تقدم أحد الأمراء الخليجيين بنصيحة "غالية" لحل أزمة العراق وإيقاف الحرب العدوانية عليه، وهي أن يضحي صدام حسين من أجل وطنه، فيتنازل عن الحكم. وهذه تتضمن معنى شريفا، وربما فريدا، وهو أن يضحي الحاكم من أجل المحكومين، وهذا هو الأصل في الثقافة الإسلامية، الأمير أجير، فهو يضحي بوقته ليلا ونهارا ليقيم العدالة الاجتماعية في كل المجالات، وإذا اقتضت التضحية بما هو أغلى قدمه، فإن عجز عن تقديمه تنازل لمن هو أهل لذلك، ولكن هذا المعنى لم يعد له وجود منذ عهد بعيد. إلا أن طلب الأمير الخليجي لم يكن صائبا من حيث أسبابه ودواعيه، فهو يعلم جيدا، كما يعلم كل حاكم عربي وكل من يعرف صدام حسين، أن هذا الأخير لا يمكن أن يتنازل عن منصبه مهما كانت الظروف، وإذن فمطالبته بالتنازل عبث، وأعتقد أن السياسيين لا يعبثون، بل يقولون ما يعنون، عبارة أو إشارة. وإذا أضفنا لهذا الطلب علم الأمير بأن أمريكا لن تتراجع عن عدوانها مهما كلفها من ثمن، ولن تصغي لأحد عربيا كان أو أعجميا، فالشبهة حول العبث ستضعف ويصبح واجبا علينا مقاربة مقاصد النصيحة "الغالية". وحسب ما جاء في بعض التحاليل: أن النصيحة استهدفت التماسك العراقي الذي أعجز العدوان عن التقدم بسرعة قدرها في التخطيط وتباطأت له كثيرا في التنفيذ. هذا من جهة، ومن جهة أخرى تقوية تماسك الرأي العام الأمريكي حول قيادته العدوانية، لأن كلام الأمير عندهم هو شهادة الأخ ضد أخيه، ولعل هذا الاستنتاج هو الذي أغضب المسؤولين العراقيين حتى نعتوا الأمير الخليجي بالخيانة والاستسلام لأمريكا. وأنا لا أريد الوقوف طويلا أمام هذا الحدث الصغير، على خطورته، منشغلا به عن ضغط الطامة المتعاظمة التي تعيشها أمتنا من طنجة إلى جاكارتا. فلهذا سأطلب طلبا وأسدي نصيحة يحلم بها كل مواطن عربي ومسلم، ولن تجد في جمهورهم الأعظم من لا تراوده. وهي نفس النصيحة التي قدمها الأمير لصدام، أقدمها وأنصح بها حكامنا جميعا، ولكن في حدود معقولة مستطاعة لديهم إن قبلوا بها وسعوا إلى تنفيذها. والنصيحة هي: يا حكام الشعوب العربية والشعوب الإسلامية، إن الشعوب عانت بسبب إهمالكم من التخلف والأمية والانحلال والتبعية ما بدت نتائجه السيئة بعد ثلاثة عقود من الاستقلال، وقد أوصلتم الأمة العربية إلى أسفل السافلين، وهاهي الآن أهون من كل مهين وأحقر من كل حقير، وكلما نهضت لتنفض عنها غبار الهوان أضعفها تسلطكم وجبروتكم. واليوم وفي حمأة المعركة مع العدو، الشعوب تنتفض والقيادات تراوح مكانها لا تدري ما تصنع وكيف تخرج نفسها من المأزق. ولا خروج لها بعد اليوم إلا بالتلاحم مع شعوبها وبتقديم الكثير الكثير من التضحيات لصالحها، ولا يمكن لنار العدوان على العراق أن تطفأ، وزلازل فلسطين أن تهدأ، إلا إذا قمتم يا حكامنا قومة رجل واحد متعالين عن ذواتكم وأطماعكم ومكاسبكم الشخصية، فقد جمعتم ما يكفيكم ويكفي أبناءكم وأبناء أبنائكم. وبعد قومة الرجل الواحد تتخذون قرارات موحدة لتحرير الأرض وحفظ العرض وتصحيح المسار المستقبلي. واستحيوا من أنفسكم قليلا فإن الشعوب ضحت من أجل صلاح الأمة ضد أهوائكم وشهواتكم، فلما غلبت أمامكم على أمرها انتكست خائبة إلى الاهتمام بأوجاعها الفردية، وكادت تحبط عندما علمت أنكم استعنتم على قمعها بعدوها وعدوكم. ومع ذلك لما استضعفكم العدو وظن أن الشعوب تاركتكم له، لم تتأخر عن الاصطفاف خلفكم لترده معكم عنها وعنكم، ولم تبال بمن نعتها بفقدان الذاكرة وبالمهينة الذليلة. يا حكامنا خذوا على قدر ما أعطيتم، فإن أعطيتم كثيرا فخذوا كثيرا، وإن أعطيتم قليلا فخذوا قدره، وللأسف أنكم لم تعطوا شيئا ذا بال وأخذتم أكثر من اللازم. مع ذلك حلال عليكم بشرط أن تعطوا على قدر ما أخذتم، فقد أخذتم كل شيء فأعطوا قدره، أعطوا شطره، أعطوا عشر معشاره من أنفسكم لأمتكم تقهروا عدوكم وتدم لكم السيادة المحترمة. كونوا لله مع شعوبكم يكن الله لكم بتأييده وبتسخير الشعوب لكم عونا على الخير. واقتدوا بمن سلف من أئتمتنا العظام الذين حكموا الدنيا يوم حكموا أنفسهم وخدموا أمتهم وأوقفوا كل حياتهم لها... وتحرروا من الأوهام التي زرعها العدو فيكم وقيدكم بها واسترهبكم، فصرتم لا تسمعون إلا نداءه ولا ترون إلا شبحه، ويحكم إنه شبح ليس إلا، إن انتفضتم، وحقيقة قاتلة إن خفتم وركنتم. وفي الختام إنا نحبكم أن تكونوا معنا لا ضدنا في الكبير والصغير، في الجليل والحقير، ونكره ابتعادكم عنا بعدا يقربكم من عدونا وعدوكم. واذكروا هذا الحاكم العربي المسلم الأندلسي المحب لشعبه، وهو الملك الناصر باني الزهراء الفيحاء. قال الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله: "قحط الناس في أواخر مدة الناصر، فأمر القاضي منذر بن سعيد بالخروج إلى الاستسقاء فتأهب لذلك واستعد له وصام بين يديه (أي قبله) ثلاثة أيام، واستغفر الله من ذنبه، وأحصى حقوق الناس عليه فردها أو سألهم السماح بها، وخرج وخرج معه الناس جميعا، رجالا ونساء وولدانا. وقال لصديق له من خواص الخليفة وهو خارج: اذهب فانظر ما يصنع أمير المؤمنين؟ فعاد يقول: ما رأيناه قط أخشع منه في يومنا هذا، إنه لمنتبذ (منفرد) حائر لابس أخشن الثياب، مفترش التراب، قد رمى منه على رأسه وعلى لحيته، يبكي ويستغفر ويقول: "يا رب هذه ناصيتي بين يديك، فإن أذنبت أتراك تعذب الرعية بذنبي، وأنت أحكم الحاكمين وأنت قادر علي لن يفوتك شيء مني" فتهلل وجه القاضي، وقال لغلامه: اذهب فاحمل المِمْطر (المشمع) فقد أذن الله بالسقيا، إذا خشع جبار الأرض فقد رحم جبار السماء"، وقام يدعو، والناس يضجون بالدعاء والتوبة والاستغفار، فما انصرف حتى امتلأت السماء بالغيوم وبلل الناس المطرط. يا حكامنا يا أحبابنا تعالوا نجعل نواصينا جميعا بين يدي الله وندعوه خاشعين ليوحد صفوفنا ويقوي تماسكنا ويقهر بنا عدونا، لأنه إذا خشع جبروتنا وتواضع لله رفع الله جبار السماوات والأرض قدرنا. وجعلنا أغنى من كل غني وأقوى من كل قوي، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: "احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف". رشيد سودو