شكل مشروع الإستيطان الإسرائيلي ما قبل قيام الدولة العبرية عام 1948، وما بعدها أحد أهم ثوابت السياسة الإسرائيلية ، بل أهمها على الإطلاق ، لأية حكومة إسرائيلية أيا كان لونها طيفها السياسي . وقد مر هذا المشروع بثلاث مراحل متوالية ، تكمل الواحدة الأخرى ، وتمهد لها . المرحلة الأولى ، إبتدأت في القرن التاسع عشر ، وتحديدا في العام 1872 ، يوم أقيمت أول مستوطنة يحمل اسمها دلالة ذات مغزى كبير . إنها مستوطنة " بتاح تكفا " ، وبالعربية مفتاح الأمل ، وقد أطلق المستوطنون عليها آنذاك " أم المستوطنات " . المرحلة الثانية ، وقد ابتدأت غداة قيام الدولة العبرية في يوم الخامس عشر من أيار / مايو 1948 . وقد اتصفت بعمليات تدمير واسعة للبلدات والقرى الفلسطينية التي أقيم على أنقاضها أشكال متنوعة من المستوطنات " الكيبوتسات والموشافات والناحلات " . إلا أن أكثر المراحل ازدهارا في تنفيذ المشروع الإستيطاني ، كانت المرحلة الثالثة التي ابتدأت غداة احتلال كامل التراب الفلسطيني في العام 1967 ، والتي مضى عليها حتى الآن أربعة عقود ونيف ، وتحديدا ثلاثة وأربعون عاما ، أسفرت ببساطة متناهية عن تغيير واضح المعالم في خارطة الضفة الفلسطينية جغرافيا وديموغرافيا . وبلغة الأرقام والإحصائيات إقامة 440 نقطة استيطانية ، وأكثر من 100 ما يسمى بؤرا استيطانية عشوائية بالإضافة إلى منطقة صناعية ، على مساحات شاسعة من الأرض الفلسطينية مزودة بشبكة شبكة من الطرق الإلتفافية التابعة لهذه المستوطنات . واسرائيل بطبيعة الحال ترفض رفضا باتا أن تجمد عمليات الإستيطان ، وترفض كل الضغوطات عليها بهذا الصدد لعلمها أنها ليست جادة كما يبدو للبعض . تقودنا هذه المقدمة إلى ما يدور هذه الأيام من أحاديث عن تجميد للإستيطان لمدة ستة أشهر مقابل اعتراف الأنظمة العربية بإسرائيل وتطبيع علاقاتها معها . تقود هذه الأفكار وتسوق لها الولاياتالمتحدة الأميركية . في خطابه الأخير في جامعة القاهرة والموجه إلى العالم الإسلامي ، طالب الرئيس الأميركي باراك أوباما العرب والمسلمين أن يبنوا جسورا للثقة مع إسرائيل . إلا أن وزيرة خارجيته هيلاري كلنتون كانت أكثر وضوحا من رئيسها ، فطالب الأنظمة العربية أن تهيء شعوبها للتطبيع مع إسرائيل بحجة أن التطبيع هو الذي سينهي الإحتلال . وقد أكمل جورج ميتشيل هذا السيناريو بإيقاف حديثه عن الإستيطان ، واستبدله بالدعوة إلى التطبيع . وفي الكونجرس طالب أعضاء جمهوريون وديموقراطيين الرئيس أوباما أن يضغط على الأنظمة العربية لاتخاذ خطوات حقيقية نحو التطبيع . وتتمثل هذه الخطوات بإنهاء مقاطعة الجامعة العربية ، والإلتقاء بمسؤولين إسرائيليين ، وفتح الأجواء العربية أمام الطيران المدني الإسرائيلي ، ومنح الإسرائيليين تأشيرات دخول إلى الأقطار العربية ، ودعوة الإسرائيليين للمشاركة في المؤتمرات الأكاديمية والإقتصادية والرياضية والثقافية وغيرها . والسؤال الذي يتبادر إلى الأذهان : وهل بقي هناك أنظمة عربية لم تطبع علاقاتها مع إسرائيل ؟ . والجواب كلا وألف كلا . لكن المقصود من هذه الدعوة المزيد من سحب ما تبقى من أوراق القضية أو بمعنى أدق تصفيتها ، دون أن يكون هناك إنهاء للإحتلال الإسرائيلي الجاثم على صدور الفلسطينيين والكاتم أنفاسهم ، أو حل مشرف عادل لقضيتهم . إن الفلسطينيين لا تنطلي عليهم مثل هذه الدوات المشبوهة . إن القضية لا تتعلق بتجميد الإستيطان فحسب . إنها تجميد يرافقه تفكيك لكل أشكال الإستيطان المقام على الأراضي الفلسطينية المغتصبة . والأمر لا يقف عند هذه الحدود ، فالإستيطان جزء لا يتجزا من إفرازات القضية الفلسطينية . والتطبيع بكل الأحوال يكون نتيجة ، ولا يعقل أن يكون سابقا إيجاد حل مشرف للقضية الفلسطينية . هناك استحقاقات أخرى تمثل ثوابت لا يمكن لأي فلسطيني أن يتنازل عنها ، بدءا بإزالة الإحتلال ، وتحرير كافة الأسرى من سجونهم ومعتقلاتهم ، مرورا بإقامة الدولة الفلسطينية كاملة السيادة على برها وبحرها وأجوائها ومعابرها البرية والبحرية وعاصمتها القدس ، وأخيرا وليس آخرا تطبيق حق العودة بحذافيره ، ووفقا لما نص عليه قرار الشرعية الدولية الصادر عن الأممالمتحدة وهو القرار 194 . وعودة إلى موضوع الإعتراف والتطبيع . إن الفلسطينيين لا يتصورون أن يكون هناك اعتراف بالكيان الصهيوني قبل الإستحقاقات الآنفة الذكر ، وهي الحد الأدنى من مطالبهم . إن الدعوة للإعتراف والتطبيع ما هي إلا مؤامرة هدفها إنهاء القضية وتصفيتها . والسؤال الذي يتبادر إلى ذهن كل فلسطيني : ما هو الضمان أن لا يكون في الأمر خديعة ، وهذا ما يشتمه الفلسطينيون فعلا ؟ . إن الفلسطينيين يأملون من أشقائهم العرب والمسلمين أن لا تنطلي عليهم هذه المؤامرة الخطيرة ، وأن لا يهرولوا لها . والفلسطينيون ما زالوا يذكرون كيف كانت القضية الفلسطينية تحتل أولى أولويات أجنداتهم السياسية . إلا أنها ومع الأيام أخذت تتراجع حتى وصلت إلى ما وصلت إليه من إهمال وتخل عنها . وفي حقيقة الأمر لقد قلبت الأنظمة العربية ظهر المجن لهذه القضية ، وترك أصحابها يواجهون مصائرهم وحدهم . إن الفلسطينيين يذكرون أشقاءهم بنكبتهم ، وبمرارات الإحتلال التي يعانونها ، وما فعله جدار الفصل العنصري بهم . إنهم يذكرونهم بمئات المستوطنات التي افترست أفضل أراضيهم ، ويذكرونهم بما تفعله قطعان المستوطنين من قلع وحرق واعتداءات سافرة عليهم . ويذكرونهم بالحواجز والإجتياحات والإقتحامات المستدامة والإغتيالات والإعتقالات التي تمارسها قوات الإحتلال . عسى هذه الذكرى تنفعهم . إن الحال ما زالت على ما هي عليه ، بل أسوأ مما يتخيلون ويتصورون . لم يتغير أي شيء على الإطلاق ، بل زادت الأمور سوءا ، وتدهورت الأحوال المعيشية والصحية والتربوية والإجتماعية والنفسية جراء الحصارات التي تفرضها قوات الإحتلال . فهل هذا هو السلام الذي يبشرون به ؟ . وهل هذه الأحوال المزرية تستحق أن يكافأ عليها بالإعتراف والتطبيع ؟ . وهل محو ذكر النكبة الفلسطينية من القاموس الإسرائيلي ، وشطب كل الأسماء العربية بغية تهويدها يمكن أن يكون بادرة حسن نوايا من قبل المحتل ؟ . إن الولاياتالمتحدة الأميركية بطرحها هذا تتجاهل الشعب الفلسطيني ، وتلتف على قضيته بكل مكر ودهاء ، إلا أنهما مكشوفان للعيان . وما أشبه الليلة بالبارحة . ما أشبه عهد الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش الإبن بعهد الرئيس الحالي باراك أوباما ، والفارق أن بوش لعبها على المكشوف يوم أعطى وعده لشارون إبان توليه رئاسة الحكومة الإسرائيلية بإلغاء حق العودة ، والإبقاء على الكتل الإستيطانية الكبرى في يد إسرائيل . في حين أن اوباما يلف ويدور ويناور للوصول إلى ذات الهدف . فلسطينيا ، لقد خبر الشعب الفلسطيني طوال سني نكبته الكثير الكثير من وسائل الترهيب والترغيب والتحديات والمؤامرات والأساليب الملتوية للتنازل عن منظومة حقوقه التاريخية ، إلا أنه ظل ثابتا ومتمسكا بها ، وهو لايملك إلا هذا الخيار مهما بلغت تضحياته بالنفس والنفيس . عربيا وإسلاميا ، إن الفلسطينيين يأملون أن يحافظ أشقاؤهم العرب والمسلمون على ما تبقى من أوراق قضيتهم . وهم يرجون من الله جل جلاله أن لا يفرطوا بها . إن فلسطين جغرافيا مقدسة . وإن القدس وقد أوشك تهويدها أن ينتهي تستصرخ ضمائرهم باسم الأقصى المبارك والصخرة المشرفة . إن القدس والأقصى من العقيدة السمحة التي يشترك فيها العرب والمسلمون ، وهي من تاريخهم المجيد . وعسى الذكرى تنفع المؤمنين . وإن غدا لناظره قريب .