سقط رجل من الطابق العاشر. وهو يهوي... كان كلما مر أمام شرفة طابق، يسأله جيرانه، كيف تجري الأمور؟ فيجيبهم: كل شيء على ما يرام إلى حدود الآن. استمر يهوي ويقدم ذات الجواب، إلى أن وصل الطابق الأول... حين سأله جاره هناك كيف الحال، لم يجد وقتا للجواب... هذا بالضبط ما حدث للإسلامويين. على امتداد عقود من "تسييس الدين وتديين السياسة" في بلدي، قامت الفكرة الإسلاموسياسية على خطاب ولغة شعبوية صرفة، استعملت كل المفردات الممكنة التي يمكنها النفاذ إلى "بطون" الناس ومشاعر غضبهم، عوض الرهان على مشروع سياسي واضح وقابل للتقييم والمحاسبة. لغة... لم تجد قط حرجا في استعمال جميع أدوات الحرب في مرادفاتها الأشد بشاعة، كالتشكيك في الذمة المالية للخصوم، وهو ما يمكن أن نستحضره مع قيادي العدالة والتنمية عبد العزيز أفتاتي حين قال إن جميع الأحزاب المغربية "راكمت ثروات مشبوهة خلال تدبيرهم للشأن العمومي باستثناء العدالة والتنمية"... دون أن يقدم شبه دليل، ودون أن يتقدم بشبه شكاية أمام القضاء لمحاسبة اللصوص. الرهان على مخاطبة "غضب" الناس و"خوفهم"، سيصل حد مشاركة وزراء العدالة والتنمية، وعلى رأسهم رئيس الحكومة السابق بنكيران، في احتفالات فاتح ماي، لحث العمال والمستخدمين على النضال في مواجهة ذات الحكومة التي يقودها بنكيران... الواضح أن الذي أرق الأزمي، أكبر بكثير من حسابات تعويضات وتقاعد، الذي أرقه، كما يؤرق العدالة والتنمية، هو ذلك الشعور المتزايد، بأن ساحة الشعبوية لم تعد حكرا على البيجيدي، وأن هناك لاعبين جدد أتقنوا ذات اللغة وحملوا نفس السلاح، وأن الشعبوية لم تعد ماركة مسجلة باسم الإسلامويين. هنا، يمكن أن نستحضر مثلا، ما فعله مصطفى الخلفي الناطق الرسمي باسم الحكومة والمكلف بالعلاقات مع البرلمان والمجتمع المدني حينها، وهو يخطب في العمال خلال احتفالات فاتح ماي قائلا: "هادشي اللي كاتدير الحكومة تجاهكم ما شي معقول وما كافيش"، مضيفا في ذات الجملة: "لا خير في حكومة لا تنصت للحركة النقابية". طبعا... يمكننا أن نستحضر أيضا، واحدة من أهم تفاصيل الشعبوية وعناوينها في حياة العدالة والتنمية، وهي لحظة سيطرة بنكيران على قواميس الخطاب السياسي المغربي، من خلال الاستنجاد بلغات "التماسيح والعفاريت"، ومفردات "التقزديرة" وغيرها، لنصل معه إلى واحدة من أهم لحظات "العدم"، وهي لحظة "الدشيرة الجهادية". في الدشيرة الجهادية، خلال لحظة انتخابية، استعمل بنكيران كل لغات الخلط والشعبوية، حين اعتبر أن الفيضانات والأمطار القوية التي عرفها المغرب بين 2012 و2015، وخلفت خسائر في الأرواح والبنيات التحتية والمحاصيل الزراعية، لم تكن في الحقيقة سوى ترجمة لرضا الله على حكومة بنكيران ودعما قويا لها، تزامن مع "رضا آخر من الله" وهو ما عبر عنه بنكيران بقوله: "الله سبحانه وتعالى عاونّا، الثمن ديال البترول طاح، والثمن ديال ليصانص طاح، والثمن ديال المازوط طاح". ... مع بنكيران في الدشيرة الجهادية "كولشي طاح" حينها... "طاح" ثمن البترول والمازوط وليصانص، و"طاحت" الشتا، و... طاح النيفو ديال السياسة إلى الحضيض، ليس فقط بسبب ربط التغيرات المناخية وتقلبات الأسواق الدولية ب "رضا الله" على العدالة والتنمية وبنكيران، ولكن أيضا وأساسا، لأن في الدشيرة الجهادية، سيقترف بنكيران الأبشع، حين سيلمح إلى أن موت "عبد الله باها" كان أمرا مدبرا، حيث قال بالحرف: "هناك من يهددنا ونحن نعرف قراءة الرسائل لكننا لا نريد أن نفضح الأمور، وإذا مات سي باها فنحن مستعدون للموت في سبيل الله". طبعا، بعد هذا التصريح، ستنفي "مصادر من رئاسة الحكومة" أن يكون بنكيران قصد التشكيك في الرواية الرسمية بخصوص موت عبد الله باها. لكن... وكما هي عقيدة الشعبويين، الأهم كان قد تم إنجازه. والأهم هنا، هو التشكيك في موت باها، أما النفي... فلا أحد سيلتفت إليه. تلك بضع أمثلة (قليلة) فقط، تتيح لنا، اليوم، القولَ إن الشعبوية في عقيدة العدالة والتنمية، قامت على أساس واضح وبسيط، هو التركيز على مخاطبة "شعب" مجهول أو غير محدد المعالم، بشكل مباشر وبلغة مباشرة هدفها التشكيك في كل ما يمكن أن يعتبر "نخبة"، وفي كل ما يمكن أن يعتبر "خطابا" معارضا للعدالة والتنمية، وجعله مرادفا ل "الدولة العميقة"، "التماسيح والعفاريت"، "ناهبي الثروات والمستفيدين من الفساد".... نفس الفساد الذي، حين سؤل عنه بنكيران قال: "عفا الله عما سلف". السؤال اليوم، هو... لماذا وجدنا أنفسنا نتابع انفعال قيادي العدالة والتنمية "إدريس الأزمي"، وهو "يهاجم" الشعبوية والشعبويين حين تعلق الأمر بقضية الجمع بين التعويضات ومعاشات البرلمانيين؟ وجعلته في ذات الجملة، يتغنى بقوة ومتانة المؤسسات الدستورية في المغرب وحكمة الملك، في حين أنه وإخوانه، لم يتركوا فرصة تمر دون أن يشككوا في القضاء، ودون أن يعتبروا أن المغرب تحكمه "الدولة العميقة" لا المؤسسات؟ شعبوية البيجيدي، ظلت ببساطة حاضنة وقريبة من كل تعابير الخوف، كي تجعل الناس ملتصقين بكوابيسهم أكثر من الانتماء لأحلامهم... والذي حدث في النهاية، أن البيجيدي وجد داخل ساحة الحرب التي اختارها، محاربين جدد، قرروا أن يخوضوا ذات الحرب، بذات الأسلحة... وأن يجعلوا الأزمي وإخوانه... يخافون من وعلى كوابيسهم. البعض، اعتبر أن الأزمي في انفعاله، كان يدافع عن نفسه ومصالحه، كان يدافع عن جمعه بين تعويضات وامتيازات كثيرة متحصلة من ممارسة السياسة، لكنني شخصيا، لست أرتاح لهكذا تفسير... في تقديري المتواضع... الواضح أن الذي أرق الأزمي، أكبر بكثير من حسابات تعويضات وتقاعد، الذي أرقه، كما يؤرق العدالة والتنمية، هو ذلك الشعور المتزايد، بأن ساحة الشعبوية لم تعد حكرا على البيجيدي، وأن هناك لاعبين جدد أتقنوا ذات اللغة وحملوا نفس السلاح، وأن الشعبوية لم تعد ماركة مسجلة باسم الإسلامويين. انفعال الأزمي بهكذا تفسير، يحيلنا على معطى أساسي في لعبة تعريف الشعبوية، كما شرحها الكبير "أمبرطو إيكو" حين قال ما معناه: " بما أن الشعب، كما هو متخيل، لا وجود له، فإن الشعبوي يخلق صورة افتراضية للإرادة الشعبية". والذي حدث مع الأزمي في النهاية، هو ببساطة، نتيجة لذلك الخوف "المشروع" من أن ينقلب السحر على الساحر... أن يصبح ذلك الشعب الافتراضي وتلك الصورة الافتراضية للإرادة الشعبية، مرادفا لإرادة تعتبر العدالة والتنمية خصما، خصوصا حين نفهم أن عقيدة الشعبوية، لا تؤمن بوجود "خصوم" أصلا، ولكن فقط... بوجود "أعداء". الذي حدث في النهاية، هو أشبه ب "زعزعة عقيدة شعبوي". عقيدة الشعبوي... تقوم على ركن أساسي، يجعل الخوف برنامجا انتخابيا وثقافة ولغة. والإسلامويون راهنوا دائما على عقيدة الخوف... الخوف من التماسيح والعفاريت ومن اليسار الكافر الملحد ومن الحريات الفردية ومن الدولة العميقة... شعبوية البيجيدي، ظلت ببساطة حاضنة وقريبة من كل تعابير الخوف، كي تجعل الناس ملتصقين بكوابيسهم أكثر من الانتماء لأحلامهم... والذي حدث في النهاية... أن البيجيدي وجد داخل ساحة الحرب التي اختارها، محاربين جدد، قرروا أن يخوضوا ذات الحرب، بذات الأسلحة... وأن يجعلوا الأزمي وإخوانه... يخافون من وعلى كوابيسهم. الشعبوية في هذه اللحظة، هي أقرب لحكاية الثعبان... الثعبان حين يجوع، حين لا يجد طعاما... يبادر إلى أكل نفسه. إلى أكل خلاياه الميتة.