رغم أن امتلاك إيران برنامجاً لتطوير الصواريخ الباليسيتية لم يكن يخفى على الدوائر السياسية والأمنية الأمريكية قبل توقيع الاتفاق النووي، فإن ما لم يكن يتوقعه البيت الأبيض أن يعمد الملالي إلى إحراجه استراتيجياً بهذه السرعة، حين يتخذون قرار تجربة الصاروخ الباليستي "عماد"، الأسبوع الماضي، والذي وضع بدوره الادارة الامريكية في حرج بالغ، بعد أن حاولت إقناع الجميع بأن إيران على درب التغيير!. ردود الفعل الغربية بشكل عام، والأمريكية على وجه التحديد، حيال التجربة الصاروخية الايرانية جاءت على استحياء، وكادت الكلمات تنطق بصعوبة الموقف الذي وضعت طهران فيه القوى الغربية، التي جلست معها على موائد التفاوض طيلة العامين الماضيين، إذ أن التجربة الصاروخية هي "رسالة تحد" واضحة، وليست "رسالة مثيرة للقلق" كما وصفتها بعض الدوائر الغربية، التي اعتبرت أن التجربة الصاروخية الايرانية تمثل على مايبدو انتهاك لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 1929 الصادر في التايع من يونيو عام 2010، في حين أن التجربة لا تحتاج إلى تفسير فهي انتهاك لا ينطوي على أي شك لهذا القرار الذي يلزم إيران في ديباجته بالقرارات الدولية ذات الصلة ببرنامجها النووي ومعايير الوكالة الدولية للطاقة الذرية، كما يعلن حرص مجلس الأمن الدولي على إقناع إيران بكبح مساعيها لتطوير التكنولوجيات الحساسة الداعمة لبرامجها النووية والصاروخية. هذا القرار يشير بوضوح في بنده الثامن على ضرورة "ألا تضطلع إيران بأي نشاط يتصل بالقذائف التسيارية القادرة على إيصال الأسلحة النووية، بما في ذلك عمليات الإطلاق باستخدام تكنولوجيا القذائف التسيارية، وأن تتخذ الدول جميع التدابير اللازمة للحيلولة دون نقل التكنولوجيا أو توفير المساعدة التقنية إلى إيران فيما يتصل هبذه الأنشطة"!! وهذا النص واضح ولا لبس فيه ولا غموض، فهو يحظر على يران القيام بأي أنشطة نووية مرتبطة بالصواريخ الباليستية القادرة على حمل رؤوس نووية، بما في ذلك عمليات الإطلاق والتجارب الصاروخية بطبيعة الحال، وهذا القرار ساري المفعول حتى التطبيق الفعلي للاتفاق النهائي حول البرنامج النووي الايراني، الذي يرتبط بدوره بتقديم التقرير النهائي المرتقب صدوره من الوكالة الدولية للطاقة الذرية في أواخر العام الحالي أو بداية العام المقبل لقياس مدى التزام إيران بالبنود الواردة في الاتفاق. وبالتالي فإن التجربة الصاروخية في هذا التوقيت تمثل انتهاك صارخ لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 1929، والأمر لا يحتاج إلى كل هذا التردد الظاهري من العواصم الغربية الكبرى، التي وجدت نفسها في موقف صعب بعد أن هرول معظمها صوب طهران لجني ثمار الاتفاق، فيما ينتظر البقية دورهم في مسيرة الهرولة غير المحسوبة. تحليلي الشخصي أن إيران وجدت أن الوقت قد حان لاستعراض نفوذها وقوتها الاقليمية، بعد التوقيع على الاتفاق النووي وتمريره في الكونجرس الأمريكي، والزيارات المتواترة للمسؤولين الغربيين إلى طهران، وتصاعد التوتر مع الشقيقة السعودية واحتدام الموقف الصراعي في الأزمة السورية، فقررت أن تبعث برسالة إلى الأطراف المعنية، مفادها أن إيران في طور تحول استراتيجي للأدوار، وأن على الجميع القبول بما تمليه طهران في المرحلة الراهنة. الحرج الأكبر في تجربة الصاروخ الايراني يواجه البيت الابيض، الذي تغاضى تماماً عن الخطر النووي والصاروخي الايراني واتجهت عيناه صوب ضمان المجد السياسي للرئيس أوباما، الذي أراد تسجيل اسمه في كتب التاريخ مقروناً بالانفتاح الأمريكي على عدوين لدودين من أعداء الولاياتالمتحدةالامريكية وهما إيران وكوبا، ولكن طهران لم تمهله وقررت أن تكتب اسمه في التاريخ ولكن في خانة أخرى، هي خانة الرئيس الأمريكي الذي ترك المجال لإيران كي تبسط نفوذها على منطقة الخليج العربي. أثق أن واشنطن كانت تقف جيداً على نوايا إيران وتدرك حدود خطرها وطموحها التوسعي الطائفي من قبل توقيع الاتفاق النووي، ولكن الرئيس أوباما كان ولازال يعتقد بأن الاتفاق سيغير إيران من الداخل، إما بإجبار النظام الثيوقراطي المنغلق على الانفتاح التدريجي مثلما حدث في الجالة الصينية، أو أنه الاتفاق سيدفع في اتجاه تفكيك بنية النظام الايراني وتآكلها ويعجل بانهيار هذا النظام وتقويض دعائمه الأيديولوجية كما حدث في الحالة السوفيتية بنهاية عقد الثمانينيات من القرن الماضي، وكان هذا رهانه الأساسي، والنظام الايراني يدرك ذلك من جانبه جيدأ ويتحسب لما يصفه مرشد الثورة الايراني علي خامئني في خطبه الأخيرة بالتسلل الأمريكي، لذا نجد أن طهران تريد فرض رؤيتها على القوى الغربية، فهي وإن تجرعت السم لوقف برنامجها النووي مؤقتاً، فإنها تتمسك بتحقيق ماكانت تسعى إلى تحقيقه عبر هذا البرنامج، وهو التمدد الاقليمي وانتزاع شرعية دولية بمكانتها وهيمنتها الاقليمية، وتلك مسألة قد لاتواجه برفض أو حتى تحفظ من الغرب. تجربة الصاروخ الايراني الأخيرة ببساطة ليست سوى تعبير عن الوجه القبيح لإيران المتلونة، التي تتخذ من التقية السياسية منهاجاً وأسلوباً لا غنى عنه في أدائها الدبلوماسي، فإيران التي أطلقت هذا الصاروخ هي ذاتها التي كشفت بشكل سافر وقبيح ومستهجن في توقيت متزامن تقريباً عن قاعدة عسكرية تحت الأرض تحوي ترسانة صاروخية من أنواع مختلفة، حيث قال قائد القاعدة الجنرال أمير علي حجي زاده إن هذه القاعدة ليست الوحيدة في إيران، كما أضاف أنه يوجد بها صواريخ جاهزة للاستخدام في أي لحظة، مهددا من وصفهم ب"الأعداء" ب"حممها"، والتهديد واضح وصريح وموجه إلى الشقيقة السعودية! إذا أن رئيس مؤسسة متاحف الثورة الإيرانية العميد مرتضى قرباني، كان قد سبقه بأيام مهدداً السعودية قائلا إن "ألفي صاروخ جاهزة لضرب السعودية إذا أصدر مرشد الثورة أوامره بالتنفيذ"!! إنه الوجه القبيح لإيران، الذي يعرفه الجميع، بمن فيهم القادة الغربيون، الذين لا يعلمون أن التفكير بترويض نظام أيديولوجي مثل النظام الايراني يمثل مغامرة غير محسوبة العواقب، وهذه القوى ستكون في مقدمة من يدفع ثمن هذه الرهانات والمغامرات. والمؤكد أن هذه البلطلجة والعربدة الاقليمية تمثل انتهاك لكل القوانين والأعراف والمواثيق الدولية، وتعكس نوايا طهران العدوانية التي ترد على من يدعو إلى حوار مع الجار الإيراني "الطيب" بدعوى أن قوة إيران تمثل قيمة مضافة للمسلمين!! وهذا الكلام يعد من قبيل المزاح السخيف والسخرية السياسية التي لا تليق بمقام الموقف المضطرب والمعقد، الذي تنتجه وتسهم فيه سياسات طهران بالأساس.