قال الله عز وجل في سورة الأنعام: «وإن يمسسك الله بضرّ فلا كاشف له إلا هو. وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير» [سورة الأنعام؛ 6/18]. من أسماء الله الحسنى: الضار النّافع. وفي الحديث الشريف: «احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله؛ واعلم أنّ الأمة لو اجتمت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله لك، رفعت الأقلام وجفت الصّحف» [رواه الترمذي، وقال حديث حسن صحيح]. وهذه حقيقة أخرى من حقائق فقه الدّعاء في القرآن الكريم، وهي أن يعلم الإنسان أنّ النّفع والضرّ بيد الله وحده، فهو الضار النافع، فلا ينبغي له، حينئذ، أن يلجأ إلى غيره سواء من أجل تحصيل منفعة أو من أجل دفع مضرة. هذا ما أكدته هذه الآية الكريمة وآيات أخرى سنقف عندها بعد. وهي تربّي القلب الإنساني على دوام التعلّق بالله وحده، وعدم الالتفات إلى غيره، إذ هو الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه المصير. فما أصاب الإنسان من ضراء لا يمكن أن يكشفها عنه إلا الله، ومهما بذل من جهدٍ واتخذ من أسبابٍ واستعان به من أعوانٍ لا يندفع ضره إلا بإذن الله، وكذلك ما طلبه الإنسان من نفع لا يمكن أن يحصل له إلا بإذن الله تعالى، ومهما بذل من جهدٍ وسلك من مسالك لتحصيله لا يحصله إلا بإذن الله. والآية دعوة ضمنية إلى اعتقاد هذه الحقيقة الكونية اليقينية الكبرى، والعمل بمقتضاها. أي الإيمان بها وتطبيق لازمها العملي الذي هو إفراد الحق سبحانه بالدعاء والاستعانة والالتجاء والتوكل. وما من شكّ أنّ ثمرة هذا الإيمان والعمل المترتب عليه والذي هو الدعاء الخالص هي تحقيق المراد. لأن النفع والضر بيد الله وحده كما بيّنت الآية. والله أرحم الرّاحمين وهو لا يخيب من قصده، موحّدا، متوكّلاً. وإذا كانت هذه الآية خطاباَ للنبي الأكرم صلى الله عليه وسلم فهي، في نفس الوقت، تعليم للناس وتنبيه لهم. ولما كان الرسول صلى الله عليه وسلم الأسوة للمومنين وكانت سنته وسيرته نبراسي الهداية ومشكاتي الاسترشاد، كان عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم سيّد المتوكّلين المخلصين. فقد وهبه الله العلم اليقيني بأن الله هو الضار النافع، ورزقه المشاهدة اليقينية لتجلّيات هذين الاسمين الكريمين، والعمل القلبي والسلوكي وفق مقتضيات ذلك اليقين، والسيرة العطرة شاهدة على كل ما ذكر. وهذا يتطلب من المسلم أن ينهج نهج هذا الرسول الأكرم اعتقاداً وأدباً وتوكلا صادقاً واعتماداً كليا على الله عز وجل. كما أنّ الحقيقة اليقينية التي بيّنتها هذه الآية تجعل معتقدها والعامل بها صادق الدعاء، راسخ الأدب فيه، موقنا بالإجابة، متبتلا إلى ربّه، معلّق القلب بخالقه. لأنه تعلم منها أنّ الضر والنفع بيد الله وحده. وقال عز من قائل: «ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرّعون، فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرّعوا. ولكن قست قلوبهم وزيّن لهم الشيطان ما كانوا يعملون. فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء. حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون. فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين) [سورة الأنعام: 6:43/46]. ما فتئت آيات الله تعالى تذكّر كفّار قريش بمصير الأمم المكذّبة السابقة، عسى أن يكون في قصصهم عبرة لمعتبر. وهذه الآية الكريمة تندرج ضمن هذا السياق التذكيري الوعظي إذ تستحضر صورة تاريخية متكررة لأمم جاءتهم رسلهم بالبيّنات فكذبوا وأعرضوا فسلط الله عليهم العذاب لعلهم يرجعون ويتوبون، وذلك قول الله سبحانه: «ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون»، حيث كان المقصود من إصابتهم بالبأساء والضراء اللتين تضيق معهما الحياة، وتستحيل إلى جحيم يدفع من يقاسي آلامه إلى طلب الخلاص كان المقصود من ذلك أن يحصل منهم التضرّع إلى الله والإنابة إليه، إذ في ذلك لو أنهم فعلوا تعبير عن الإيمان والتعلق بالله والتوبة إليه. لكنهم لم يتضرّعوا حتى في أحلك الظروف ولم يجأروا إلى الله بالدّعاء حتى في أتون الصّروف. وذلك قوله سبحانه: «فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرّعوا ولكن قست قلوبهم وزيّن لهم الشيطان ما كانوا يعملون». فقد كان مقتضى المعاناة والمحن التي قاسوها بسبب نزول البأساء والضرّاء بهم أن يتضرّعوا إلى الله، والتضرّع يتضمن منتهى الانكسار والاضطرار بالدّعاء طلباً للنجاة أو للتخلص من مكروه فظيع أونيل مطلوب عظيم. لكن هذه الأمم المكذبة لم تتضرّع بسبب قسوة قلوب أفرادها، وتزيين الشيطان لهم أعمالهم. حيث صاروا يرون المنكر معروفا والمعروف منكراً. وقسوة القلب نتيجة طبيعية ومباشرة للغفلة عن ذكر الله، والإعراض عن دينه، ومخالفة رسله. «فلما نسوا ما ذكّروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون. فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمينى». بعد أن امتنعت هذه الأمم عن التضرّع إلى الله رغم ما أصابها، ونسيت المواعظ التي وعظها بها الرسل بل لم تلتفت إليها، لم يأخذها الله بعقابه مباشرة، بل أمهلها وأملى لها مكراً بها واستدراجاً «ويمكرون ويمكر الله. والله خير الماكرين» [سورة الأنفال الآية 30]، فظنوا أنهم تخلّصوا من العقاب والعذاب أبدا، وأنّهم سيمتعون بعد المعاناة دائماً، وإذا بهم يفاجأون بالعقاب الإلهي ينزل بهم بغتة فيستأصلهم ولا يبقي منهم أحدا «فقطع دابر القوم الذين ظلموا. والحمد لله رب العالمين». الحقيقة أنّ هذا الدّرس التاريخي ليس موجّها لقريش وحدها، ولا إلى الأمم والجماعات وحدها، بل هو موجّه، على وجه العموم والاستغراق إلى الأفراد أيضا. فكل إنسانٍ مدعوّ إلى امتثال الأوامر والنواهي الإلهية، وإلا كان معرّضاً للعقاب، فإذا نزل به ضرّ أو بأسٌ ولم يتضرّع إلى الله ويلحّ في الدّعاء ليكشفه عنه، وينجيه من محنته، كان عديم الإيمان أو ضعيفه على الأقل. ولا شك أن يصيبه مثل ما أصاب الأمم المكذبة المعاندة. بقي أن نشير إلى أنّ التضرّع إلى الله سبحانه وهو أقصى درجات اللجوء إليه بدعائه حيث تصاحبه أحوال روحية من اضطرار وخوفٍ وتعلّق ورجاء وإيمان قويّ وتوحيدٍ وتوكّل لا يقتصر على المسيئين بل يعم المطيعين أيضا. فهم كذلك يتضرّعون إلى الله وخاصّة بالأسحار «وبالأسحار هم يستغفرون» [سورة الذاريات : الآية 18] طمعا في رحمته وخوفاً من عذابه وإن لم يكونوا مسيئين. ولكن كما وصفتهم الآية الكريمة «والذين يوتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربّهم راجعون أولئك يسارعون في الخيرات. وهم لها سابقون« [سورة المومنون: الآية 62 ] ونختم بهذه الكلمات المنيرة للمرحوم الشيخ متولي الشعراوي: «لقد أرسل الحق لأمم سابقة رسلاً بالآيات والمنهج، فكذبتهم أقوامهم، فأخذهم الله بالشدائد والأحداث التي تضر إما في النفس، وإما في المال بالمرض، بالفقر، لعلهم يتضرّعون إلى الله سبحانه وتعالى. إذن فالحق حين يمس الإنسان بالبأساء أي بالشدائد أو بالضراء، أي بالشيء الذي يضرّ ويؤذي، إنما يريد من الإنسان أن يختبر نفسه، فإن كان مؤمنا بغير الله فليذهب إلى من آمن به، ولن يرفع عنه تلك البأساء وذلك الضر إلا عندما يعود إلى الله. وعندما يتضرّع إلى الله قد لا يقبل الله منه مثل هذا التضرّع. ويقول سبحانه «فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرّعوا ولكن قست قلوبهم وزيّن لهم الشيطان ما كانوا يعملون». إنه سبحانه يحثّهم ويحضهم على أن يتضرّعوا ويتذلّلوا إلى الله ليرفع عنهم ما نزل بهم، ولكن قلوبهم القاسية تمنعهم حتى في لحظة المس بالضر أن يلجأوا إلى الله خوفاً من اتباع التكليف. إنّ قسوة القلب تكون بالصورة التي لا ينفذ إليها الهدى وكما قال الحق: «كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون» [سورة المطففين] أي صارت قلوبهم مغلقة ومغطاة بعد أن طبع الله وختم عليها، فلا تقبل الخير ولا تميل إليه فلا يؤمنون». [تفسير الشعراوي: ص 3618 3619].