لهذا المقطع القصصي الطويل من سورة آل عمران، والذي يبدأ من الآية 35وينتهي بالآية62، والذي يترتب عليه حجاج قرآني في عدة مواضع لاحقة من نفس السورة، بداية ونهاية وبينهما تتطورالحبكة القصصية باستعمال عدة أساليب قرآنية أبرزها الحوار، مع تتويج نهاية المقطع القصصي بالمغزى الذي ينقسم إلى عام وخاص. حيث يتعلق المغزى الخاص بقصة سيدنا عيسى نفسها، بينما يتعلق المغزى العام بالقصص القرآني إجمالا. فقد قال الله سبحانه في نهاية المقطع : (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون. الحق من ربك، فلا تكن من الممترين. فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين) فهذا هوالمغزى الخاص. ثم قال : (إن هذا لهو القصص الحق، وما من إله إلا الله، وإن الله لهوالعزيزالحكيم) وهذا هوالمغزى العام. يبدأ المقطع القصصي بالتنويه الإلهي بالاصطفاء الرباني لرسله لاسيما سيدنا آدم عليه السلام أبا البشرية ، وسيدنا نوح الذي أنقذه الله تعالى ومن آمن معه من الطوفان فكان أصلا ثانيا للبشرية، ثم سيدنا إبراهيم أبا الأنبياء وذريته الصالحة المتحدرة من ابنيه إسماعيل وإسحاق، عليهما السلام، ومن هذه الذرية آل عمران الذين سيكرمهم الله عزوجل باصطفاء مريم الصديقة وعيسى الرسول عليهما السلام منهم، إذ جعل فيهم الصديقية والنبوة، فضلا منه ورحمة. ( إن الله اصطفى آدم ونوحا و آل إبراهيم و آل عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض، والله سميع عليم)(سورة آل عمران : 3/34). وفي ذكراسمي الله عزوجل " سميع" و" عليم" وتكريرهما في الآية الموالية :(إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني، إنك أنت السميع العليم)( سورة آل عمران : 3/ 35) إشارة إلى أن هذا الاصطفاء الرحماني، وإن كان بمشيئة الله تعالى التي يستند إليها كل شئ ولا تستند هي لشئ، فإنه مع ذلك اصطفاء بحكمة، إذ سمع الله تعالى مناجاة هؤلاء الرسل ودعاءهم، وعلم حالهم وصدقهم وأمانتهم، ( والله أعلم حيث يجعل رسالاته ). كما في ذلك انتقال من العام إلى الخاص، ومن الكلي إلى الجزئي، إذ الآية الأولى عامة، والثانية خاصة، وكأنها أنموذج لهذا الاصطفاء الرباني والاجتباء الرحماني، وهذا الأنموذج نفسه هومضمون هذا المقطع القصصي الطويل. ولذلك جاء تكريرذكرالاسمين " السميع" و" العليم" في الآية لبيان مقام الدعاء بهما الناتج عن المعرفة بالله تعالى، بعد أن تقدم بيان مقام التعريف الإلهي بهما في الآية السابقة على جهة التعليم والتحبيب. وكان مضمون دعاء امرأة عمران نذرا لله تعالى بأن تجعل ما في بطنها خاصا لله يخدم بيته، ويعتكف لعبادته وتقديسه وتحميده، وأن يتقبل الله منها هذا النذر. فلما كان المولود أنثى سمتها مريم وسألت الله تعالى أن يجعلها في حرزمن الشيطان الرجيم هي وذريتها. وترعرعت مريم في الصون والعفاف والحب الإلهي والشوق إلى الرحمان، وسرعان ما ظهرت عليها وفيما حولها كرامات الله الخارقة للعادة إكراما لها وإعلاما للعباد بسموقدرها ورفيع مكانتهاعند خالقها. وكان زكرياء يكفلها ويتولى شؤونها، فرأى من تلك الكرامات ما بهره، وما جعله يسأل الله تعالى أن يحقق رجاءه وأن يكرمه بمولود يرث ميراث نبوته مع تقدمه وزوجه في السن، ولكن قدرة الله تعالى لاحدود لها، ولايعجزها شئ، فجاءته البشارة الإلهية بتحقيق أمنيته ونواله مولودا اسمه يحيى يكون سيدا وحصورا ونبيا من الصالحين. ( إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني. إنك أنت السميع العليم. فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى، والله أعلم بما وضعت، وليس الذكركالأنثى، وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم . فتقبلها ربها بقبول حسن، وأنبتها نباتا حسنا، وكفلها زكرياء كلما دخل عليها زكرياء المحراب وجد عندها رزقا، قال يامريم أنى لك هذا؟ قالت هومن عند الله، إن الله يرزق من يشاء بغيرحساب. هنالك دعا زكرياء ربه، قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء. فنادته الملائكة وهوقائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيئا من الصالحين. قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبروامرأتي عاقر. قال كذلك. الله يفعل ما يشاء. قال رب اجعل لي آية. قال آيتك ألاتكلم الناس ثلاثة أيام إلارمزا، واذكرربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار)(سورة آل عمران :3/35 41). وهنا نجد مزاوجة بين أساليب السرد والوصف والدعاء والاستفهام والتقريروالتعجب والحوار. كل أولئك في ست آيات فقط ما يبين إيجازالأسلوب القصصي مع غزارة معانيه وتنوع طرائقه الفنية. فإذا انتقلنا إلى بقية المقطع ألفينا أن السياق يواصل سرد قصة السيدة مريم، وهي القصة الرئيسة، بعد أن سرد ما يتعلق بقصة سيدنا زكرياء عليه السلام في ما يشبه القصة الفرعية الثانوية. ويبدأ هذا الجزء الثاني من المقطع بالخطاب الملائكي لمريم: (وإذ قالت الملائكة يامريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين، يامريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين)( سورة آل عمران : 3/4243).وعقب السياق القرآني على سرد هذا الخطاب الملائكي بالتلميح إلى وظيفة أساس من وظائف القصص القرآني وهي الاستدلال على ربانية مصدرهذا القرآن العظيم وهذا القصص الجميل مما يزيد المؤمنين إيمانا ويفتح قلوبا غلفا وآذانا صما وأعينا عميا لتلقي الحق الذي قام عليه الدليل. فهذا القصص لم يكن يعلمه النبي محمد صلى الله عليه وسلم ولامن يحيطون به، وهوإخباربغيب من غيوب الماضي لايعلمه بهذه التفاصيل والدواخل والجزئيات والأسباب والمسببات إلاالله الذي أحاط علما بكل شئ. قال الله تعالى : ( ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك. وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم. وما كنت لديهم إذ يختصمون. إذ قالت الملائكة يامريم إن الله يبشرك بكلمة منه، اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين. ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين. قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر، قال كذلك، الله يخلق ما يشاء، إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون . ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم، إني أخلق لكم من الطين كهيئة الطيرفأنفخ فيه فيكون طائرا بإذن الله، وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله، وأنبئكم بما تاكلون وما تدخرون في بيوتكم . إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مومنين. ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم . وجئتكم بآية من ربكم، فاتقوا الله وأطيعون. إن الله ربي وربكم فاعبدوه، هذا صراط مستقيم. فلما أحس عيسى منهم الكفرقال من أنصاري إلى الله ؟ ثقال الحواريون نحن أنصارالله، آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون ) (سورة آل عمران : 3/4251). هذه هي حقيقة عيسى ابن مريم الذي ألهه النصارى أوأشركوه بالله في الاعتقاد والعبادة معا. إنه كما تؤكد هذه الآيات البينات ضمن هذا المقطع القصصي مخلوق لله، ولكن على نحو معجز، ورسول من الله، إلى بني إسرائيل. جاءهم بالكتاب من ربهم متضمنا رسالة فيها صلاحهم وسعادتهم ونجاتهم ، وأيده بالمعجزات، وجعله مصدقا لما بين يديه من التوراة بذلك الكتاب الذي أنزله عليه وهو الإنجيل. كما جعله رحمة لهم يحل لهم بعض ما حرم عليهم بسبب تعنتهم وعنادهم، وذلك تخفيفا من الله عليهم ورأفة بهم. ومجمل القول إنه رسول يدعوإلى توحيد الله الأحد، وتقواه وطاعته وسلوك الصراط المستقيم الذي دلت عليه كافة الرسل عليهم السلام. ولئن كان في ولادة عيسى ابن مريم وفي هذه النسبة البشرية إلى أمه مريم بنص هذه الآية تأكيد لكونه عبد بشرمخلوق لله من الإعجاز الرباني ما ليس بالمستحيل عقلا ولا الخارج عن قدرة الله حقا، فإن هذه الولادة المعجزة التي لم تتم بأب وإنما بأم فقط دليل على قدرة الله المطلقة، أولم يخلق الله تعالى سيدنا آدم عليه السلام بيده من غير أب ولا أم ؟ فما الذي تحيله العقول في حال خلق عيسى ابن مريم من غيرأب؟ ولئن كان المؤمنون العقلاء يوقنون بقدرة الله الطليقة المعجزة، فإن فرقا من النصارى الذين انحرفوا عن عقيدة التوحيد قد ذهبوا مذاهب متضاربة في حقيقة سيدنا عيسى عليه السلام كلها باطل لايقبله عقل سليم ويرفضه دين الله الإسلام دين التوحيد والفطرة الإنسانية. فمنهم من قال إن عيسى هو الله، ومنهم من قال إنه ابن الله، ومنهم من قال إنه ثالث ثلاثة كما فصلت ذلك آيات من سورة المائدة سندرسها لاحقا. وكل هذه الأقوال شرك مضاد لعقيدة التوحيد. وإن الشرك لظلم عظيم، إذ فيه نسبة الألوهية لعبد مخلوق مربوب لايملك لنفسه ضرا ولا نفعا، وجعله ندا للإله الحق. لقد جاء عيسى عليه السلام بعقيدة الإسلام البيضاء الناصعة، وحذرقومه من الشرك ، ودعاهم إلى توحيد الله تعالى وطاعته، لكن بني إسرائيل على عادتهم الخبيثة خالفوا العقيدة والشريعة معا، وحاربوا دعوة هذا النبي الكريم، حتى أنهم سعوا إلى قتله، لكن الله تعالى أنجاه من كيدهم، فرفعه إليه. وبقي الحواريون أنصاره يذودون عن دين الإسلام إلى أن تعرضوا للاضطهاد والتقتيل، وتغلبت فرق الضلالة على الفئة الموحدة بسبب دعم الإمبراطورالروماني لدعوات الشرك والتحريف المنافية لعقيدة التوحيد التي استمات النصارى الموحدون في الدفاع عنها إلى آخرنفس. (قال الحواريون نحن أنصارالله، آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون. ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين. ومكروا ومكرالله. والله خيرالماكرين . إذ قال الله ياعيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا، وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة. ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون. فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة، وما لهم من ناصرين. وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فنوفيهم أجورهم، والله لايحب الظالمين. ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكرالحكيم . إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم، خلقه من تراب ثم قال له كن، فيكون . الحق من ربك، فلا تكن من الممترين. فمن حاجك فيه من بعدما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين. إن هذا لهو القصص الحق، وما من إله إلا الله، وإن الله لهوالعزيزالحكيم. فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين)(سورة آل عمران :3/51 62). وقد دعاهم الرسول محمد صلى الله عليه وسلم للمباهلة فلم يجرؤوا لأنهم يعلمون علم يقين أنهم على ضلال ولوأنهم لايملكون ولوشبه دليل على ما يزعمون. لكنه الجهل والعناد وحب الدنيا والتقليد الأعمى للماضين. والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.