لايسع المتتبع للشأن القانوني في المغرب إلا أن ينوه بالعمل الذي تقوم به جمعية «نشر المعلومة القانونية والقضائية» في مجال اعادة نسخ وتحيين وطبع النصوص القانونية، حيث كان آخر منشوراتها العدد 14 المتضمن لقانون الالتزامات والعقود في حلة قشيبة ومغرية وجدابة. وقد قلت لي نفسي وكذا مع جلسائي من رجال القانون والصحافة أن هذه الجمعية لاشك أنها سدت الفراغ الذي تسرب من خلاله تجار النصوص القانونية الذين لايجدون حرجا في نسخ النصوص القانونية من الجريدة الرسمية حتى قبل وصولها الى العموم ويكتفون بوضعها داخل غلاف يحمل اسمهم وكأنهم ساهموا أو شاركوا في اعداد تلك النصوص القانونية، حتى أنه في بعض الأحيان قد تصطدم بنسخ كلها أخطاء قانونية ومطبعية مما يفيد أنها اعدت على عجل حتى قبل أن تقول الامانة العامة للحكومة كلمتها الأخيرة في النص. ترددت في كثير من الأحيان في اتخاد قرار تقديم دعوى قضائية في الموضوع أمام المحاكم المختصة والمطالبة بمصادرة تلك النسخ لأنها تفسد الحس القانوني وتوقع المتتبع العادي للحركة التشريعية في المغرب في شراك الجهل بالقانون. وأتذكر دائما حديثي مع المرحوم الدكتور عبدالقادر الرافعي خلال أيام تدريبية قضيتها بالمعهد الوطني للدراسات القضائية سنة 1998 كانت مخصصة لتكوين الأطر المكلفة بالمنازعات التي تكون الدولة طرفا فيها، كما أكد في ذلك في جلسة قبيل وفاته بأقل من أسبوعين وقد تمحور الحديث حول تجربته مع المطبوعات القانونية الفاسدة حيث كان قاضيا مبتدئا وأحيل عليه متهم متابع بمحاولة النصب طبقا للفصل 540 من القانون الجنائي، ولما كان المطبوع الذي بين يدي القاضي المختص لايتضمن أية اشارة الى عقوبة محاولة النصب قضى بالبراءة، غير أنه تبين له فيما بعد أن النص الفرنسي يتضمن العقوبة وكذا النص العربي الأصلي، بينما النص الذي طرحه مجهول في السوق قفز على الفقرة التي تنص على أنه «يعاقب على المحاولة في جنح النصب بالعقوبة المقررة للجريمة التامة». وبذلك فلت الجاني من العقوبة بفعل تهور تاجر النصوص القانونية. والمسؤولية هنا مسؤولية مشتركة بين هذا الأخير والدولة في شخص وزارة العدل والامانة العامة للحكومة لأنهما مسؤولان قانونيا عند مثل هذه المراقبة. وهذا ما تداركته جمعية «نشر المعلومة القانونية والقضائية» في السلسلة المعدة من طرفها في العدد 3، حيث أشارت إلى العقوبة المذكورة من خلال الفصل 539 من القانون الجنائي. لكن المثير للانتباه من خلال قانون الالتزامات والعقود المنشور من طرف الجمعية المذكورة في العدد 14، يناير 2009 أنه عوض أن يحسم في بعض المقتضيات القانونية، ولاسيما بعض المصطلحات وضع القارئ في حيرة وشك وريبة. ولا أخفي سرا إذا قلت أنني قبل الإطلاع على النسخة المذكورة كنت الى حد ما آمنا مطمئنا على المصطلحات الواردة في المطبوعات المطروحة في السوق التجاري القانوني، خاصة أن المشرف على نشرها بعض رجال القضاء أو غيرهم، بل كنت أعتمدها في الابحاث القانونية أو المذكرات والمقالات المرفوعة أمام المحاكم عند تكليفي بالدفاع عند حقوق الدولة في بعض المنازعات القضائية، ولكن في الوقت الراهن يحل لي ان أتساءل عن أي المصطلحات الواجبة الإعمال. ولتوضيح الفكرة أكثر أضرب بعض الامثلة المستقاة من قانون الالتزامات والعقود كما أعدته جمعية نشر المعلومة القانونية والقضائية التابعة فعليا الى وزارة العدل: تضمن الفصل 1 ما يلي: «تنشأ الالتزامات عن الاتفاقات والتصريحات الأخرى المعبرة عن الارادة وعن أشباه العقود وعن الجرائم وعن أشباه الجرائم». وقد أتى هذا الفصل تحت عنوان القسم الأول: «مصادر الالتزام»، ومباشرة بعد التنصيص على هذه المقتضيات تتم الاحالة على الهامش الذي يشير الى مايلي: «وردت في النص الفرنسي عبارة (des dilits et de presi) عن الجرائم وأشباه الجرائم بدلا عن الجرائم وعن أشباه الجرائم كما جاء في الترجمة العربية، فالجريمة (الخطأ العمدي) وشبه الجريمة (الخطأ غير العمدي) مصدر واحد من مصادر الالتزام الذي يطلق عليه العمل غير المشروع، مطابقة مع عنوان الباب الثالث الذي ورد فيه «الالتزامات الناشئة عن الجرائم وأشباه الجرائم». وبذلك يمكن صياغة الفصل الاول اعلاه كالآتي: «تنشأ الالتزامات عن الاتفاقات والتصريحات الأخرى المعبرة عن الارادة وعن اشباه العقود وعن الجرائم وأشباه الجرائم». نستخلص مما سبق أن هناك تضاربا جليا بين النص الفرنسي لقانون الالتزامات والعقود والنص العربي الذي يعد ترجمة النص الأصلي الفرنسي، إلا أنه عوض أن يتم الحسم في أي نص الواجب التطبيق والمصطلحات الواجب اعتمادها أتت الجمعية بالنص الوارد في الترجمة العربية ثم اقترحت ترجمة أخرى لتزيد الطين بلة. لكن التساؤل هل هذه الترجمة قبلتها الوزارة المختصة وصدر في شأنها منشور أو دورية ملزمة للسلطة القضائية ومفهومها الواسع وكذا اساتذة القانون في الكليات والادارات العمومية لتبني ترجمة دون غيرها؟ وقد تم اتباع هذا المنهج في مجموعة من الفصول نذكر مثلا الفصل 2 حيث نص على: «أن الأركان اللازمة لصحة الالتزامات الناشئة عن الارادة هي..»، بينما النص الفرنسي استعمل عبارة ( les éléments) وترجمته عناصر وليس أركان، فاقترحت الجمعية استعمال العناصر في الفصل 2 عوضا عن الأركان. نفس الأمر ينطبق على الفصل 17 وغيره من الفصول، بل إن الفصل 19 مثلا غير متطابق مع النص الفرنسي، حيث اغفل النص العربي عبارة «عقدا جديدا وإنما...» واقترحت الجمعية اضافته إلى الفصل 19، ولكن هذا التعديل لم يأت في صلب الفصل دائما في الهامش، ونفس الأمر ينطبق على الفصول 21و23 و 25 و31و 36 و 41 و 47 و 61 و 76و109 وغيرها. إذن ماهي المصطلحات المعتمدة رسميا هل تلك الواردة في المطبوعات القانونية التجارية المطروحة في الأسواق أم تلك التي اقترحتها جمعية نشر المعلومة القانونية والقضائية الصادرة تحت اشراف وزارة العدل. خاصة أن هذه الطبعة صدرت بعدما يناهز نصف قرن على صدور قانون التوحيد والمغربة والتعريب الصادر في 26 يناير 1965 الذي اعتبر ابان اصداره تأمين للقضاء في المغرب، وكذا بعد قرن إلا 4 سنوات عن صدور قانون الالتزامات العقود الصادر في 12 غشت 1913. وقد لاحظ المهتم بهذا القانون أنه أصبح يواجه التقلبات الاجتماعية والاقتصادية والمعلوماتية بكثير من الهوان والسقم بسبب الشيخوخة. وفي هذا الإطار أرى من الفائدة التذكير بخطاب المغفور له الحسن الثاني طيب الله ثراه بمناسبة استقبال اللجنة المكلفة بمراجعة قانون الالتزامات والعقود بتاريخ 21 أكتوبر 1964 الذي جاء فيه «...أن قانون الالتزامات والعقود ككل شيء يضعه البشر في إطار الاستعمار يجب إعادة النظر فيه، ويجب تكميله، ويجب تقويمه إن وجد فيه اعوجاج ويجب أولا طبعه بالروح الاسلامية السمحة التي يجب أن تهيمن على هذا البلد الأمين... عليكم أولا ان تعربوا القانون، وبتعريبه يمكنكم أن تحكموا عليه. وثانيا عليكم أن تروا في نصوصه ماهو مطابق لدستورنا الذي ينص على أن الدين الاسلامي هو دين الدولة الرسمي..» ولا شك ان جمعية نشر المعلومة القانونية والقضائية وضعت بين يدي المهتم وغير المهتم بالشأن القانوني طبعة منقحة منقحة لقانون الالتزامات والعقود، لكن يتعين على وزارة العدل أن تكمل هذا العمل بإيجاد مشروع قانون يساير ما ذهب إليه القانون المقارن، إذ لا يعقل ونحن في القرن 21 وقانون الالتزامات والعقود المغربي لا ينص على الظروف الطارئة، ولا ينظم عقود الاذعان، ولا يحرم اشتراط الفائدة بين المسلم وغير المسلم، إذ أن الفصل 870 انما يحرم اشتراط الفائدة بين المسلمين أما بينهم وغيرهم من الأشخاص فان النص ساكت، والسكوت في مثل هذه المعاملات يفسر بأنه صحيح. كما يلاحظ كذلك ان هناك مجموعة من القوانين انفصلت عن قانون الالتزامات والعقود كمدونة الشغل وقوانين الشركات ومدونة التجارة والقوانين المنظمة للكراء السكني والمهني والنصوص المنظمة للأهلية القانونية التي تكلفت مدونة الأسرة بتنظيمها الشيء الذي يفيد أن قانون الالتزامات والعقود أصبح كالأب العجوز الذي انفصل عليه ابناؤه، وقد يجد نفسه في بيوت العجزة بعيدا عن أهله. ومن أجل منحه جرعة الحياة بين الفينة والأخرى يتدخل المشرع ليقحم ضمنه مقتضيات قد يلفضها عاجلا أو آجلا كما هو الشأن مثلا بالنسبة لمضمون القانون رقم 05.53 المتعلق بالتبادل الالكتروني للمعطيات القانونية الذي تضمنه الباب الأول المكرر في القسم الأول بعنوان مصادر الالتزامات. وكذا ما تضمنه الفصل 264 لا سيما مقتضى القانون رقم 95.27 بتاريخ 11 غشت 1995. ومجمل القول فان المشرع مدعو للتدخل لإعداد نص قانوني يليق بمجتمع إسلامي متطور، خاصة أن قانون الالتزامات والعقود يطبق على جميع المغاربة وغير المغاربة، لذلك وكما قال المغفور له الحسن الثاني في الخطاب السابق «علينا ان نرى ماهو صالح لبلدنا أولا وما هو صالح لمجتمعنا ثانيا وأن لا ننسى ان الله سبحانه وتعالى يريد بنا اليسر ولا يريد بنا العسر، فإذا نحن وجدنا في القانون الحالي ما يسهل الأمور على المسلمين فحرام علينا ان نجعله عسيرا صعب المتناول لا من طرف القضاة ولا من طرف المتقاضين...». ملحوظة من المحرر: لاشك أن قانون الالتزامات والعقود يحتاج إلى تعديلات، لكن الخوف يكمن في تحطيم بنية النص القانوني وتفكيك تناسقه في ظل ما اصطلحنا عليه في جريدة «العلم» منذ سنوات ب «أزمة التشريع» التي تمس باستقرار المعاملات واستقرار التشريع، بفعل التعديلات المتلاحقة، وتعقيد الإحالة على مواد نفس القانون وقوانين أخرى، يستحيل تتبع شبكاتها العنكبوتية حتى من طرف الممارسين، فضلا عن طرح إشكالات عملية، مما يفضي إلى تشكيل لجن للدراسة واعادة القراءة، إضافة إلى عدم مراعاة الإمكانيات المادية والبشرية والتقنية عند سن عدد من المقتضيات، مما يجعل ولادتها ميتة. كما أن موضوع الإتجار في القوانين الذي أثرناه منذ سنوات مازال مسكوتا عنه، رغم انعكاساته الخطيرة على حرية ومصالح المتقاضين، وإفساده ذوق المستهلك القانوني، مما يتعين على وزارتي العدل والأمانة العامة للحكومة تقديم مقترح لمعالجة الخلل.