هذه الحكاية الرائجة حول التغاضي عن الأيديولوجيا واعتبارها غير ذات أولوية من منطلق أن الأولوية اليوم هي للصراع ضد التحكم… أقول، هذه الحكاية هي حق أريد به باطل. لربما ينطوي الترويج لهذه الحكاية في أسوأ الأحوال على ما أصبحت توحي به هذه الكلمة من بعد قدحي ومن شحنة سلبية مؤداها أن زمن الأيديولوجيات قد ولى وألا صوت يعلو اليوم على صوت البراغماتية السياسية حيث الليبرالية واقتصاد السوق أتى على الأخضر واليابس وأردى الأيديولوجيا جثة هامدة حتى لدى أعتى التجارب وأقواها عالميا والتي أقامت منظومة أيديولوجية متكاملة كالشيوعية مثلا. وقد يخفي الترويج لهذه الحكاية كذلك وفي أحسن الأحوال، وعلى الرغم من الاعتراف بوجود هذه الأيديولوجيات، الحرص على تجنب المواجهة بينها بالنظر لكون بعضها يعيش اليوم حالة كمون وركود وعدم الاستعداد لخوض المعركة. أن ينحاز مروجو هذه الحكاية إلى البراغماتية في لحظة انتخابية بهدف التأثير فيها هو أمر مفهوم… غير أن هذا لا يعني الانطلاق في ذلك من تحييد الصراع الأيديولوجي والتقليل من أهميته. فما يجب التذكير به هو أن مختلف أطراف الصراع تنطلق من ايديولوجية محددة ومضبوطة ولو اتخذ البعض منها صبغة دينية بطابع قدسي سماوي. والجدير بالذكر أن بريق الأيديولوجيا(أقصد تحديدا الخلفية الفكرية المقاومة للتشابه والاطمئنان الفكري والبرناماجي) قد يخبو في لحظة من لحظات الشعوب… غير أنه لابد من الانتباه إلى أن الأمر يتعلق بالتجارب التي رسخت قدم الديمقراطية ووضعت أسسا متينة لمؤسساتها ونشرت ثقافتها وقيمها وساعدت على تقوية تعبيراتها المختلفة من صحافة ومثقفين ومجتمع مدني، وهو ما يجعلها تنهض بقوة كلما شعرت بالخطر يداهمها في لحظات هبوب رياح عاتية أو المرور بأزمة… في مثل هذه اللحظات، تلتئم القوى الحية لحماية نظامها وتطويره. طبعا يخفت بريق الأيديولوجيا في البعد السياسي وفي المستوى المتعلق بطبيعة النظام السياسي، مقابل ذلك تبقى جذوة الصراع الأيديولوجي مشتعلة ولكنها تمس بالأساس البعد الاقتصادي وكذلك قضايا المجتمع، كقضية المرأة وبعض المستويات من الحريات الفردية وحدودها وعقوبة الإعدام…الخ أما في التجارب التي لم تخرج بعد من نسق هيمني استبدادي، فالأيديولوجيا والتباين بين مشاربها يبقى مستحكما ومهيكلا وعرضانيا لكل القضايا والمجالات سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية أو تربوية. طبعا، إذا كان هاجس من يعتبر أن صراعنا اليوم ليس صراعا أيديولوجياً هو دعوتنا للتركيز على العدو الرئيسي المتمثل في أجهزة التحكم وتأجيل الصراع الأيديولوجي إلى ما بعد، فلابد من أن يوقن أن الأطراف المتصارعة لا تنسى أيديولوجيتها بل تنطلق في صراعها من خلفية أيديولوجية. ومن هنا فما يجب التأكيد عليه في هذا الخضم، هو احترام المنهجية الديمقراطية واحترام نتائج الاقتراع واحترام العملية الانتخابية، لينطلق الصراع فيما بعد ليشمل مختلف أسس التسيير والتدبير للأغلبية التي ستفرزها صناديق الاقتراع، والسعي لتتمكن من تنفيذ برنامجها بالآليات التي تتوفر عليها بما فيها ما هو دستوري. لازال الصراع اليوم في المغرب صراعا حول طبيعة النسق السياسي، الذي حتى وإن عرف تململا فهو لازال يحن بشكل قوي إلى الهيمنة وإن بأشكال جديدة… هو نسق سياسي بخلفية إيديولوجية كما أن الأحزاب التي تتدافع في الساحة السياسية تنطلق هي الأخرى من خلفية أيديولوجية مختلفة بل وحتى متناقضة، ولا عيب في ذلك. لازال صراعنا اليوم صراعا سياسيا، ولازال للأيديولوجيا دور في تأطير هذا الصراع. أن تلتقي فصائل من أيديولوجيات مختلفة ومتقاطبة ومتعارضة على ضرورة وأهمية وملحاحية احترام المنهجية الديمقراطية لا يعني بتاتا إلغاء هذه الأخيرة بل بالعكس هو إغناء لها. أن تتفق مختلف التيارات رغم تعارض مشاربها الفكرية على حد أدنى سياسي بخصوص قواعد تدبير الصراع هو أمر محمود ومطلوب ولكنه لا يجب بأي حال من الأحوال أن يغرقنا في البراغماتية والواقعية السياسية إلى درجة ينتفي ويغيب معها الإطار المهيكل والموجه الذي يسمح بالتمايز لما فيه خير للمنافسة والتباري السياسي.