لم تفلح قيادة حزب العدالة والتنمية، رغم كل "المرافعات" التي أطلقتها، سواء في الكتابات والتصريحات الصحافية أو في التدوينات والتعليقات الفيسبوكية، في الإقناع، بعد أن أعلنت ترشيحها أشخاصا لا تربطهم أية صلة بالحزب، من سلفي مثير للجدل بخطبه ومواعظه، إلى أمين عام حزب غير حليف، إلى برلماني حزب آخر… ولا يهمني، هنا، عدد الحالات (الكم)، بقدر ما يهمني الفعل (النوع) الذي يحيل إلى نوع الممارسة التي يتجه إليها هذا الحزب. ففي ظرف وجيز جدا، في مباشرة العمل الحزبي والمشاركة في الانتخابات والوصول إلى البلديات والبرلمان والحكومة…، يسقط حزب العدالة والتنمية في إتيان الممارسات التي كانت سببا في ما وصلت إليه صورة الأحزاب عند المغاربة. فها هو الحزب الذي ظل يصر على أن يظهر بصورة تجعله يتميز عن باقي الأحزاب، واستعمل مرجعيته الدينية في تسويق هذه الصورة لدى الناخبين، يسقط في أول اختبار أعقب تحمله المسؤولية على رأس الحكومة، بعد أن أصبحت غايته المقاعد بأية وسيلة، دون أبه لا بالمرجعية الفكرية ولا بالاختيار السياسي ولا بالانتماء الحزبي. فعلى بعد أسابيع من الانتخابات التشريعية ليوم 7 أكتوبر 2016، نتابع كيف "تُجاهد" قيادة حزب العدالة والتنمية لتكريس ظاهرة الترحال السياسي في أبشع صورها. تتسابق، كما تفعل الأحزاب الإدارية، على "سرقة" أعضاء أحزاب أخرى (أحيل هنا إلى المنسق الإقليمي لحزب الاتحاد الدستوري بسيدي قاسم الذي ورد اسمه ضمن مرشحي حزب العدالة والتنمية وإلى ردة الفعل القوية التي صدرت عن قيادة حزبه ضد هذا الترشيح)، وتُرَشِّح أمينا عاما لحزب آخر!! كان إلى الأمس القريب قياديا بالحزب الذي يعتبره زعيم "البيجيدي" خصمه الوحيد والأوحد!! وترشح سلفيا ذا مرجعية فكرية وممارسة دعوية ظل حزب العدالة والتنمية يتبرأ منها منذ أحداث 16 ماي الإرهابية (2003)… وبالإضافة إلى ذلك، تأكد أن الحزب "الإسلامي" اتصل بشخصيات معروفة بمرجعيتها اليسارية وبانتمائها إلى أحزاب يسارية. ومن هذه الشخصيات من أعلن اعتذاره عن قبول الترشح باسم حزب يختلف معه إيديولوجيا وسياسيا. لقد كشف هذا "التوجه" عن نزوع الحزب ذي المرجعية الإسلامية، كما يصر قياديوه على وصفه بعدما أصبحوا يرفضون نعته ب"الإسلامي"، إلى نوع من الميكيافيلية في العمل السياسي (الغاية تبرر الوسيلة). وهو نزوع يكرس بعض سيئات العمل الحزبي في المغرب. إن الحجج أو المبررات التي ساقها بعض قياديي حزب العدالة والتنمية لتبرير هذه الممارسة لا تخرج في مجملها عن مواجهة ما يسميه قائد الحزب والحكومة ب"التحكم". وهذا نفسه يزكي فرضية النزعة الميكيافيلية. فلتحقيق هذه الغاية (مواجهة التحكم) يبيح حزب العدالة والتنمية لنفسه استعمال أية وسيلة، حتى ولو كانت متناقضة مع الممارسة السياسية التي ظل يبشر بها. لا أحد يمنع حزب العدالة والتنمية من مواجهة التحكم، لكن ليس بوسائل تتناقض ومرجعيته (المعلنة على الأقل)، وليس بقرارات "تُحَلِّلُ" الممارسات التي ظل الحزب يردد أنه جاء لمحاربتها ووضع حد لها. الحزب السياسي، في تعريف عام ومختصر، هو مرجعية فكرية واختيار سياسي وإطار تنظيمي. والأحزاب تُعْرَف وتتمايز بمرجعيتها الفكرية وباختيارها السياسي وبشكل تنظيمها. وهذه العناصر الثلاثة تشكل مجتمعة هوية أي حزب. وتمثل الانتخابات لحظات قوية تبرز فيها المرجعية والاختيار والتنظيم. ويُفترض أن يجسد مرشحو الحزب هذه الهوية. وحينها، نقول إن الناخبين اختاروا الحزب، مرجعيةً واختيارا وتنظيما، وليس الشخص. وهذا ما يعطي للتعددية الحزبية معناها الحقيقي، الذي لا يتحقق بدون تعددية سياسية. ولا يمكن، بأي حال من الأحوال، وكيفما كانت الظروف وطبيعة "المرحلة" أو "المعركة"، أن يُحَوِّل حزب العدالة والتنمية نفسه من "تنظيم حزبي" له "مشروعه السياسي" إلى تنظيم "فوق حزبي"، يريد أن يجمع الإسلامي السلفي والإسلامي غير السلفي واليساري الاشتراكي واليساري الشيوعي واليميني الليبرالي واليميني الإداري… وإلا فبماذا سيختلف هذا النوع من التنظيم عن فلسفة "الحزب الوحيد"؟! إن المعركة من أجل الديمقراطية ومحاربة الاستبداد وحتى "التحكم" لا يمكن أن تلغي تعدد المرجعيات الفكرية وتنوع الانتماءات الإيديولوجية واختلاف المشاريع السياسية. إن من شأن هذا "التفكير" أن يقود إلى نوع آخر من التحكم. وقد يكون أخطر، لأنه لا يقف عند التحكم في السلطة، وإنما يسعى إلى التحكم في الفكر والإيديولوجيا والسياسة والثقافة… وهذا أخطر أنواع الاستبداد. حين يُقْدِم حزب العدالة والتنمية على ترشيح أشخاص لا يشاطرونه لا المرجعية الفكرية ولا الاختيار السياسي، و"ينفتح" على ذوي السوابق الانتخابية ممن ألفوا الترحال بين الأحزاب، فإنه أصبح ينافس أحزابا أخرى لم يتوقف على انتقاد ممارساتها المسيئة للأحزاب وللعمل السياسي، وتقديم نفسه بديلا عنها. إنه لم يكتف بهذا، كما تفعل أحزاب أخرى تُوقع تزكيات الترشيح بصمت وخجل، بل "تَجَنَّدَ" ليقنع الناس بصواب ما أقدم عليه، وإظهاره بأنه عمل "عظيم" سَيُثْقِل ميزان حسنات هذا الحزب، الذي خاطر وقبل أن يحمل على عاتقه مواجهة "التحكم". وهذا يكفيه ليبيح لنفسه فعل ما كان ينتقده. ولعله هنا يستنجد بتلك القاعدة الفقهية التي تقول "الضرورات تبيح المحظورات"!! حزب العدالة والتنمية دخل لأول مرة الحكومة وقادها "منتصرا" بأصوات ناخبيه الذين بوؤوه المرتبة الأولى في انتخابات 2011. وظل بنكيران، الذي وضعته هذه الأصوات على رأس الحكومة، منتشيا، طيلة السنوات الخمس، بهذا "الانتصار" الذي يردد دائما أنه يرجع إلى أن الناخبين وجدوا في حزبه ما لم يعودوا يجدونه في الأحزاب الأخرى، وكان دائما يَنْسِب ذلك "الانتصار" إلى الحزب لا إلى الأشخاص. لكن ما يقوم به بنكيران اليوم سيكلف حزبه خسارة هذه الأصوات مستقبلا، لأنه أخذ يوجهها وجهة أخرى، حين أصبح يستعملها في "إغراء" سياسيين و"شراء" ترشحهم باسم حزبه. وهو سلوك لا يختلف في شيء عن عمليات "شراء الأصوات" التي اشتهرت بها الانتخابات في المغرب. فإذا كانت الأحزاب الأخرى قد ألفت أن تستعمل المرشحين "الأعيان" (الكائنات الانتخابية الضامنة للمقعد بأية وسيلة) لشراء أصوات الناخبين وكسب المقاعد لفائدة الحزب، فإن حزب العدالة والتنمية يستعمل اليوم أصوات الناخبين "المضمونة" ل"شراء" بعض الشخصيات "المتميزة" وكسبها إلى صفوفه. والمثير أن هذا التقابل يسفر عن نتيجة متماثلة. فالأحزاب الأخرى (التي اعتادت على ترشيح الأعيان) لا تهتم بالناخبين وبأصواتهم، لأن المرشح يعفيها من ذلك، فهي تطمع فقط في عدد المقاعد التي توصل قياداتها إلى الحكومة أو ما يفيض عليها من مناصب في البرلمان وغيره من المؤسسات، كما لا تهتم بمصير مرشحيها، فهي تعلم أنها ستخسرهم لاحقا، ماداموا مجرد رحَّالة لا ينتمون إلى أي حزب. وفي الجهة الأخرى، فإن حزب العدالة والتنمية الذي اهتدى إلى "الانفتاح" على السلفي واليساري واليميني والإداري لن يكسب إلى مرجعيته الفكرية لا السلفي ولا اليساري ولا اليميني ولا الإداري، بل هو يريدهم أن يبقوا على "مذاهبهم" الأصلية، حتى يبرهن على أنه حزب منفتح على كل الاتجاهات الفكرية والإيديولوجية والتيارات السياسية والحزبية!، لكنه سيخسر لاحقا أصوات ناخبيه، لأنه لم يكن مؤتمنا عليها.