إن إقرار المراسيم التطبيقية لمقتضيات القوانين المالية ليست من اختصاص البرلمان وحده‚ بل حتى القانون نفسه ليس حصريا من اختصاصه. بحيث نجد هذا القانون (الفصل 70 من الدستور الحالي) ينص على أنهيأذن للحكومة أن تتخذ في ظرف من الزمن محدود‚ ولغاية معينة‚ بمقتضى مراسيم تدابير يختص القانون ذاته عادة باتخاذها‚ ويجري العمل بهذه المراسيم بمجرد نشرها. ويضيف الفصل 78 من نفس المرجع لرئيس الحكومة ولأعضاء البرلمان على السواء حق التقدم باقتراح القوانين. وفي نفس السياق جاء في الفصل 79 من الدستور‚للحكومة أن تدفع بعدم قبول كل اقتراح أو تعديل لا يدخل في مجال القانون.لكن‚ في الواقع‚ ليس هذا هو المهم‚ بل الأهم هو أن من المميزات الأساسيةللقانون في المغرب أنه في العديد من الحالات يشرع ولا ينفذ بالضرورة‚ وحتى وإن نفذ فهو نادرا أو في غير محله أحيانا‚ كما أنه ينهال العلم أحيانا أخرى من أصحابها ولا يصرح لا بهذا السلوكولا بأسمائهم‚بل ينتحل كذلك ولا يعترف‚يتملك‚ في إطار الملكية الأدبية‚ولا يعوض من ضاع منه حقه. تغترف بعض المؤسسات العمومية وتقتبس من المصادر الأصلية أو من خلال مستشاريها وخبرائها‚وهو نفس الشيء‚ ولا تعترف‚ولا تذكر هذا الاقتباس‚بل تتملك ملكيات الآخرين وكأنها هي التي أبدعتها.نلاحظ كذلك‚ زيادة على هذا‚ قصور وأخطاء كثيرة في البحث العلمي والأكاديمي‚بل يفتقر البحث العلمي وخصوصا الرسمي منه إلى مقاربة تاريخية علمية حقيقية وموضوعية صارمة.تراكمت تاريخيا وجغرافيا وثقافيا أخطاء كثيرة شوهت معالم المالية والمسار العلمي للمالية ساهم فيها الغرب والشرق على السواء.نلاحظ هذه الأخطاء في الكثير من المفاهيم والمصطلحات والمعاني والوقائع والأحداث المالية والاقتصادية والميزانياتية والمحاسبية وغيرها. نلاحظ كذلك قصور وأخطاء كثيرة في الإنتاج التشريعي سواء الحالي منه أو القديم‚ بحيث يفتقر هذا الإنتاج إلى مقاربة بنيوية واضحة المعالم‚ دقيقة المعنى ومرتكزة المضمون. أعطي على سبيل المثال فقط لا الحصر القوانين التنظيمية الحالية للجماعات الترابية : ثلاثة قوانين جل مقتضياتها متكررة وضعيفة بنية وتحليلا ومضمونا(راجع مقالنا على الانترنيت في هذا الباب: دراسة نقدية في القوانين التنظيمية للجماعات الترابية‚ 2016). نلاحظ كذلك نوعا من الانكماش والانطواء على النفس‚بالنسبة لأهم الهيئات والمؤسسات العمومية‚ سواء البرلمان أو الحكومة أو الإدارة‚ وعدم انفتاحها بالفعل على الوسط العلمي وعلى المحيط والواقع التي تتطور فيهما. والغريب في الأمر أن الجامعة‚كمؤسسة عمومية‚واعية بهذه الوضعية‚وتحاول ما أمكن الخروج من هذه القوقعة، لكن بالتدقيق وسطها المؤسساتي والسياسات العمومية المتبعة يرجعونها حتما إلى حالها. صحيح‚ إن أخطاءكثيرةتراكمت في مجالات شتى‚ نذكر من بينها على وجهالخصوص المالية العمومية.شوهت هذه الأخطاء تاريخ هذه المادة من خلال ما جاء في الإنتاجات التشريعية الحالية أو القديمة‚ سواء تعلق الأمر بالدستور‚ الجانب المالي منه‚ أو بالقوانين المالية‚ أو بالقوانين التنظيمية للقوانين المالية أو بالمناشير والدوريات الحكومية في المجال المالي. وصل صدى هذه الأخطاء‚ للأسف‚إلى الفقه والتعليم والصحافة‚ ورددوها‚ بدون انتقاد‚مرارا واستمرارا‚ معتقدين أن كل هذه النصوص القانونية جاءت بالفعلبمستجدات ومكتسبات وإصلاحاتمالية‚ تعود بالنفع وبالخير على المغرب وعلى المغاربة‚ بما فيهم الفئة المهمشة والجالية‚ في حين أن دولا كثيرة في العالم تنعم حقا بخيراتها وتوزعها على أبنائها في هدوء وتواضع بدون أدنى ثرثرة ولا تبجح. Il y a certes, et c'est connu, les diseurs et les faiseurs ! Ceux qui parlent et ceux qui font : deux réalités diamétralement opposées. وهذه الحقائق تطرح‚ زيادة على إشكالية التواضع والمسؤولية والتفاني في العمل‚إشكالية الجهل بالتاريخ الحقيقي للمادة‚ وأثارها الاقتصادية والاجتماعية على البلد‚ ناهيك عن السرقة العلمية‚ وإن كانت في بعض الأوساط العمومية أو الرسمية. إن هذه السلوكاتهي غالبا مصدر كل هذه الأخطاء وتكراراتها. Le plagiat est la subtilisation du savoir d'autrui, le vol littéraire de l'effort d'autrui, l'usurpation de la propriété intellectuelle d'autrui. إن المناقشة والمصادقة البرلمانيةعلى القوانين المالية والقوانين التنظيمية‚ يردد هؤلاء‚ وقد يكونون أحيانا على حسن نية‚تترجم وتجسدالمستجدات والإصلاحات والمكتسبات التي أتت بها هذه القوانين على مر هذه السنوات والعقود.لكن في الواقع كل هذه المفاهيم والوقائع التي تعبر عنها هذه القوانين نادى بها مفكرون وطالبت بها شعوب وأعلنتها شرائع مند زمن بعيد.نلاحظ يوميا كذلك هيئات ومؤسسات ومنظمات وباحثين ينادون بمفاهيم ومصطلحات ويظنون أنها ابتكارا وأنهم ابتكروا وجاؤوا بالجديد في المجال المالي. كما نلاحظه في هذه التعابير : جاءالقانون رقم كدا وكدا بعدة إصلاحات‚ كرس الدستور الحالي عدة مستجدات‚ أقرت الترسانة القانونية الحالية عدة مكتسبات. ويسردون حالات عديدة:كالحفاظ على الموازنة في المالية أو التوازن المالي‚ نقل الاختصاصات وتحويل الموارد للجماعات الترابية‚ تعزيز آليات الحكامة الجيدة‚ تخليق الحياة العامة‚ترسيخ مبادئ الشفافية والصدقية المالية والمسؤولية والمحاسبة‚ مراقبة وحماية المال العام من التبذير والاختلاس...وبصفة عامة‚ نجد مفاهيم ومصطلحات أخرىعديدة في المجال المالي: كالتضامن‚ أفقيا أو عموديا‚ المحاسبة العمومية‚ سواء العامة منها أو التحليلية‚أو البرمجة المتعددة السنوات‚ والجهوية واللامركزية والاستقلال المالي‚ وبصورة أوسع‚ الدولة الحارسة والدولة المتدخلة والدورة الاقتصادية... كل هذه المفاهيم والمصطلحات ليست تعابير جديدة ابتكرت لأفكار وأحداث ووقائع حالية وحديثة‚ بل مصطلحات وتسميات قد تكون جديدة أحيانالكن أغلبيتها قديمة قدم الإنسانية‚ تنطبق على نفس الأحداث والمؤسسات والوقائع التي يرجع تاريخها أو أصلها إلى آلاف السنين‚ بل عشرات الآلاف من السنين. مفهوم الموازنة في المالية يرجع أصله إلى آلاف السنين:لمسناه في الحضاراتالبابلية وفي حضارة ما بين النهرين أو الهلال الخصيب بصفة عامة‚ وفي مصر القديمة‚ واستشففناه في بلاد الفرس والإغريق والرومان. تدبير عمومي مسؤول وتخليق الشأن العام ومراقبة وحماية المال العام من التبذير والاختلاس كرسته التشريعات والممارسات الإسلاميةوذلك منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم في العقود الأولى من القرنالسابع ميلادي‚بحيث أنه ترك‚ منذ آخر سنة 629 ميلادية‚ دولة قوية‚ نظاما وتنظيما‚ قائمة في حدودها الجغرافيةعلى إدارة وقضاء وجيش‚ وواقع دواوين ونظام مالي‚ وقواعد مالية ومحاسبية. وجاء من بعده الخلفاء الراشدون وعلى رأسهم عمر بن الخطاب الذي كان تدبيره المالي وسياسته المالية في قمة المسؤولية والنزاهة والشفافية والاتزان. يربط ابن خلدون (1332-1406) منذ القرن الرابع عشر في مقدمته (1378) حجم الجباية وأهميتها بطبيعة الدولة وقوتها أو ضعفها‚ و مدى تدخلها في الاقتصاد.بحيث يفسر هذه العلاقة ليس من ناحية العنف والجبروت بقدر ما يفسرها من خلال التدبير, أو حسن الدين كما يقول‚ أي حسن السلوك والتدبير الجيد لشؤون الدولةوالاقتصار على الجباية الشرعية.ويؤكد المؤرخ والعالم الاجتماعي على أن مسار الدولة في أولها وفي وسطها وآخرها‚ أي نموها وتطورها, قوتها وسيادتها ثم ضعفها, انحطاطها وأفولها مرتبط أشد الارتباط بدرجة تدخلها في الاقتصاد وبطبيعة الضرائب‚ كثرتها أو قلتها وحجمها. يؤمن التيار الليبرالي كذلك وكذا الماركسي‚ وغيرهما‚ بوجود دورة اقتصادية, وكأنهم ابتكروها. On distinguait habituellement selon ces théories les cycles courts (Kitchin), moyens (Juglar), longs (Kuznets, Kondratieff),... في حين أن الدورة الاقتصادية في الواقع توجد منذ آلاف السنين‚ وأول من قال بها هو النبي يوسف ابن يعقوب عليه السلام‚ الأب الروحي لكل هذه النظريات‚ وذلك منذ أزيد من 2500سنة‚عندما أمر ملك مصر بحضوره من السجن لتفسير حلمه. إني أرى, قال الملك, سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف, وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات, قال يوسف عليه السلام يأتيكم الغيث والخصب سبع سنين متواليات وسبع شداد‚ فاخزنوا الحصاد والغلاة لاستهلاكه في السبع الشداد, بعد الجدب يعقبه الغيثوتغل البلاد ويعصر الناس ما كانوا يعصرونه من زيت وسكر ولبن. (يفاد كذلك من يعصرون يحلبون‚عن علي بن أبي طلحة عن إبن عباس). وقد نتساءل كذلك هل يمكن تصور وجود دولة قائمة ذاتيا‚ بمفهومها الواسع‚ بدون أن تكون لها مالية ؟ أي وجود إقليم‚ ساكنة وحكومة‚ من غير أن تتوفر على مالية وتنظيم مالي‚ بالمعنى الشامل لهذه المصطلحات ؟ Le Professeur Paul Amselek, posait depuis un certain temps déjà la question :« Peut-il y avoir un Etat sans finances ? », mais le spécialiste de finances publiques et de philosophie de droit ne considérait pasl'Etat au sens où je le considère aujourd'hui, loin, très loin, dans les entrailles de l'histoire de l'humanité : au-delà de 10 000 ans. فالدراسات التاريخية والأنتروبولوجية والأركيولوجيةالمعمقة للأنماط الاجتماعية والسياسية والاقتصادية تكشف لنا وجود تنظيمات مالية أو أنظمة وأعراف مالية مكتملة من حيث إدارة وتدبير الموارد والنفقات‚ ومصادرها الاقتصادية كالأرض والغابة والملك العام والتجارة والحرف‚ وتحصيل‚ على أساسها‚الجبايات والمكوس والغرامات والأثمنة‚ وأوجه صرفها‚ في الأمن والإدارة وبناء الأسوار والقصور والطرق والمعابد‚ وحفر الآبار والري وقنوات الري‚ وذلك مند فجر الحضارات الإنسانية.بحيث نجدها في حضارة ما بين النهرين‚ويرجع تاريخها إلى 10000 سنة‚ في الصين منذ 8000 سنة‚ وفي مصر القديمة‚ الفرعونية‚ منذ 6000 سنة‚ وفي الفرس القديمة منذ 5000 سنة‚ والهند منذ أزيد من 4500 سنة‚واليونان منذ 2600 سنة‚ وروما منذ 2300 سنة... ونجدها كذلك‚ إذا اقتربنا تاريخيا من عصرنا نسبيا‚ في الحضارة العربية الإسلامية منذ القرن السابع ميلادي (629) إلى القرن الثالث أو الرابع عشر‚ بل إشعاعها ظل ساطعا إلى غاية القرن السادس عشر (16) ميلادي‚ مع إرساء عصر النهضة في أوروبا‚ بل النهضة ذاتها قامت‚ بشكل واضح‚ على أنقاض الحضارة العربية الإسلامية‚ وهذا شيء طبيعي‚فقد أثبت التاريخ بدون منازع تطعيم وتلاقح الحضارات. الحضارة اللاحقة تأخذ عن الحضارة السابقة‚ وهكذا دولك. وأقامت الدولة الإدريسية في المغرب تنظيما ماليا منذ مطلع القرن التاسع (9) ميلادي. ناهيك عن الحضارة الأمازيغية ودرجة التنظيم المالي الجماعي فيقبائلها‚ وحدات كانت أم كونفدراليات‚ وذلك منذ أزيد من2400 سنة. Il y avait effectivement dans cette période de l'histoire des « Berbères » ou des Amazighs une organisation financière collective structurée et confirmée. En conséquence, je conclurai cet article en ces termes : Il n'y a pas de doute ! Tout a été dit, tout a été institué, expérimenté, ou presque, etnous sommes arrivés trop tard ! Beaucoup trop tard ! Alors, Messieurs les diseurs, modestie ! Modestie ! Modestie ! La science c'est la sobriété, la rigueur, la modestie et l'objectivité dans la recherche !La vraie science, en fait, c'est celle du fait, celle qui guide le politique et génère du bonheur et du bien social, le bien– être pour la population ! Toute la population ! Rien que la population ! Je vous remercie. J. Chabih, PES, FSJES, UCAM, Marrakech. * الجلالي شبيه أستاذ التعليم العالي بجامعة القاضي عياض بمراكش متخصص في القانون والمالية والضرائب ومنهجية البحث العلمي