لا أحد ينكر الدور الذي لعبته الشريعة المحمدية، اتجاه الإنسانية بصفة عامة والطفل بصفة خاصة، من رعاية وعناية وتقديرا له باعتباره خليفة الله في الأرض، وأعظم مخلوقاته في الكون، وهي التي أعطته قيمته الحقيقية واعترفت بإنسانيته، وجعلته مناط تطور الكون وتقدمه وتحقيق إرادة الله فيه وحملته إياه الحياة ومسؤوليتها. وقد جاءت بمنهج متكامل تنظم مختلف نواحي حياة البشر، ومن ضمنها مجموعة من الأحكام التي شرعت لتنظيم حياة الطفل، ونشأته اجتماعيا وخلقيا ونفسيا، وروحيا ودينيا وتربويا، ولتصنع له كافة الحقوق والواجبات تجاه نفسه أولا، وتجاه ربه والآخرين ثانيا، لا يجوز حرمانه منها أو الانتقاص من جوهرها وألزمت المخاطبين بأحكامها بضرورة كفالتها وتوعدت من يخل بها بعقاب في الدنيا والآخرة. وبالرجوع إلى أحكام القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، يجد الباحث نفسه أمام عديد من الآيات ونصوص الحديث تدور جميعها حول حقوق الطفل وهي كثيرة ومتنوعة، منها ما يتعلق بالأم والأب والأسرة، ومنها ما يتعلق بالمجتمع الذي يعيش فيه مما يؤكد شمولية هذه الحقوق. وبالنظر في هذه الحقوق نستطيع القول، إنها حقا فرضها الله سبحانه وتعالى وليس لأحد فيها كرما أو منة، فهي لم تفرض عبر الشعارات، أو المؤتمرات، أو الندوات، أو الملتقيات، كما هو الحال في الكثير من التشريعات الحديثة القائمة الآن في غالبية الدول، بل هي حقوق مفروضة للأبد بإرادة الله، فهي لم تنتزع تاريخيا بنضال أو تصادم دموي أو عرقي، وهي ليست منحة من أحد يمن بها على من يشاء ويسلبها عندما يريد وإنما هي حقوق مقررة من عند البارئ عز وجل بمقتضى مشيئته الإلهية فهي ثابتة بنص قطعي لا تبديل ولا تغيير. والمتمعن في حقوق الطفل في الشريعة الإسلامية، يثبت أن هذه الحقوق تتسم بالعالمية فهي لم تخاطب مجتمعا بعينه، أو جماعة من الناس، أو عرقا محددا وإنما جاءت لكافة البشر على اختلاف أجناسهم وألوانهم. وتبدأ حقوق الطفل قبل وجوده، تبدأ من حيث البحث عن أم وزوجة صالحة قال عليه الصلاة والسلام: "فاظفر بذات الدين تربت يداك" (رواه البخاري)، وعن أم ودود ولود كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم: "تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة" (رواه أحمد)، وفي حديث آخر: "تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس".(رواه ابن ماجة) كما أن هناك تحريضا على اختيار الزوجة الصالحة، ذات الأصل الطيب نظرا لما يترتب على ذلك من نتائج وراثية، وتربوية مستقبلية. ومجيء الأولاد ليس مقصودا لذاته، بل ليكونوا أعضاء صالحين في المجتمع، ولن يكون لذلك نتائج وراثية إلا بتكوين أسر يتم بها بناء المجتمع، ولا تتحقق الأسرة إلا برباط مثين يربط بين أفرادها ليعيشوا متحابين متعاطفين. ويدعو الإنسان قبل وجود الطفل بقوله: "رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء" [سورة ال عمران، الآية: 38] كما كان نبي الله زكرياء يدعو بذلك. فإذا وجد الطفل ذكرا كان أو أنثى، كان له من الحقوق والواجبات ما يضمن له صلاحه، فيحتفى به غاية الاحتفاء ويكرم غاية التكريم من أول أمره. وإليك بعضا مما جاءت به الشريعة الإسلامية: 1. التأذين: فسماع المولود هذا الآذان، يكون أول ما يقرع مسامعه كلمات متضمنة لكبرياء الرب وعظمته، والشهادة أول ما يدخل بها في الإسلام مع ما فيها من هروب الشيطان من كلمة الآذان. 2. تحنيك المولود: التحنيك هدي نبوي كريم شرع للمولود عقب ولادته، ومعناه تليين التمرة حتى تصير مانعة حيث تبتلع ويفتح فم المولود، ثم يدلك حنكه بها عند ولادته أو قريبا من ذلك، بوضع شيء من هذه التمرة على الأصبع وتحرك يمينا وشمالا، ولعل الحكمة من ذلك تقوية عضلات الفم بحركة اللسان مع الحنك والفكين، وتسهل خروج الأسنان حتى لا يشق على الطفل. 3. رضاعته من ثدي أمه: وهي حق من حقوق الشرعية للطفل وهو ملقى على عاتق الأم، وواجب عليها لقول الله تعالى "والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة" [سورة البقرة، الآية: 230]، وقد أثبتت الدراسات العلمية أهمية الرضاعة من لبن الأم وما يحمله هذا اللبن من عناصر غذائية وفوائد كثيرة نفسية وجسمية على المولود، ولكي تنال الأم حقها كاملا بحسن الصحبة كما ورد في الحديث عنه عندما سئل من أحق الناس بحسن صحبتي قال: "أمك ثم أمك ثم أمك"، فتكون الأم قد حملت وولدت وأرضعت. 4. اختيار الاسم الحسن: يختار له من الأسماء الحسنة ما تتعبد الله عز وجل وتتقرب إليه؛ لأن الاسم يستمر مع الشخص مدى الحياة ويكون رمزا ملازما له في هذه الحياة، فقد أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم بضرورة اختيار الاسم الحسن. أفضل الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمان، وأصدقها الحارث وهمام، ويتجنب الأسماء القبيحة والمحرمة والمكروهة شرعا. 5. حلق رأس المولود: وهو من الآداب المشروعة للوليد لقوله صلى الله علية وسلم: "مع الغلام حقيقة فأرهقوا عنه دما وأميطوا عنه الأذى" (رواه البخاري)، وإماطة الأذى هي حلق الرأس لقول النبي صلى الله عليه وسلم لسيدتنا فاطمة رضي الله عنها عندما ولدت الحسن "احلقي رأسه وتصدقي بوزن شعره فضة على المساكين"( رواه أحمد). 6. العقيقة : مما شرع للمولود أيضا العقيقة وهي سنة مؤكدة، ولهذا أحب الإمام أحمد أن يستقرض الإنسان لها، وقال إنه أحيا سنة وأرجو أن يخلف الله عليه وهي عن الذكر شاتان وعن الأنثى شاة واحدة. 7. الختان: وقد ورد في أحاديث كثيرة منها حديث أبي هريرة قال:" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الفطرة خمس... وذكر منها الختان". وللختان حكم دينية عظيمة وفوائد صحية، فهو رأس الفطرة وشعار الإسلام وهو يميز المسلم عن غيره من أتباع الديانات الأخرى. 8. الحضانة: عهدت الشريعة الإسلامية، بالحضانة للوالدين وحثهما على ضرورة التعاون وتهيئة البيئة المناسبة لحضانة الصغير، وحفظه وتربيته وطمأنينته عن كل ما يضره، أو يهلكه وجعلت الأولوية في الحضانة للأم، باعتبارها أحق الناس بهذه المسؤولية، واشترط الفقهاء إن تكون الحاضنة سليمة العقل صحيحة الجسم، قادرة نفسيا على القيام بواجبات الحضانة. ولقد حثت الشريعة الإسلامية، الأم على البقاء في المنزل من أجل أداء مهمتها على الوجه الأكمل، ألا وهي تربية الأطفال ومراقبتهم والاهتمام بهم وأن هذا هو عملها ومهمتها الأساسية وهي ليست مطالبة بكسب العيش الذي هو من مهام الرجل، كما يقول الله تعالى: "الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم" [سورة النساء، الآية: 33]. وبهذا فإن الشريعة الإسلامية، تحث على عدم إهمال الأطفال وتركهم لوحدهم، في البيوت أو المنازل، وهي إحدى العوائق التي تعاني منها المجتمعات المتحضرة التي تعيش الفردية في أقصى درجاتها. أما في حالة فقدان الأم فإن الحضانة تكون لامرأة أخرى من أقارب المحضون، وفق الشروط المحددة شرعا كالبلوغ والعقل والإسلام والقدرة على رعاية الصغير والأمانة. 9. حق الطفل في النفقة: مما جاءت به الشريعة وأوجبته في حق المولود على الوالد النفقة عليه حتى يبلغ الذكر وتتزوج الأنثى، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أفضل دينار ينفقه الرجل دينار على عياله" ( رواه مسلم)، كما جعلت الشريعة الإسلامية، النفقة للطفل واجبة على الدولة في حالة عدم وجود عائل له من أصلابه وفقا للهدى النبوي: "أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، فمن ترك دينا أو ضيعه فعليه ومن ترك مالا فلورثته" وبذلك حمت الشريعة الإسلامية الأطفال وبهذا المنهج المحمدي، تحمى حقوق الأطفال من الفقر والمجاعات والخصاصة والحاجة. 10. حق الطفل في حفظ ماله من الضياع: حرصت الشريعة الإسلامية، على الحفاظ على ممتلكات الصغار وأموالهم ونهت عن أكل مال اليتيم أو العبث بها، وتوعدت من يعتدي على أموال اليتامى ظلما، وفي هذا السياق يقول الحق سبحانه وتعالى: "ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده" [سورة الأنعام، الآية: 152] وقال أيضا سبحانه: "إنما الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا ويصلون سعيرا" [سورة النساء، الآية: 9] . كما أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجوب الإحسان إلى الأيتام والمحافظة عليهم والإنفاق عليهم ومساعدتهم وتيسير أمورهم حيث قال: "أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين" وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى. ومن هذا نستنتج أن الشريعة الإسلامية تهدف إلى تربية الأيتام كسائر الأطفال في المجتمع وتدعو إلى البر بهم والإحسان إليهم. هذا هو موقفها من اليتيم فأين موقف التشريعات الوضعية من تلك المعاملة الإنسانية الراقية التي حثت الشريعة المحمدية التعامل بها مع اليتيم. 11. حق الطفل في اللعب المباح: من القواعد الإسلامية مداعبة الطفل لسبع، وتعليمه لسبع ومصاحبته لسبع، وقد كان المصطفى عليه الصلاة والسلام يداعب الأطفال فقاللمن مات عصفوره من الأطفال: "يا عمير، ما فعل النغير" وهو الطائر الصغير، وكان يركب الحسن والحسين على ظهره في البيت. وذكر العقاد في عبقرية عمر أن أحد الولاة (الأقرع بن حابس التميمي) دخل على الفاروق عمر رضي الله عنه فرآه يلاعب طفلا ويقبله فأبدى الوالي دهشته وقال: "لي عشرة أولاد ما قبلت أحدا منهم، ولا دنى أحد مني"، فقال له عمر: "وما ذنبي إن كان الله عز وجل نزع الرحمة من قلبك، إنما يرحم الله من عباده الرحماء"، ثم أمر بكتاب الولاية أن يمزق وهو يقول: "إنه إذا لم يرحم أولاده فكيف يرحم الرعية". 12. حق الطفل في التربية الخلقية والإيمانية: من الحقوق التي ميزت الشريعة الإسلامية الأطفال بها حقهم في التربية الخلقية وأوجبتها على الوالدين، وأول أخلاق المطلوب تعليمها الصدق في القول، والصدق في الفعل، وتعليم الأخلاق الفاضلة كقول الله تعالى: "وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم" [سورة لقمان، الآية: 11]. "يا بني أقم الصلاة وامر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور" [سورة لقمان، الآية: 15]، وقال صلى الله عليه وسلم بن العباس: "يا غلام أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك" (الحديث رواه الترمذي)، وبذلك يعلمه المصطفى صلى الله عليه وسلم أسس التربية الخلقية والإيمانية. وفي الختام نخلص إلى النتيجة التالية، تتميز حقوق الطفل في الإسلام، عن غيرها في التشريعات الوضعية بالعديد من المميزات نذكر من بينها أن الحقوق المقررة في التشريعات الوضعية جاءت نتيجة لأوضاع اجتماعية ظالمة، أو بسبب مشكلات يعاني منها المجتمع ومن تم يحاول علاجها والسيطرة عليها بدراسات وتشريعات عرضة للخطأ والصواب والتعديل والتبديل. أما حقوق الطفل في الشريعة الإسلامية، فهي مقررة من رب العباد لا يضل ولا ينسى وهو الخالق العليم بما يصلح للنفس البشرية التي خلقها وسواها فأحسن صورتها، فجاءت أحكام الشريعة متخطية لحدود الزمان والمكان.