يستمرالسياق القرآني في إفحام أهل الكتاب وتأكيد أنهم من غيرتحكيم التوراة والإنجيل ليسوا على شئ، أي أن دعاويهم داحضة وأعمالهم باطلة. لأن تحكيم هذين الكتابين السماويين والعمل بما جاء فيهما سيؤدي بهم، لامحالة، إلى الدخول في الإسلام وترك ماهم عليه من شرك وظلم وضلال. وذلك ما بينه قول الله عز وجل:(قل ياأهل الكتاب لستم على شئ حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا . فلا تأس على القوم الكافرين)(سورة المائدة: 5/ 68). وبالفعل فالذين اهتدوا منهم وعملوا بما جاء في هذين الكتابين السماويين تفيض أعينهم من الدمع عند سماع القرآن الكريم وذكرالمصطفى صلى الله عليه وسلم لما عرفوا من الحق. وهؤلاء مكرمون عند ربهم ولاخوف عليهم ولاهم يحزنون. قال الله تعالى :(إن الذين آمنوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخروعمل صالحا فلاخوف عليهم ولاهم يحزنون)(سورة المائدة: 5/69). إن ما عشش في عقول النصارى من ضلالات، وما فرخ فيها من خرافات لايمكن اقتلاعه إلابأسلوب فيه من الحكمة والموعظة الحسنة والإقناع والحواروالجدال بالتي هي أحسن ما لانجد له نظيرا، وهوما تفرد به القرآن العظيم في مخاطبة النصارى مفككا معتقداتهم تفكيكا، داحضا ترهاتهم دحضا مبيدا، مبينا لهم وجه الحق في كل ما اختلفوا فيه بيانا سديدا، موضحا لهم طريق الصواب في جميع ما زلت بهم فيه أقدام الضلالة والحيرة، ونأت بهم فيه عن الحق أوهام الانحراف والتيه والجهالة. وإننا إذ نحاول دراسة هذه الآيات التي هي من صميم قصة سيدنا عيسى عليه السلام وقومه النصارى، لأنها تعيد الحق إلى نصابه فيما تاهوا فيه من متاهات، نلحظ بكل وضوح الرفق والرحمة واللطف والحكمة الإلهية وهي تأخذ بأيديهم بتؤدة إلى شاطئ النجاة. إن هذا الخطاب الإلهي القائم على الإقناع المنطقي والاستدلال البرهاني والمحاورة الحكيمة الرفيقة والبيان المشرق مع الجمع بين الترغيب والترهيب لكاف لكل ذي عقل منصف نزيه متجرد لأن يثوب إلى رشده ويتخلى عن تلك المعتقدات الفاسدة. وبالفعل هذا ما أكرم الله عزوجل به العديد من النصارى الذين كانوا شديدي التمسك بتلك الخرافات، وفي مقدمتهم كبارالقساوسة في مختلف العصوروالبقاع، فإذا هم يبكون عندما عرفوا الحق، وتنشرح صدورهم للنورالذي يحمله هذا الخطاب الإلهي الرحيم المقنع والذي سيظل يؤتي أكله على طريق الهداية إلى يوم الدين. قال الله تعالى:(لقد كفرالذين قالوا إن الله هوالمسيح ابن مريم. وقال المسيح يابني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم، إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار، وما للظالمين من أنصار)(سورة المائدة: 5/72). لقد ظهرت بادرة تأليه سيدنا عيسى عليه السلام في حياته كما نفهم من هذه الآيات البينات ولذلك انبرى يرد على أصحابها داعيا إلى التوحيد ونبذ الشرك، ومخبرا بمصيرالمشركين الظالمين. وكان ظهورهذه البادرة الخبيثة السيئة من أتون الفتن اليهودية الذي ما لبث اليهود يذكون ناره فيرمي بشرره فيضل به كثيرمن الناس. (لقد كفرالذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد. وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذي كفروا منهم عذاب أليم. أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه؟ والله غفوررحيم. ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة. كانا يأكلان الطعام. انظركيف نبين لهم الآيات ثم انظرأنى يؤفكون. قل أتعبدون من دون الله ما لايملك لكم ضرا ولا نفعا؟ والله هوالسميع العليم. قل ياأهل الكتاب لاتغلوا في دينكم غيرالحق ولاتتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلواعن سواء السبيل. لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى ابن مريم. ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. كانوا لايتناهون عن منكرفعلوه. لبئس ماكان يفعلون)(سورة المائدة: 5/7279). لقد اقتضى توجيه هذا الخطاب الإلهي للنصارى المشركين المؤلهين عيسى ابن مريم أوالمعتقدين أنه إله مع الله والروح القدس في ثلاثة أقانيم في منتهى المناقضة والمعاندة للمنطق السليم لقد اقتضى تنويعا أسلوبيا حسب مقتضى الحال ومناسبة المقام، فنلحظ أولا استعمال أسلوب الحكاية مع الحكم على المقول:(لقد كفرالذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة) وهذه هي عقيدة التثليث المسيحية التي لايقبلها العقل الصريح، والتي كرعليها القرآن العظيم بالتفنيد بقول الحق سبحانه:(وما من إله إلاإله واحد) مستعملا أسلوب النفي والإثبات وهومضمون الشهادة:"لا إله إلا الله" إذ نفى الألوهية عن غيرالله تعالى وأثبتها لله وحده لاشريك له. وإن المتأمل في هذا الوجود الفسيح يبهره بديع الصنع والإتقان والعناية والحكمة واللطف والإحسان الإلهي الذي غمركل ذرة في هذه الحياة. وكل هذه الموجودات شاهدة بأن خالقها واحد، ناطقة بذراتها وأنسجتها وإلكتروناتها وطبائعها المتنوعة المتكاملة بأن موجدها واحد، من الثرى إلى الثريا، من آصغرجزئ في الوجود إلى أكبرمجرة في السماء، كلها تنادي بلسان التوحيد أن لا إله إلاالله وحده لا شريك له، والعلماء الطبيعيون في مختبراتهم يصلون يوميا إلى ما يؤكد هذه الحقيقة، وإذا كان الأمركذلك وإنه لكذلك فلامعنى لدعوى النصارى التثليث واعتقاد ألوهية ما سوى الله تعالى إلاأن تكون ضربا من الجنون والبعد عن الفطرة الإنسانية الموحدة. ولم يكتف القرآن الكريم بأسلوب التفنيد (نفي مقولتهم وإثبات الحق في مقابلها) بل أردف ذلك بأسلوب الترهيب والتهديد والوعيد، وهذا كذلك من رحمة الله سبحانه بعباده، فقال تعالى:(وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم)( سورة المائدة : 5/ 73). ثم استعمل أسلوب التحضيض والترغيب:(أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه ؟ والله غفوررحيم) (سورة المائدة : 5/74). وهذا فيه من التعرف الإلهي إلى عباده وتحبيب التوبة والاستغفاروالترغيب في الرجوع إليه ما من شأنه أن يؤوب بالعقول الشاردة إلى رشدها وبالقلوب الحائرة إلى هداها. وإذا كان بيان حقيقة الألوهية هومضمون الرد السابق فإن بيان طبيعة المسيح ابن مريم هي مضمون الرد اللاحق، وهنا يستعمل مرة أخرى أسلوب النفي والإثبات، نفي أن يكون سيدنا عيسى عليه السلام ما زعموه، وإثبات أنه رسول قد خلت من قبله الرسل، وإثبات صديقية أمه مريم عليها السلام، وأن هذا البيان الإلهي المشرق لحقائق هذه الأمورلاينبغي أن يكون إلاطريقا إلى الهداية، غيرأن النصارى يلجون في انحرافهم:(ما المسيح ابن مريم إلارسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة. كان يأكلان الطعام، انظركيف نبين لهم الآيات ثم انظرأنى يؤفكون)(سورة المائدة:5/75). ثم استعمال الاستفهام الإنكاري الذي يتضمن تسفيها وتقريعا لعقولهم في نفس الوقت:(قل أتعبدون من دون الله مالايملك لكم ضرا ولا نفعا؟ والله هوالسميع العليم) (سورة المائدة : 5/76). وجواب العقل السليم أنه لايستحق العبادة إلامن يملك النفع والضرللخلائق كلها، وليس ذلك إلالله وحده، فهوالضارالنافع، وما سواه لايملك أن ينفع نفسه أويدفع عنها الضرفكيف يستطيع ذلك لغيره؟ والمسيح عليه السلام وأمه مريم كانا يأكلان الطعام فكانا في حاجة إليه ثم كانا في حاجة إلى التخلص من زبله، ولم يكونا يملكان جلب نفع الطعام إلابعون الله ولادفع ضرره إلابلطف الله عزوجل، فكيف سوغت للنصارى عقولهم أن يعبدوا مخلوقين لايملكان نفعا ولاضرا. ويختتم هذا الحجاج الشيق بضرب من المقابلة الضمنية، فإذا كان ماسوى الله لايملك نفعا ولاضرا، فإن الله تعالى سميع عليم في مقابل ذلك، أي أنه يسمع دعاء المستجيربه ويعلم حاجته فيدفع عنه الضرويحقق له النفع الذي يرجوه. فله الحمد في الأولى وفي الأخرى. أجل، إن إصرارالنصارى على هذه المعتقدات الفاسدة راسخ، وهونتيجة غلوهم في سيدنا عيسى وأمه الصديقة، حتى قدسوهما تقديسا نسوا معه أنهما بشران وأن المخلوق لاينزل مرتبة الخالق، ولذلك لم يقتصرالرد القرآني في هذه الآيات من سورة المائدة على الحجاج السابق بتنوعه الأسلوبي، بل توج كل ذلك بالنهي المطلق والإنكارالتام:(قل ياأهل الكتاب لاتغلوا في دينكم غيرالحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل)( سورة المائدة :5/77). وفي تكريردلالة " الضلالة" واستعمالها بصيغة الفعل اللازم والفعل المتعدي إشارة إلى الشطط البعيد والتيه المبين الذي جرهم إليه غلوهم السقيم واتباعهم الأعمى لأهواء فاقد ي العقل الحكيم.