلكات كثيرة، خصوصا في الصويرةومراكش؛ ترك أيضا الكثير من الدائنين الأجانب؛ كما ترك مدينين كثر بالصويرة. وحفاظا على ذكرى مقنين، واعترافا بالخدمات التي أسداها للمخزن، سيكلف السلطان المولى عبد الرحمن، بموجب ظهير، التاجر اليهودي هارون عمار بوجناح لتحصيل كل ديون مقنين، الواجبة له، دون أي ذكر لدائنيه الأجانب. أما الحظوة والمكانة المرموقة لآل مقنين بالمغرب فقد ورثتهما "بليدة" الابنة الوحيدة لمايير مقنين. يورد البريطاني ريتشاردسن، وهو ناشط في الحملة ضد الاسترقاق؛ وقد أقام بالصويرة سنة 1843 ما يلي: "كان والدها شخصية كبيرة في البلاط، أيام الأباطرة السابقين، وأكبر تجار زمانه؛ ومثلت بوصفها أرستقراطية بين ذويها مقام (أشتوريت) الحديثة، في تشفعها بين السلطان وأهل بلدها. هذه السيدة هي المرأة الوحيدة، من سكان البلاد، المسلمات أو اليهوديات، التي لديها من اللباقة، أو ما يكفي من الشجاعة، للكلام مع الإمبراطور، لتعرض طلبها بصوت صامد، لا تعثر فيه؛ تحت الظل الرهيب للحضرة الشريفة…". كتاب لا غنى عن قراءته: أعتبر أنه أحسن ما عدت به من المعرض الدولي الأخير للكتاب؛ من حيث موضوعه ومنهجيته؛ وترجمته الراقية إلى العربية. إن معرفتنا بمواطنينا اليهود ظلت دوما قاصرة تنحصر في أسماء مشهورة؛ ولم يحدث معي، شخصيا، أن غصت في عمق الحياة المغربية لليهود؛ كتجار وكديبلوماسيين وكعائلات متمركزة أو منتشرة في أرجاء العالم الخارجي. في هذا الجانب أشبعت هذه الدراسة الأكاديمية نهمي. من حيث المنهج لم يدخر الباحث جهدا في الترحال، واستثمار كل الوثائق بكيفية تجعل الكثير من أكاديميينا وطلبتنا يعيدون النظر في التعامل مع الوثيقة واستنطاقها. أما الترجمة؛ وهي من متخصص كبير، فيها وفي التاريخ، فقد بدت لي راقية جدا. كل رجائي أن أكون قد وفقت في حمل القراء على قراءة الكتاب؛ وليس على الاكتفاء بقراءتي له.