العرائش: الأمين العام لحزب الاستقلال في زيارة عزاء لبيت "العتابي" عضو المجلس الوطني للحزب    رشاوى الكفاءة المهنية تدفع التنسيق النقابي الخماسي بجماعة الرباط إلى المطالبة بفتح تحقيق    الشيلي ترغب في تعزيز علاقاتها مع المغرب في ميدان البحث العلمي    مجلس الأمن.. بلينكن يشيد بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    هجوم ماغديبورغ.. الشرطة الألمانية تُعلن توجيه تهم ثقيلة للمشتبه به    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    هذه أحوال الطقس لهذا اليوم الأحد بالمملكة    ترامب يهدد باستعادة السيطرة على قناة بنما على خلفية النفوذ الاقتصادي المتنامي للصين    هجوم ماغدبورغ.. دوافع غامضة لمنفذ العملية بين معاداة الإسلام والاستياء من سياسات الهجرة الألمانية    الجيش الباكستاني يعلن مقتل 16 جنديا و8 مسلحين في اشتباكات شمال غرب البلاد    بيدرو سانشيز: إسبانيا تثمن عاليا جهود جلالة الملك من أجل الاستقرار الإقليمي    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    سويسرا تعتمد استراتيجية جديدة لإفريقيا على قاعدة تعزيز الأمن والديمقراطية        تفكيك أطروحة انفصال الصحراء.. المفاهيم القانونية والحقائق السياسية    مجموعة بريد المغرب تصدر طابعا بريديا خاصا بفن الملحون    السعودية .. ضبط 20 ألفا و159 مخالفا لأنظمة الإقامة والعمل خلال أسبوع    المجلس الأعلى للدولة في ليبيا ينتقد بيان خارجية حكومة الوحدة ويصفه ب"التدخل غير المبرر"    الأستاذة لطيفة الكندوز الباحثة في علم التاريخ في ذمة الله    الأمن في طنجة يواجه خروقات الدراجات النارية بحملات صارمة    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    إسرائيل تتهم البابا فرنسيس ب"ازدواجية المعايير" على خلفية انتقاده ضرباتها في غزة    أمسية فنية وتربوية لأبناء الأساتذة تنتصر لجدوى الموسيقى في التعليم    المغرب أتلتيك تطوان يتخذ قرارات هامة عقب سلسلة النتائج السلبية    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    سابينتو يكشف سبب مغادرة الرجاء    الممثل القدير محمد الخلفي في ذمة الله    ال"كاف" تتحدث عن مزايا استضافة المملكة المغربية لنهائيات كأس إفريقيا 2025    التقلبات الجوية تفرج عن تساقطات مطرية وثلجية في مناطق بالمغرب    مدان ب 15 عاما.. فرنسا تبحث عن سجين هرب خلال موعد مع القنصلية المغربية    الدرك الملكي يضبط كمية من اللحوم الفاسدة الموجهة للاستهلاك بالعرائش    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    توقيف شخص بالناظور يشتبه ارتباطه بشبكة إجرامية تنشط في ترويج المخدرات والفرار وتغيير معالم حادثة سير    جلسة نقاش: المناظرة الوطنية للجهوية المتقدمة.. الدعوة إلى تعزيز القدرات التمويلية للجهات    علوي تقر بعدم انخفاض أثمان المحروقات بالسوق المغربي رغم تراجع سعرها عالميا في 2024    نشرة إنذارية: تساقطات ثلجية على المرتفعات وهبات رياح قوية    بطولة انجلترا.. الإصابة تبعد البرتغالي دياش عن مانشستر سيتي حوالي 4 أسابيع    مهرجان ابن جرير للسينما يكرم محمد الخياري        دراسة: إدراج الصحة النفسية ضمن السياسات المتعلقة بالتكيف مع تغير المناخ ضرورة ملحة    اصطدامات قوية في ختام شطر ذهاب الدوري..    بريد المغرب يحتفي بفن الملحون    العرض ما قبل الأول للفيلم الطويل "404.01" للمخرج يونس الركاب    جويطي: الرواية تُنقذ الإنسان البسيط من النسيان وتَكشف عن فظاعات الدكتاتوريين    مراكش تحتضن بطولة المغرب وكأس العرش للجمباز الفني    طنجة: انتقادات واسعة بعد قتل الكلاب ورميها في حاويات الأزبال    كودار ينتقد تمركز القرار بيد الوزارات    مؤتمر "الترجمة والذكاء الاصطناعي"    البنك الدولي يدعم المغرب ب250 مليون دولار لمواجهة تغير المناخ    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    المستشفى الجامعي بطنجة يُسجل 5 حالات وفاة ب"بوحمرون"    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نهائي تشريعات 2016
البيجيدي VS البام
نشر في المساء يوم 27 - 09 - 2015

يعيش الحقل السياسي مجموعة من التحولات التي أفرزتها نتائج الانتخابات الجماعية والجهوية الأخيرة. تراجع لبعض الأحزاب التي كانت تشكل ماكينات انتخابية على رأسها حزب الاستقلال والتجمع الوطني للأحرار، وصعود أحزاب أخرى إلى مرتبة الظاهرة الانتخابية وأهمها حزب العدالة والتنمية إضافة إلى تقلص دائرة المنافسة الانتخابية شيئا فشيئا لتقتصر في النهاية على حزبين أو ثلاثة على عكس ما كانت عليه الخريطة السياسية في كل الانتخابات السابقة. فعلى سبيل المثال توزعت المقاعد الجماعية في انتخابات 2009 بين أكثر من 28 حزبا وتكتلا انتخابيا، بينما لم يتجاوز عدد الأحزاب التي اقتسمت الكعكة الانتخابية لرابع شتنبر الماضي 12 حزبا ثمانية منها فقط هي التي حصلت على أكثر من ألف مقعد في المجالس الجماعية الجديدة.
وقد ساد قدر من الإجماع بين المتابعين لنتائج الانتخابات الجماعية والجهوية على انتصار بين حققه حزبان سياسيان هما حزب العدالة والتنمية وحزب الأصالة والمعاصرة. الأول استطاع أن يخرج من دور الفاعل السياسي ليتقمص دور الفاعل الانتخابي والثاني استطاع أن يتجاوز صورة سلبية ربطته دائما بالإدارة باعتباره آخر الأحزاب الإدارية. فوز هذين الحزبين يرشحهما للهيمنة على الصراع الانتخابي المرتقب في تشريعيات 2016. يبدو أنهما أكثر الأحزاب والهيئات السياسية استعدادا من ناحية التواجد على أرضية المنافسة وفي تأهيل الخطاب السياسي وبالنظر إلى القرب والولاء للمؤسسة الملكية. كلا الحزبين أضحى قادرا على توفير شروط النجاح الانتخابي لأول انتخابات تشريعية تجري في ظل دستور الربيع العربي.
تراجع الاستقلال وانهيار الاتحاد الاشتراكي وتقلص دور الأحزاب القبلية كالحركة الشعبية وانكماش حزب الأحرار واقتصار دوره على خلق التوازنات وصناعة التحالفات، كل هذه الوقائع المرشحة للمزيد من التفاقم تؤهل المصباح والجرار ليقودا المرحلة السياسية الجديدة ويشكلا في مواجهة بعضهما ما اعتبره بعض المراقبين بوادر القطبية السياسية الثنائية في الحقل السياسي الوطني. العدالة والتنمية حزب محافظ يستند إلى مرجعية دينية بكل ما تمثله من قيم ومبادئ، والأصالة والمعاصرة حزب ليبرالي يحمل لواء الحداثة والعصرنة ويرتبط كذلك بجذور وتاريخ الوطن كما تدل على ذلك تركيبة تسميته. الإشكال أن كلا الحزبين لا يمكن إلا أن يصنفا في خانة اليمين والحال أن الحديث عن قطبية سياسية ثنائية أو ثلاثية بإدماج أحزاب الوسط، لا يمكن أن تتأتى إلا من خلال تواجد قطب يساري اشتراكي وقطب يميني ليبرالي وقطب وسط يتقاسم مبادئ وقيم الفريقين ويخلق بينهما حالة من التوازن.
المصباح والجرار يشكلان حالة من التنافس السياسي والانتخابي الفعلي، لكن هل يمكن أن يتنافسا فكريا وإيديولوجيا؟ ما الذي يميز الإسلاميين عن الباميين في قضايا المجتمع والاقتصاد والثقافة وغيرها من الملفات المرتبطة بقيم الوطن وتاريخه. لا يمكن بناء تقاطب سياسي على اختلاف بين حزبين أو تيارين في قضية أو قضيتين، كالإجهاض والمخدرات. القطبية السياسية أعمق من ذلك بكثير إنها إيمان بجدوى العمل الحزبي ودوره في تأطير المجتمع ليس في المناسبات والحملات الانتخابية فقط بل على امتداد الزمن السياسي. إن الحديث عن القطبية ينقلنا هنا للحديث عن البلقنة التي تعتبر سمة مميزة للحقل السياسي المغربي. وهي جزء من أزمة الأحزاب والنخب السياسية الضعيفة والتي لها ولاءات تمتد خارج كياناتها وهيئاتها الحزبية.
والبلقنة في مشهدنا السياسي ليست طبيعة لهذا الحقل السياسي بل هي كذلك صنيعة من صنائع الإدارة التي استطاعت عبر عقود طويلة من التحكم في العمل السياسي والمشاهد الانتخابية أن تصنع خريطة سياسية متشابكة تفتقد الأحزاب فيها إلى التأثير الحقيقي والوازن بالنظر إلى أن نتائجها الانتخابية لا تمنحها أي أغلبية كافية لصناعة القرار وتوجيه دفة السياسة نحو اختياراتها وبرامجها التي عرضتها على الناخبين. هذا الواقع ينبع أساسا من الازدواجية التي تميز نظامنا السياسي بين مؤسسة ملكية تستند إلى شرعية تاريخية ودينية، وبين حكومة سياسية تستند إلى شرعية انتخابية. وفي ظل تعدد الفاعلين يبدو الحديث عن انقراض ظاهرة البلقنة والتوجه نحو القطبية السياسية وتأهيل المشهد الحزبي نحو الممارسة الديمقراطية الحقة أمرا لا يزال بعيد المنال، ولا يمكن لبعض المفاجآت الانتخابية أن تؤسس لهذه المرحلة المنتظرة في تجربتنا السياسية.
القطع مع البلقنة والتوجه نحو القطبية ليس مجرد نتيجة بل هو اختيار تساهم في تحقيقه مجموعة من العناصر والمكونات الأساسية منها القانوني كالقوانين الانتخابية ونظام الاقتراع وقانون الأحزاب، ومنها الثقافي المتمثل في انبثاق ثقافة سياسية جديدة لدى الفاعلين الحزبيين قوامها الدفاع عن الفكرة والبرنامج بدل التشبث بكيانات متهالكة من أجل كراسي وزعامات وهمية، ومنها السياسي وهو الذي تفرضه تطورات الأحداث وتوازنات اللعبة السياسية التي تميل أحيانا لتيار على حساب آخر، ومنها الاجتماعي الذي يتمثل في عودة سند الشارع ودعم الجماهير للكيانات الحزبية التي كانت مرتبطة بقواعدها من خلال خطاب صريح وواضح. هذه المكونات وغيرها وحدها الكفيلة بخلق تقاطب سياسي ينهي عهد البلقنة، ويحول حزب العدالة والتنمية أو حزب الأصالة والمعاصرة أو غيرهما إلى أقطاب حزبية كبيرة تدور في فلكها تيارات وكيانات أخرى في خدمة الفكرة والمبدأ والبرنامج.

خمسة مؤشرات على نهائي بين «البام» و«البيجيدي» في تشريعيات 2016
في ظل تراجع الاستقلال والاتحاد الاشتراكي واستقرار نتائج الأحرار والحركة
عززت نتائج انتخابات 4 شتنبر الجماعية والجهوية من موقع حزبي العدالة والتنمية والأصالة والمعاصرة. يبدو هذان الحزبان المنتصران الوحيدان ضمن خارطة الأحزاب السياسية التي اعتادت تصدر لائحة الفائزين. وتتجه كل المؤشرات السياسية والظرفية نحو تأكيد هذا الموقع المتقدم في طليعة المشهد السياسي في الانتخابات التشريعية المرتقبة في 2016. وهناك مؤشرات عدة تدل على هذا الاحتمال من بينها المؤشرات التالية.
الصعود الانتخابي
كرست انتخابات 4 شتنبر كلا من حزب الأصالة والمعاصرة وحزب العدالة والتنمية كظاهرتين انتخابيتين. من جهته استفاد حزب العدالة والتنمية من حرية ترشيح ما يرغب فيه من مرشحين في كل الدوائر الانتخابية واستطاع أن يحول تفوقه على صعيد الخطاب والبوليميك السياسي إلى تفوق انتخابي كما تدل على ذلك نتائج الانتخابات. لكن ما يزكي فرضية تموقعه في المرتبة الأولى أو الثانية في الانتخابات التشريعية المقبلة هو الخط الانتخابي التصاعدي الذي يسلكه الحزب منذ اندماجه في اللعبة السياسية. فحزب العدالة والتنمية الذي جاء سادسا في انتخابات 2009 حسن كثيرا من رتبته، بأن احتل المركز الثالث في اقتراع هذه السنة، عوض السادسة في 2009، إذ تقدم بشكل لافت سواء من حيث عدد المقاعد التي حصل عليها، أو الأصوات التي حازها، فصار حزب «المصباح» أكثر السعداء بنتائج الانتخابات المحلية بالمملكة. في انتخابات 2009 حصل حزب العدالة والتنمية على 1513 مقعدا، بنسبة بلغت 5.5 في المائة من مجموع المقاعد المتنافس عليها، لكنه في اقتراع رابع شتنبر ضاعف غلته قرابة أربع مرات، فالحزب ذو المرجعية الإسلامية استطاع تحصيل 5021 مقعدا، أي بنسبة وصلت إلى 15.94 في المائة.
وبالإيقاع التصاعدي نفسه واصل حزب الأصالة والمعاصرة تحقيق نتائج انتخابية باهرة. في استقراء لأرقام النتائج النهائية لانتخابات 2009 و2015، يكون حزب الأصالة والمعاصرة قد حافظ على رتبته الأولى، محققا نسبة متقاربة بين الاقتراعين، 21.15 في المائة سنة 2009، و21.12 في المائة عام 2015، لكن بزيادة في عدد المقاعد بلغت 640 مقعدا، أي من 6015 مقعدا سنة 2009 إلى 6655 سنة 2015.
المسافة المدروسة
من المؤسسة الملكية
بينما نجح حزب الأصالة والمعاصرة نسبيا في تجاوز تبعات الصورة التي كان يحملها عند تأسيسه باعتباره «حزب الملك»، عزز حزب العدالة والتنمية في أول تجربة تدبير حكومي يتولاها من موقعه ومكانته لدى المؤسسة الملكية. علاقة الحزبين مع الإدارة عرفت إذن بعض التحولات التي مكنت كليهما من تعزيز موقعه السياسي كما دلت على ذلك نتائج الانتخابات الجماعية والجهوية أخيرا. فحزب العدالة والتنمية استفاد في الانتخابات الجماعية الأخيرة من حرية الترشيح في كل الدوائر بعد أن رفع الحظر التوافقي الذي كان يقيد الحزب في انتخابات سابقة ويحد من احتمالات اكتساحه لكل الدوائر. هذا يعني أن عنصر الثقة تعزز أكثر بين الإسلاميين والمؤسسة الملكية، خصوصا بعد الدور الذي لعبه إخوان بنكيران في سياق أزمة الربيع العربي واحتواء تداعيات احتجاجات حركة 20 فبراير. وقد بينت نتائج الانتخابات الأخيرة أن حزب العدالة والتنمية نجح في الرقص على حبل المطالب الشعبية وإكراهات الدولة، فدغدغ مشاعر الناخبين وفي الوقت نفسه واجههم بصراحة ما يتوجب القيام به من إصلاحات.
من جهته نجح حزب الأصالة والمعاصرة في التمويه على صورة الحزب الإداري الذي أسسه المستشار الملكي فؤاد عالي الهمة. كما أن تواري هذا الأخير عن موقعه المتقدم عقب تداعيات الربيع العربي كانت له نتائج عكسية إيجابية، وبدل أن يفقد الحزب سندا سياسيا قويا استطاع أن يشق من خلال بعض القيادات الشابة المثيرة للبوليميك والجدل طريقه نحو التطبيع مع الحقل السياسي ومع الناخبين، ويصبح ورقة من الأوراق القوية في المشهد السياسي التي من المتوقع أن تكون لها كلمتها في الانتخابات التشريعية المقبلة.
أسطورة التصويت العقابي
خلال الحملة الانتخابية التي سبقت استحقاقات 4 شتنبر ارتفعت عقيرة بعض المحللين والخبراء لتضخم من احتمالات التصويت العقابي الموجه ضد بعض أحزاب التحالف الحكومي وعلى رأسها حزب العدالة والتنمية الذي يقود الحكومة. وكان الكل يتوقع أن يمنى الإسلاميون بهزيمة نكراء جزاء لهم على اتخاذهم لمجموعة من القرارات اللاشعبية كان من أهمها التراجع عن دعم الوقود والاستعداد لإصلاح أنظمة التقاعد.
غير أن نتائج الانتخابات الجماعية والجهوية تعتبر مؤشرا قويا على ضعف وغياب ثقافة التصويت العقابي لدى الناخب المغربي. فقد لوحظ أن حزب العدالة والتنمية حقق تقدما كبيرا على صعيد عدد الأصوات المحصل عليها مقارنة مع آخر اقتراع يشارك فيه رغم الجدل المثار حول إصلاحاته اللاشعبية. فقد ارتفع عدد المصوتين لصالح الحزب من 600 ألف إلى مليون و500 ألف صوت.
وبالمنطق نفسه حظي حزب الأصالة والمعاصرة رغم ما أثارته مواقفه في المعارضة وصورته المرتبطة بالإدارة على حصة وافرة من الأصوات المعبر عنها وبالضبط على مليون و 333 ألف و 546 صوتا.
أزمة المنافسين
يستفيد حزب العدالة والتنمية والأصالة والمعاصرة من أسوأ أزمة تنظيمية وسياسية يمر بها أكبر حزبين منافسين لهما. حزب الاستقلال وحزب الاتحاد الاشتراكي رغم أن أزمة هذا الأخير بدأت قبل سنوات بمجرد نهاية مشاركته في تجربة التناوب التوافقي. لكن المستجد في المشهد السياسي اليوم هو الوضع الانتخابي والسياسي المتأزم الذي يمر منه حزب الاستقلال الذي يعد أكبر ماكينة انتخابية في تاريخ الاستحقاقات الانتخابية الوطنية. فإذا كان الجرار والمصباح قد حافظا على خط تصاعدي فيما يخص النتائج فإن حزب الاستقلال ورغم احتلاله للرتبة الثانية في الانتخابات الجماعية إلا أن نتائجه كانت بمثابة هزيمة سياسية لحزب علال الفاسي. واعتبر حزب الاستقلال أكبر الخاسرين بين الأحزاب السياسية المشاركة في انتخابات 4 شتنبر، رغم أنه احتل الرتبة الثانية تماما مثل رتبته في استحقاقات 2009، لكن حشده لأزيد من 17 ألف مرشح لم يفض به سوى للفوز ب5106 مقعدا فقط، أي بنسبة 16.22 في المائة، متخلفا عما حققه في 2009، عندما سجل نسبة 19.1 في المائة. ولم تقتصر أزمة الاستقلال على الهزيمة الانتخابية فقط بل امتدت إلى الأزمة التنظيمية الداخلية بعد الجدل الذي أثير حول احتمال استقالة الأمين العام حميد شباط الذي بدأ بعض الاستقلاليين يرون في استمراره على رأس الحزب تهديدا لمستقبل الحزب خصوصا في الانتخابات التشريعية المقبلة.
قيادة الأغلبية والمعارضة
بالنظر إلى موقع العدالة والتنمية في قيادة التحالف الحكومي ونجاحه إلى حد اليوم في الحفاظ على تماسك هذا التحالف رغم خروج حزب الاستقلال من صفوفه، يبدو أن الحزب قد وضع لنفسه موقعا لن يقبل بديلا عنه في الانتخابات التشريعية المقبلة. صورة الزعامة الحزبية أيضا التي جسدها رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران تعتبر عامل قوة بالنسبة لهذا الحزب الذي يختلف عن خصومه ببساطة الخطاب وقربه من الناخب إلى درجة تجعل البعض من الفاعلين السياسيين يتهمه بالشعبوية والديماغوجية. لكن الإسلاميين يرون في شعبويتهم نقطة قوة وتفوق لا يمكن التفريط فيها، وهذا ما أكدته الحملة الانتخابية الأخيرة التي عرفت حضورا قويا لرئيس الحكومة في مختلف المهرجانات والتجمعات الحزبية للمرشحين، حيث حافظ بنكيران على خطابه الذي يعتبره البعض مستفزا ودون مستوى الخطاب السياسي اللائق بمسؤول من حجم رئيس الحكومة.
وبخروج حزب الاستقلال مجددا من المعارضة عقب هزيمة أمينه العام في الانتخابات الجماعية الأخيرة، يخلو الجو لحزب الجرار لقيادة المعارضة وضمان موقع انتخابي أكثر تقدما في طليعة المنافسين لحزب العدالة والتنمية في الانتخابات التشريعية المرتقبة. وعلى صعيد الفعل المعارض الممأسس داخل البرلمان استطاع حزب الأصالة والمعاصرة فعلا أن يحقق تقدما على حلفائه داخل اللجان من خلال حضوره المكثف في مساءلة الحكومة ومحاولة طرح البدائل السياسية والظهور في واجهة ومقدمة المواجهة مع رئيس الحكومة. وفي هذا السياق بصم الحزب جلسات المساءلة الشهرية التي يعقدها رئيس الحكومة بلحظات جدل شهيرة ستسجلها الولاية التشريعية الحالية. هذا الحضور البرلماني يعتبر خطوة نحو حضور انتخابي مرتقب في التشريعيات المقبلة يمكن خلاله أن يكون الجرار هو المنافس الوحيد والأوحد للمصباح في اكتساح مقاعد البرلمان ومن ثمة احتمال المنافسة على تشكيل وقيادة التحالف الحكومي المقبل.

رشيد لبكر *: لهذه الأسباب سينحصر التنافس بين «الجرار» والمصباح»
قال إن فترة سنة التي تفصلنا عن الانتخابات غير كافية تماما لتغيير قناعة الناخبين إزاء الأحزاب
– كيف ترى المشهد السياسي الآن بعد اكتمال جميع المراحل المتعلقة بانتخابات الجماعات الترابية الأولى من نوعها التي تجري في ظل دستور 2011؟
أعتقد بأن هذه المحطة تسمح باستخلاص العديد من النتائج والرسائل، أولها تتمثل في الحياد التام للإدارة عن التحكم في نتائج الاقتراع، الشيء الذي يجعلنا نقول إن المغرب قطع رسميا مع عهد ودخل إلى آخر، لكن رغم هذا التقدم الهام في سلوك الإدارة لاحظنا أن سلوكات بعض المنتخبين ما زالت مشدودة إلى العهد القديم ووجدت صعوبة في التأقلم مع رياح التغيير التي تعرفها بلادنا، وعوض أن تطور أداءها وأسلوبها رأيناها ما زالت تبتهل الممارسات إياها من استعمال المال والضغط على الناخبين وتسخير الأطفال وغيرها من أشياء، الكثير منها يتم مع الأسف في دهاليز معتمة يصعب على الإدارة ضبطها ومراقبتها. ثاني الملاحظات تفرض طرح السؤال حول الجدوى من وجود عدد من الأحزاب، التي خرجت وكما في السابق، خاوية الوفاض من أي مقعد، وكما يقال، إن غابت لا يسأل عنها أحد وإن حضرت لا يأبه بوجودها أحد. أعتقد أن بقاءها يضر بالبناء الديمقراطي أكثر ما يخدمه، سيما أنها تؤثر بشكل سلبي على المفهوم الحقيقي للتعددية، وتشوش على اختيارات المواطنين وتهدر المال العام على حملات لا يلتفت إليها أحد. ثالث ملاحظة تتمثل في منطق التحالفات الذي يطبع مشهدنا ويزيد من تعميق كره المواطن للعمل السياسي لأنها تفرز أوضاعا معاكسة للإرادة التي عبر عنها من خلال صناديق الاقتراع، والمسؤولية في ذلك ترجع إلى الأحزاب ذاتها، أو بعضها على الأقل، ثم إلى نمط الاقتراع القائم الذي لا يعطي بالضرورة المرتبة الأولى من حيث المقاعد للحائز على أكبر نسبة من الأصوات، الشيء الذي يدعو الجميع إلى مراجعة هذا الوضع من خلال فتح نقاش حقيقي حول هذا النمط وحول طرق تقسيم وتوزيع الدوائر، سيما في الشق المتعلق بالانتخابات البلدية، رابع ملاحظة أعتقد أنها أخلاقية بالدرجة الأولى وتتعلق بالسلوك الانتخابي الذي ما زال يطبع الأداء الحزبي، حيث عاينا قبل الانتخابات تراشقا بالكلام نزل في بعض الأحيان إلى أسفل سافلين، ثم لاحظنا تبادلا بالاتهامات وتجديدا للسباب بعد الانتخابات، وكأن هذا المسلسل لن ينتهي، الآن يتطلع المواطن إلى تنسيقيات وتحالفات بشكل مختلف تركز على خدمة الشأن العام المحلي وتنصب بالخصوص على تدبير مطالبه الآنية وحاجاته المجالية الملحة، ولا يعنيه في شيء سب هذا أو شتم ذاك، إذ في محك الواقع الميداني، تتضح النوايا وتنكشف حقيقة الشعارات، واقتراع 04 شتنبر 2015 ليس إلا محطة في مسلسل طويل اسمه البناء الديمقراطي، مدخلات هذا الاستحقاق كانت إيجابية بصدور القوانين التنظيمية الخاصة بالجماعات الترابية والتي تضمنت العديد من التطورات الإيجابية مقارنة مع القوانين التي سبقتها، نتمنى إذن أن تكون المخرجات في المستوى نفسه وإلا سنخسر الرهان من جديد، ملاحظات أخرى تتعلق بنوعية الزعامات التي « ابتليت» بها بعض الأحزاب وهو ابتلاء خطير حتما سيؤدي إلى وفاتها إذا لم تعجل بأمر استشفائها. أيضا سجلنا الحضور المحتشم للمرأة على مستوى ترأس الجماعات الترابية سواء في الجهات أو غيرها، الشيء الذي يدفعنا إلى طرح السؤال حول الأسباب أو المسببات، سيما في ظل الحركية المجتمعية التي تعرفها قضية المرأة ببلادنا والمرافعات الهائلة التي قادتها الفعاليات النسائية في اتجاه تحقيق العدل والمساواة والإنصاف، فهل الأمر راجع إلى السلوك الحزبي أم إلى العقلية المهيمنة أم إلى غياب المبادرة النسائية ذاتها؟ أخيرا لا حظنا الخطر الذي يحدق بالتجربة الديمقراطية المغربية المتميزة إقليميا وقاريا والمتمثل في تحالفات آخر لحظة التي تحتاج منا إلى وقت لدراستها وفهمها والخروج بموقف واضح بشأنها حتى لا تشوش على هذه التجربة وتفقد السياسة بسببها المنطق والمعنى.
– هل يمكن أن تؤثر التحالفات القائمة الآن على جودة التدبير الترابي
الآن لدينا رهانات كبرى، هناك أولا الورش الجهوي الذي ينتظر المسؤولين عنه عمل شاق يحتاج إلى نفس طويل ورؤية استراتيجية متكاملة، وأول شيء سيكون أمام هؤلاء المدبرين الجهويين، هو بناء إدارة جهوية قارة بهياكلها ومديرياتها الجديدة وأطرها الكفأة وما يتطلبه ذلك من إعادة انتشار عدد من المندوبيات والمقرات الإدارية والموظفين وغيره بما يتناسب والتقسيم الجهوي الجديد، وهذه مهمة ليست بالسهلة وتتطلب حسا تواصليا كبيرا وقدرة على إدارة التوافق، سيما مع المدن الكبرى التي تعرف هي الأخرى تحولات اجتماعية جمة وتناقضات متفاقمة وخصاص كبير من حيث الخدمات على جميع الأصعدة، وتحتاج بالتالي إلى من يخفف الضغط عنها في المدن المحيطية وفق رؤية جهوية مندمجة ومتكاملة ومتبادلة الاعتماد، سيما في الجهات التي تتوفر على أقطاب حضرية كبيرة كجهة الدار البيضاء سطات أو طنجة تطوان أو فاس مكناس أو الرباط القنيطرة وغيرها، ومن مكر النتائج النهائية للانتخابات أنها أفرزت وضعا متناقضا بحيث نجد – على المستوى العام- أن أغلب الجهات آلت رئاستها إلى حزب الأصالة والمعاصرة، في حين رست سفينة المدن على مرافئ المصباح، أي أن الغريمين سيكونان على محك حقيقي هذه المرة، لا يجدي فيه السباب والاتهام بل يطلب التنسيق والتعاون خدمة للمواطن الذي وعد من طرف الحزبين معا بأن يكونا في مستوى الثقة والتزما بأن لا يخيبا الظن، وبالتالي فليس أمامهما من خيار إلا نسيان نقمة التحالفات الهجينة، والمرور إلى مرحلة العمل والتدبير وما تتطلبه من تنسيق وتعاون من أجل النهوض بهذا الرهان الذي ينتظر منه المغرب الشيء الكثير، ويتابعه المجتمع الدولي باهتمام. لذلك أعتقد أن كل الأحزاب المشاركة في التحالفات، سواء في التسيير أو في المعارضة مسؤولة اليوم عن ضرورة جعل مصلحة الوطن هي العليا وخدمة المواطن هي أولى الأولويات، ولا تنس أن المغربي اليوم أضحى أكثر وعي ومتابعة، وستبقى له غدا، في صناديق الاقتراع، الكلمة الأخيرة للفصل بين الغرماء، أعتقد أن هذا هو الدرس العام الذي يجب على جميع الأحزاب استخلاصه من هذا التمرين الديمقراطي المؤطر لأول مرة بالمغرب بمقتضى دستور 2011 ورعاية الملك.
– هل لهذه التحالفات أثر على الانتخابات التشريعية المقرر إجراؤها السنة القادمة
بالطبع، لكن دعني أقول أولا، إن فترة سنة غير كافية تماما لتغيير قناعة الناخبين إزاء الأحزاب، سيما أن جلها سيستغرق في تحضير الأنظمة الداخلية للمجالس وبناء الإدارات الجهوية، أي أن العمل سيكون داخليا بالأساس أكثر منه خارجيا، وقد لا نلمس بوادر التغيير، إن كانت الأحزاب في مستوى إحداث التغيير طبعا، إلا بعد انصرام سنة من الآن، وساعتها ستكون الانتخابات التشريعية قد أجريت، لذلك أعتقد، أنه وفي ظل المعطيات الراهنة، سيبقى التنافس على أشده بين «البام» و»البيجيدي»، وفي درجة ثانية بين الأحزاب السبعة الأخرى التي نافست هي الأخرى على جلب الأصوات وهي/ الاستقلال والاتحاد الاشتراكي والتجمع الوطني للأحرار إضافة إلى الحركة الشعبية وحزب التقدم والاشتراكية ثم الاتحاد الدستوري، وقد نعرف صعودا متناميا لحزب اليسار الاشتراكي الموحد بالنظر للنتائج الطيبة التي حصل عليها في انتخابات 04 شتنبر 2015. الآن يبدو حزب الأصالة والمعاصرة سعيدا بالنتائج التي حققها رغم «حداثة سنه»، وأنه استطاع أن يجتاز بسلام الحملة اللاذعة التي وجهت له ولعدد من رموزه إبان موجة الغضب الشبابي في 20 فبراير، وبالتالي راكم التجربة وأضحى أكثر صلابة وحنكة في النزال، وقد يستغل رئاسته لأكبر الجهات بالمغرب، ليبدي نوعا من المرونة والتأقلم والاستعداد للتعاون مع رؤساء المدن الجدد، عساه يكسب تعاطفا أكبر مع قاطنيها، أما العدالة والتنمية الذي بات الآن أكثر اطمئنانا على شعبيته في المدن، فأكيد أنه سيختلي بنفسه ليحصي أخطاءه المرتكبة على صعيد التواجد بالقرى وأي استراتيجية ممكنة تمكنه من تجاوز هذا المشكل على نحو مستعجل، ونحن على مرمى بصر قريب من انتخابات 2016. وأخيرا، من البديهي، في اعتقادي، أن يراجع كل حزب أمر تحالفاته، إذ بدا أن العديد منها بني على أساس من رمال، وحتى لا تندب حظها من جديد ويصدق عليها المثل المغربي الحكيم: « قالو باك طاح، قاليه من الخيمة اخرج مايل».
– هل يعني هذا أننا دخلنا مرحلة القطبية الثنائية؟
القطبية ليست تنسيقا عدديا لتكوين أغلبية هشة، القطبية أولا، هي تقارب في الأفكار وتجاذب في المرجعيات وتقاطب في الأيديولوجية إن صح هذا التعبير، لذلك فما نراه اليوم، مجرد تنسيقيات محلية لا يمكن أن نخرج بها باستنتاجات بهذا الحجم. للأسف كان من الممكن معاينة بوادر هذا التقاطب لو لم تضرب الهجانة حقلنا الحزبي، إذ ما الذي يجعل نظريا، حزب الاستقلال المحافظ ينفصل عن العدالة والتنمية، وما الرابط العضوي الذي يدفع في اتجاه الجمع بين هذا الأخير وحزب تقدمي يساري بتطلعات حداثية… أعتقد أن مشهدنا الحزبي الحالي ما زال بعيدا عن ملامسة هذه القطبية التي تتحدث عنها، والتي لا يمكن أن تكون في الواقع الملموس إلا ترجمة لمجهودات تنظيرية لزعماء كبار.
* أستاذ جامعي بكلية الحقوق بسلا

«البام».. «ماكينة انتخابية» تلوح بتنافس شرس في الانتخابات المقبلة
إذا كان حزب العدالة والتنمية قد حقق اكتساحا كبيرا لنتائج الانتخابات الجماعية والجهوية على مستوى المدن، فقد تمكنت ماكينة الجرار من حرث الدوائر القروية بشكل خاص ب6655 مقعدا، مع الظفر برئاسة خمس جهات.
ورغم الانتقادات الشديدة التي وجهها الخصوم السياسيون للحزب لطريقة تدبيره للتحالفات، وصلت حد اتهامه باستعمال ما وصفوها أساليب «الترهيب والترغيب»، فقد حقق «البام» اختراقا واضحا لمكونات الأغلبية، وهو الذي استطاع أن يظفر بدعم قيادات وأعضاء في أحزاب تنتمي للتحالف الحكومي، مقابل اتهامات من قياديين في «المصباح» لحلفائهم ب»الخيانة».
وذهبت تحليلات مراقبين للشأن السياسي المغربي، استنادا إلى نتائج الانتخابات الأخيرة، إلى أن «البام» أضحى منافسا قويا لحزب العدالة والتنمية، مستفيدا من التراجع البارز لباقي مكونات المعارضة، نظرا لأوضاعها الداخلية المتأزمة، وأيضا من قدرات تنظيمية قوية تمكنه من التغطية الشاملة لخريطة الدوائر الانتخابية.
هذه القدرات تنضاف إليها صورة الحزب التي تساهم في عملية الاستقطاب، ومنها أنه حزب «قوي ونافذ» يوفر قدرات تنظيمية مهمة لمن يترشح باسمه. صورة تقابلها تصريحات قياديين في «البام» الذين يعتبرونه حزبا عاديا يحظى بالشرعية السياسية والانتخابية، التي أثبتتها الانتخابات الأخيرة.
ويرى عباس بوغالم، أستاذ العلوم السياسية في جامعة مولاي اسماعيل بمكناس، أن «حزب الأصالة والمعاصرة استفاد من تراجع نتائج وقوة باقي الأحزاب السياسية، خاصة المنتمية للمعارضة، وذلك لاعتبارات ترتبط أساسا بإشكالية الديمقراطية الداخلية». وأوضح في هذا السياق أنه «إذا لم تقم هذه الأحزاب بمراجعات داخلية ونقدية لتحقيق المزيد من الديمقراطية بما يجعلها في موقع قوة، فإن «البام» سيستفيد من هذا الوضع المتردي».
استشراف التنافس المحموم بين «البام» و»البيجيدي» في أفق انتخابات 2016 دفع بوغالم إلى التأكيد على أن الخريطة السياسية ستعرف تغيرات بالنظر إلى المخاض الذي تعرفه الأغلبية والمعارضة، والذي يبقى من أبرز تجلياته توجه قيادة حزب الاستقلال، الذي كان يشكل عنصرا أساسيا في المعارضة، إلى الاصطفاف في المعارضة النقدية للحكومة.
واعتبر بوغالم أن «استمرار الوضع كما هو عليه الآن سيجعل حزب الأصالة والمعاصرة يحافظ على مواقع متقدمة في الانتخابات، ما لم يتم توظيف أساليب أخرى لتعزيز موقعه»، ومشيرا إلى أن «التنافس السياسي ونتائج الانتخابات التشريعية القادمة مرتبطة أيضا بحياد السلطة».
وفي تفسيره للقدرات التنظيمية التي يتوفر عليها «الجرار»، عاد الخبير السياسي إلى ظروف نشأة هذه الحزب. وهنا سجل بوغالم أن «الأصالة والمعاصرة استفاد من منشطات سياسية جد قوية، وهو ما برز في انتخابات 2009 حيث كان آنذاك حزبا حديث الولادة لكنه استطاع في ظرف سنة أن يحصل على المرتبة الأولى في الانتخابات، مما يؤكد أنه حزب غير عاد على شكل ماكينة انتخابية».
واعتبر المتحدث ذاته أن «هذا الحزب تم تأسيسه ليستحوذ على المشهد السياسي وهو ما تحقق في انتخابات 2009، حيث استفاد من قربه من السلطة والريع السلطي، مما وفر له كافة الإمكانيات المادية والمعنوية، التي تفسر اكتساحه لتلك الانتخابات».
وقال بوغالم: «كنا أمام حزب لديه قدرة على استقطاب الأعيان وذوي النفوذ المحلي، والكائنات والرموز الانتخابية التي كانت تنتمي لأحزاب أخرى، وكانت لديه أيضا قدرة على استقطاب أصحاب رؤوس الأموال لتوفير إمكانيات جد ضخمة، خاصة أن الجانب المالي في الانتخابات يعتبر محددا أساسيا بالنسبة للأحزاب».
وذهب أستاذ العلوم السياسية بجامعة مولاي اسماعيل إلى أن «الجرار» كان يتوفر على قدرة استقطاب غير عادية، بل وأعطى لنفسه صورة معينة داخل الحقل السياسي ولدى الفاعلين السياسيين بأنه حزب قوي ومحسوب على دوائر السلطة، وهو ما ساهم في هذه القدرة الاستقطابية التي كانت تتم بأساليب مختلفة سواء بالنسبة للأفراد أو حتى بالنسبة لبعض الأحزاب.
كل هذه الاعتبارات جعلت، حسب بوغالم، هذا الحزب في موقع قوة. «الصورة التي تأسس عليها تتلخص في أنه قريب من السلطة وليس عاديا، بل آلة انتخابية يراد منها حصد أغلب أصوات المواطنين للتحكم في نتائج الانتخابات»، ومشيرا إلى أن «الحزب استفاد من كافة الإمكانيات والخبرات على المستوى التنظيمي».
وأورد المتحدث ذاته أن «جرعة المنشطات السياسية التي جعلته يتبوأ الانتخابات في 2009 هي نفسها التي منحت له إبان الحراك الذي عرفه المغرب سنة 2011، حيث تلقى آنذاك ضربة قاسية لدرجة أنه كان يفكر في حل نفسه». وأضاف: «من الناحية المظهرية فهو حزب قوي، لكن الحراك الذي عرفه المغرب في 20 فبراير كشفت عورته، وهو ما دفعه إلى التواري والخفوت».
واستطرد موضحا في هذا السياق: «بعد الحراك والاستفتاء على الدستور الجديد كان يفترض أن تنظم الانتخابات قبل 3 سنوات، لكنه تم إعطاء فرصة للأصالة والمعاصرة حتى يستنهض هممه ويعيد ترتيب أوراقه ويوضع في غرفة العناية المركز ويسترجع قدراته التنظيمية، إلى أن رجع للمشهد السياسي في حلة جديدة».
وبخصوص استراتيجية الحزب الانتخابية، فيرى الخبير السياسي أن الحزب اتبع استراتيجية حاول من خلالها أن يكتسح الانتخابات من خلال التغطية الواسعة للدوائر وتوفير إمكانات ولوجيستيك يستعصي على كافة الأحزاب أن توفره، وهو ما تجلى في عمليات الاستقطاب والحملة الانتخابية التي وظف فيها إمكانات جد مهمة.
تراجع أحزاب المعارضة مقابل نجاح الأصالة والمعاصرة في الظفر برئاسة خمس جهات، يؤكد أن الحزب قد دخل مرحلة جديدة تفتح الباب أمامه ليلعب «نهائي» تشريعيات 2016، وهو الذي أكدت الانتخابات الأخيرة أنه استعاد عافيته بعد الضربات التي تلقاها إبان الحراك المغربي، مع ما تحمله هذه المعطيات من إمكانيات تحقيق تقارب سياسي «براغماتي» مع حزب العدالة والتنمية.

«البيجيدي».. حزم تنظيمي وقوة انضباطي على أرض المعركة الانتخابية
بلقاضي: «البيجيدي» يتوفر على كتلة انتخابية قارة وقوته في ديمقراطيته الداخلية
كشفت الانتخابات الجماعية والجهوية للرابع من شتنبر الجاري عن القوة التنظيمية لحزب العدالة والتنمية، ومستوى انضباط أعضائه لقرارات قيادة الحزب بعد معركة التزكيات التي انتصرت فيها ديمقراطيته الداخلية وقادته لاكتساح نتائج كبريات المدن المغربية، بشكل يفسح الطريق أمامه للوصول إلى محطة تشريعيات 2016 باطمئنان.
قوة الديمقراطية الداخلية جعلت الحزب الإسلامي يواجه كثيرا من المحطات الحاسمة في تاريخه بسلام. فبعدما كان الجميع يتوقع سنة 2008 أن يستمر سعد الدين العثماني على رأس الأمانة العامة، خرج عبد الإله بنكيران ليزيح زميله استنادا إلى المنطق الديمقراطي، وهاهو اليوم يقود «المصباح» في أوج عطائه السياسي وتوافقاته التي جعلته على رأس أول حكومة بعد الحراك المغربي.
وفي الوقت الذي واجهت عدد من الأحزاب إشكالات تنظيمية وصراعات قوية ترتبط أساسا بمنح التزكيات، ومحاولة فرض قياداتها لوجوه سقطت فجأة على الساحة السياسية، بدا حزب العدالة والتنمية صارما في غربلة المرشحين. أما بعض الوجوه البارزة التي لم يتم اختيارها لخوض غمار الانتخابات فقد انضبطت لنتائج الديمقراطية الداخلية، ونزلت إلى الشارع لدعم جيل جديد من المرشحين في الحملة الانتخابية.
صرامة عملية منح التزكيات للترشح إلى الانتخابات لم تخلف في المجمل خسائر تذكر، باستثناء بعض الاستقالات المحدودة، إذ أن الأساس في العملية برمتها هو أن الأمانة العامة للحزب يوكل إليها البت في الأسماء المرشحة للجهات والمدن الكبرى، بينما يبقى للمكاتب الجهوية حق اقتراح المرشحين للجماعات، بعدما أصبحت لجنة الترشيح التي يختارها المؤتمر هي التي تبت في أسماء المرشحين على أن توافق عليهم لجنة التزكية التي لا حق لها في رفض قرارات هذه اللجنة إلا بثلثي أعضائها.
نتائج حزب العدالة لن تكون مفاجئة لمن يحلل طبيعة تعاطي الحزب مع الشأن السياسي بشكل يومي، وقوة تواصله الذي يعتمد أولا على منطق القرب في العلاقة مع المواطن. فأغلب وزراء الحزب وقياداته لم يقطعوا حبل التواصل مع المواطنين، وظلت الكتابات المحلية والإقليمية والجهوية تنظم التجمعات الخطابية والندوات والمحاضرات التي خلقت علاقة قرب بين المواطن وقياديي حزب.
ثاني معطى يؤكد القوة التواصلية للحزب هو إيمانه بمؤهلات الموارد البشرية الداخلية، والاعتماد على المناضلين وليس على «عمال الانتخابات» الذي يتحلقون مساء كل يوم أمام مقرات الأحزاب للحصول على أجرة عملهم في الحملة الانتخابية. هذا المعطى يجعل أعضاء الحزب يدافعون عن برامج ومواقف يؤمنون بها، ويدخلون في حملات تواصل مباشر مع المغاربة.
كل هذه العوامل جعلت أعضاء حزب العدالة والتنمية الأكثر انضباطا لقراراته، ومنها المتعلقة بإبرام التحالفات مع مكونات الأغلبية. ففي الوقت الذي كانت قيادات وأعضاء بعض الأحزاب يدخلون في تحالفات غير مؤشر عليها من طرف أحزابهم، بدا حزب العدالة والتنمية صارما، واتخذ قرارات تأديبية في حق المخالفين.
ويشير تحليل «الحزم التنظيمي والقوة الانضباطية» لمستشاري العدالة والتنمية إلى أن عدد الأعضاء الذين لم ينضبطوا بلغ 12 من أصل 5195، وهو ما يشكل حوالي 1.2 في المائة. وفي الآن ذاته اتخذت في حق جميع المخالفين لتوجهات «المصباح» قرارات تأديبية بتجميد العضوية أو الإقالة، كما وقع على مستوى مدينة الناظور.
ويرى ميلود بلقاضي، أستاذ العلوم السياسية بجماعة محمد الخامس في الرباط، أن كل المؤشرات تدل على أن حزب العدالة والتنمية سيكون حاضرا بقوة في الانتخابات المقبلة، وبأن الكتلة الناخبة التي حصل عليها في انتخابات 4 شتنبر ستبقى هي نفسها إن لم تتسع نتيجة تعاطف المواطن معه بعد أن خذلته بعض أحزاب التحالف الحكومي في انتخابات رؤساء الجهات.
ويؤكد المتحدث ذاته أن أول عامل يساهم في قوة العدالة والتنمية هو أن قيادة الحزب نظيفة وغير متورطة في ملفات فساد، وهي مسألة حولها شبه إجماع وتشكل نقطة قوة أمينه العام، حيث يصعب على خصومه إثبات تورطه في أي فساد أخلاقي أو سياسي أو مالي.
ثاني معطى يفسر قوة الحزب هو «الأداء المتميز لفريقه بالبرلمان، وهي ميزة يشهد بها كل متتبع للشأن البرلماني المغربي، بمن فيهم خصوم الحزب حيث يتميز أعضاء الفريق بالانضباط والحضور المستمر للجن وللجلسات العمومية، والذكاء في التدخلات وطرح الأسئلة»، إلى جانب الحكامة الجيدة سواء في التدبير المالي أو في مبادئ تدبير شؤون الحزب وتسييره عبر الالتزام بمبادئ الديمقراطية الداخلية، وإخضاع الترشح للمناصب السامية لمساطر صارمة، وتطبيق مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة .
وسجل بلقاضي انضباط مناضلي «المصباح» لمبادئ الحزب ولقرارات قيادته ولقواعد النظام الأساسي للحزب ولنظامه الداخلي. بيد أن قوته الضاربة، وفق التحليل ذاته، تتمثل في معايير وآليات اختيار مرشحيه للاستحقاقات الانتخابية، حيث يخضعون لمعايير نوعية وذكية صارمة تتحكم فيها المؤسسة الحزبية وليس الأمين العام عكس باقي الأحزاب.
وأوضح الخبير السياسي أن «العدالة والتنمية يتوفر على كتلة انتخابية قارة وملتزمة تصوت على مرشحيه مهما كان موقع الحزب، وهي نتيجة قوية لانضباط مناضليه وهياكله، الذين يشكلون قوة انتخابية لا تتغير، عكس باقي الأحزاب». وأضاف أن «الحزب لا يعول على اسم وكيل اللائحة أو اسم بعينه ما دامت صناديق اقتراعه الداخلي هي التي تحدد المرشحين ووكلاء اللوائح والكل ينضبط لقرارات الحزب».
وأورد في هذا السياق أن «البيجيدي» لم يلجأ في الحملات الانتخابية للكائنات العاملة المؤدى لها عن مهامها، «وهذا هو سر عدم تجاوز مرشحيه سقف مصاريف الحملات الانتخابية لأنهم يتوفرون على مناضلين حقيقيين يقومون بالحملة عن قناعة وبأخلاق وبدون أي مقابل».
وأشار بلقاضي إلى الدور الذي لعبه استغلال محطات التسجيل في اللوائح الانتخابية بتنظيم قافلات الدعم والتعبئة والتحسيس في التسجيل في اللوائح الانتخابية، وهو ما ساهم في تسجيل أكثر من 300 ألف شخص في آخر محطة للقيد في اللوائح الانتخابية، بما يشكل كتلة صوتت لصالح الحزب في الوقت الذي كان فيه قادة أحزاب المعارضة منشغلين بعبد الإله بنكيران.
نتائج الانتخابات الجماعية والجهوية أكدت أن صورة حزب العدالة والتنمية لم تتضرر، وأظهرت في المقابل قوة قدراتها التنظيمية والتواصلية التي مكنته من إقناع الطبقة المتوسطة بالتصويت لصالحه، في الوقت الذي كانت تتوقع أطياف المعارضة أن يتلقى ضربة قاسية بعد القرارات «اللاشعبية» التي لم يتردد رئيس الحكومة والأمين العام ل»المصباح» في اتخاذها.

القطبية السياسية.. هل تؤسس منافسة «المصباح» و«الجرار» لمرحلة جديدة؟
غياب الرؤية الإيديولوجية وضعف النخب يؤجلان مشروع التقاطب
تفصح خريطة توزيع المقاعد الجماعية بين انتخابات 2009 وانتخابات 4 شتنبر 2015 عن تقلص كمي في عدد الكيانات والتكتلات الحزبية الممثلة. فبينما توزعت ال27 ألف مقعد المتبارى عليها في 2009 بين 28 حزبا وتكتلا انتخابيا لم يتجاوز عدد الأحزاب والتكتلات الممثلة في خريطة الفائزين في الانتخابات الجماعية أخيرا 12 حزبا. ثمانية منها حصلت على أكثر من ألف مقعد بينما لم تتجاوز باقي الأحزاب الأربعة سقف 330 مقعدا. هذه المتغيرات الإحصائية ما بين 2009 و2015 قد تفصح عن توجه نحو تراجع ظاهرة البلقنة وسير حثيث وهادئ نحو الثنائية القطبية السياسية. هذا الافتراض يتعزز من خلال بروز حزبين كبيرين كمتنافسين رئيسيين في الانتخابات الجماعية الأخيرة وربما في الانتخابات التشريعية المقبلة يمكنهما أن يشكلا قطبين سياسين مؤسسين لمرحلة جديدة في الحقل السياسي المغربي ألا وهما: حزب العدالة والتنمية وحزب الأصالة والمعاصرة. لكن إذا كانت الأحداث الانتخابية الأخيرة وبعض المعطيات الرقمية تدفع نحو فرضية تقاطب سياسي بين هاتين الهيئتين فهل توفرت لهما الشروط الإيديولوجية والسياسية والمجتمعية الكفيلة بجعلهما على رأس مشروع القطبية السياسية والحزبية؟
إيديولوجيات متقاربة
من المفترض أن تشكل الأقطاب السياسية والحزبية في أي حقل سياسي انعكاسا واقعيا للتيارات الفكرية والقيمية التي تخترق المجتمع. في فرنسا على سبيل المثال هناك توزيع تاريخي فرضته الثورة الفرنسية بتاريخها الطويل وتداعيات الحربين العالميتين الأولى والثانية بين تيارين رئيسيين: تيار محافظ ويميني يميل إلى تقديس قيم الوطن والجذور المسيحية للبلاد والعناية بقيمة الأسرة والسلطة، وجد هذا التيار المجتمعي صداه في كل الأحزاب الجمهورية الفرنسية التي يمثلها اليوم الاتحاد من أجل حركة شعبية بقيادة الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي. أما التيار الثاني فهو تيار تقدمي وحداثي منفتح يميل إلى العناية بالحرية الفردية وتقديسها والانفتاح على الآخر وتعزيز دور العلمانية في المجتمع وقد وجد صداه في التيار اليساري والاشتراكي الفرنسي ممثلا في الحزب الاشتراكي الحاكم بقيادة الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند. هذا المثال المدرسي يمكن أن نسقطه قليلا على واقعنا السياسي الذي يعاني أصلا من انفصال تام بين القواعد المجتمعية والهيئات الحزبية وتوجهاتها الفكرية وقراراتها التنظيمية. وإذا كانت بعض الأصوات تدفع بتحويل الأصالة والمعاصرة والعدالة والتنمية إلى رؤوس قطبية ثنائية حزبية جديدة فإن السؤال المطروح والملح سيبقى حول الفرق الإيديولوجي والفكري بين الحزبين. هل هناك صدع إيديولوجي حقيقي بين هذين الحزبين يمكن أن يجعلهما يمثلان تيارين فكريين متناقضين يتنافسان من أجل الوصول إلى السلطة وتفعيل برامجهما الانتخابية.
الظاهر أنه لا فرق فالإسلاميون ورغم الجذور الدينية المعروفة لحزبهم إلا أن توجهاتهم الليبرالية الاقتصادية مثلا تتقاطع مع توجهات «الباميين» الذين يمثلون إلى حد كبير تيار رجال الإعمال ومصالح جماعات ولوبيات رأس المال. وإذا كان العدالة والتنمية حزبا يستند إلى شعبيته ومصداقيته لدى الجمهور فإن برامجه الإصلاحية الاقتصادية والاجتماعية تجعله في مصاف الأحزاب النيوليبرالية المتغولة التي تجعل مصلحة الدولة وتوازناتها المالية والاقتصادية في طليعة الأولويات السياسية ولو على حساب مكتسبات الناخبين الاجتماعية.
هذا يعني أن الشرط الإيديولوجي والفكري غير متوفر لتصور إمكانية تقاطب سياسي بين هذين الحزبين مما يفترض مناقشة إمكانية إحياء الحزب الإيديولوجي الذي يبدو أنه قد انهار في ظل التسابق الانتخابي وعجز الأحزاب عن تلميع صورتها وعلاقتها بالجمهور.
انهيار اليسار
إذا كان هناك من تقاطب سياسي وحزبي في التجربة المغربية فإنه لا يمكن أن يكون خارج مساهمة اليسار والاشتراكيين. التجربة الفرنسية والأمريكية والبريطانية دالة في هذا الإطار، فكل المنافسات الانتخابية في هذه الديمقراطيات العريقة تجري بين حزب يمثل اليسار والاشتراكيين وحزب يمثل اليمين والليبراليين. ومن هذا المنطلق لا يمكن لتجربة القطبية الحزبية في المغرب أن تخرج عن القاعدة فوجود حزبين ذوي توجهات متقاربة من الناحية الإيديولوجية في سباق المنافسات الانتخابية لا يعني تحقق القطبية المنشودة. إن إحياء اليسار الكبير والموحد كان دائما حلما لكل القوى الاشتراكية في البلاد. والحال اليوم أن هذا الحلم يبتعد عن المنال أكثر من أي وقت مضى بالنظر إلى الأزمة التنظيمية العميقة التي يعاني منها حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية المفترض فيه أن يقود التجربة. فبعد الانشقاقات الحزبية والنقابية وتراجع الترتيب الانتخابي وخروجه من جل المواقع التي سيرها في الولاية الجماعية المنصرمة يبدو من المستحيل المراهنة على الاتحاديين كي يساهموا في قيادة مشروع الثنائية القطبية.
القطبية المزيفة
يفترض في القطبية الثنائية أو الثلاثية إضافة أحزاب الوسط أن تسهم في الحد من التعددية المزيفة والمعرقلة للتطور الديمقراطي. هذا يعني اختصار الجهد الحزبي والسياسي في تيارات حزبية قوية وقادرة على تنفيذ برامجها وتصوراتها في حالة من الانسجام والاستقرار الحكومي في حال توليها القيادة والمسؤولية. لكن هذا السقف الإصلاحي لا يمكن بلوغه في نظام سياسي يتميز بقدر من الازدواجية بين مؤسسة ملكية تحظى بنسبة هامة من صلاحيات التدبير السياسي، ورئاسة حكومة تحظى بنسبة أخرى من هذه الصلاحيات. هذا يعني أن الحزب الكبير الذي يمكنه أن يشكل قطبا سياسيا قائم الذات يفتقد أصلا إلى ما يمكن أن يجعل منه حلا حقيقيا لأزمة البلقنة والتعددية المعرقلة للتطور.
في حالة الأحزاب الوطنية، تبدو فرضية توزيع التقاطب بين الجرار والمصباح مغامرة تحليلية سابقة لأوانها بالنظر إلى أن هناك فاعلين حزبيين آخرين لم يقولوا بعد كلمتهم الأخيرة. أهم هؤلاء الفاعلين هو حزب الاستقلال الذي يتقاطع في كثير من تصوراته وتوجهاته مع هذين الحزبين فهو ذو هوية محافظة بل ويعتبر سباقا إلى تبني المرجعية الدينية حتى قبل تأسيس حزب العدالة والتنمية. هذا الحزب الذي لا يزال ماكينة انتخابية حقيقية لن يكتفي بالفرجة في حال تنافس بين «البام» و»البيجيدي» على الانتخابات التشريعية المقبلة. فهناك موقع ما يجب أن يحتله الاستقلال. وإضافة إلى حزب شباط هناك هيئات حزبية أخرى تتمتع بالجذور التاريخية ولها حضور قبلي وجهوي وازن من الصعب تصنيفه على صعيد إيديولوجي ضمن قطب محدد يمثله حزب الحركة الشعبية الذي يستفيد انتخابيا من حضوره في المناطق القروية، الأمازيغية منها على الخصوص. أما الفاعل الآخر الذي لا يمكن توقع الإطار القطبي السياسي الذي يمكن أن يندرج تحته ممثلا في حزب التجمع الوطني للأحرار، الذي يرى فيه المراقبون آلة انتخابية لا أقل ولا أكثر وورقة لصنع التوازنات وبناء التحالفات المهددة. هذا هو الدور الذي لعبه هذا الحزب على سبيل المثال في إنقاذ التحالف الحكومي بعد خروج الاستقلاليين منه.
هذا المشهد الحزبي المعقد عصي على الفهم والتصنيف في إطار القواعد السياسية والفكرية المتعارف عليها في الديمقراطيات التي استطاعت بناء تقاطب حزبي فعال وناجح. فغموض الرؤية الإيديولوجية وغيابها أحيانا، وخضوع الحزب لمنطق الحصاد الانتخابي، وتحكم الإدارة وضعف النخب التي تفرزها الهيئات الحزبية كلها عوامل تجعل المشهد السياسي الوطني لا يزال بعيدا في الوقت الراهن عن بلوغ قطبية سياسية حقيقية لا تفرضها فقط خريطة النتائج الانتخابية بقدر ما تكون انعكاسا للتوجهات والتيارات الفكرية التي تخترق المجتمع واستجابة لاحتياجاته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.