بعد حديث القرآن الكريم عن تنزيل التوراة على سيدنا موسى ليعمل بما جاء فيها قومه، وقد سبق أن رأينا موقفهم من رسالته وكيف بدلوا وغيروا وحرفوا، ولم يمتثلوا الأمرالإلهي بالعمل بما جاء في الكتاب المنزل عليهم، انتقل السياق القرآني عطفا على ذلك إلى التذكيربإرسال سيدنا عيسى وإنزال الإنجيل عليه، ولم يختلف موقف قومه من الرسالة الجديدة عن موقف قوم موسى من الرسالة القديمة، حيث خالفوا هم كذلك الأمرالإلهي بتحكيم هذا الكتاب في حياتهم العامة والخاصة. قال الله تعالى قاصا علينا ما وجه إليهم من أوامرقدسية، ومبينا لنا علة وجوب العمل بما جاء في هذا الكتاب السماوي، وهي أنه جاء متضمنا للهدى والنوروالموعظة للمتقين، وأنه جاء مصدقا لما بين يديه من التوراة، ممايؤكد أن مصدره رباني . ثم عقب السياق القرآني على ذلك كله بالتحذيروالإنذاروتفسيق من لم يمتثل هذا الأمرالإلهي:(وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونورومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين. وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون)(سورة المائدة: 5/46). نلحظ أن عبارة "ومصدقا لما بين يديه من التوراة" تكررت في هذا السياق وذلك من أجل تأكيد ربانية مصدرالكتابين السماويين معا، وأن هذا أدعى لمن أنزل إليهم الإنجيل أن يتبعوه مادام يصدق أي يطابق ويوافق ما جاء في الكتاب السماوي السابق عليه (التوراة) من حيث العقيدة والشريعة. على أن العبارة الأولى تشيرإلى تصديق سيدنا عيسى لما جاء في التوراة، بينما تشيرالعبارة الثانية إلى تصديق الكتاب الذي أنزل إليه وهوالإنجيل لما جاء في كتاب سيدنا موسى عليه السلام. وفي كلتا الحالتين، فإن المصدق واحد، مادام المصدرالرباني واحد. كما أن كلمة "هدى" تكررت وكأن القصد توبيخ المسيحيين المنحرفين عن رسالة سيدنا عيسى الحقيقية إذ أن الإنجيل "فيه هدى" وهو "هدى" ومع ذلك ضلوا ضلالامبينا. وما كان لهم أن يضلوا الطريق ومعهم هذا الهدى والنور. ثم إن الأمرالإلهي"وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه" يؤدي حتما، إن هم امتثلوه، إلى إقرارهم بصدق الرسالة المحمدية ومصداقيتها لأن الإنجيل تضمن البشارة بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الرسول الخاتم، قال الله تعالى على لسان سيدنا عيسى عليه السلام:(ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد)(سورة الجمعة: 61/6). ولذلك فإن المسيحيين الذين يرفضون الحكم بما أنزل الله تعالى في الإنجيل إنما يصرون على عدم الاعتراف بربانية الرسالة المحمدية التي شهد بصدقها ومصداقيتها الإنجيل نفسه. ومن ثم فإن الحكم الإلهي عليهم بأنهم "فاسقون" يعني الخروج عن طاعة الأمربالحكم بما جاء في كتابهم. وهذا فسوق أدى بهم إلى الكفربرسالة الإسلام تقليدا لآبائهم وما توارثوه من ضلالات. ولوأنهم امتثلوا لأفلحوا، قال الله تعالى في نفس السورة:(ولوأن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم، ولوأنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، منهم أمة مقتصدة، وكثيرمنهم ساء ما يعملون)(سورة المائدة: 5/6566). نلحظ كذلك أن عيسى عليه السلام عليه السلام كثيرا ما ينسب في القرآن الكريم إلى أمه مريم "بعيسى ابن مريم"وذلك لنفي الأباطيل المختلقة والاعتقادات المسيحية الفاسدة التي ادعى أصحابها بنوة عيسى عليه السلام لله ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، فتأكيد نسبته إلى أمه بهذه الصورة المتواترة في القرآن الكريم تنبيه إلى أنه بشرمخلوق من بشرمخلوق، تجري عليه أحكام البشرية، ولايمكن لبشرأن يكون كما زعموه كذبا وافتراء. على أن موقف اليهود والنصارى واحد من الرسالة المحمدية، وهوموقف التكذيب والعداء، مع ما في الكتب المنزلة عليهم من دلائل ربانية هذه الرسالة. وبما أن هذا هوموقفهم الدائم، الذي يتعاونون عليه أكثرمن تعاونهم على أي شئ آخر، فإن المنطق السليم والمصلحة العليا للمسلمين يقتضيان ألايتخذوا من اليهود والنصارى أولياء، مهما كانت الظروف والأحوال، لسبب بسيط وهوأن اليهود والنصارى بعضهم أولياء بعض، فهم متحدون على محاربة الإسلام والمسلمين وإن اختلفوا في أمورأخرى. ولبيان هذه الحقيقة وتقريرالحكم المترتب عليها قال الله عزوجل في نفس السورة المائدة وبعد المقطع القصصي السابق بآيات:(ياأيها الذين آمنوالاتتخذوا اليهود والنصارى أولياء. بعضهم أولياء بعض. ومن يتولهم منكم فإنه منهم. إن الله لايهدي القوم الظالمين)(سورة المائدة: 5/51). تستهل الآية بنداء إلهي رحيم إلى "الذين آمنوا" مذكرا إياهم بصفة الإيمان ونعمته التي بها يتميزون وبفضلها كانوا خيرأمة أخرجت للناس، والتي من شأنها أن توحد كلمتهم، وتقوي مناعتهم، وتجعلهم صفا واحدا، لايحتاجون معه إلى مد يد الموالاة إلى أعدائهم الذين يتربصون بهم الدوائر. هذه الصفة السامية هي التي حقق بها المسلمون السابقون الأولون الفتح العظيم والنصرالمبين على كافة أمم الأرض، حتى دان لهم شرقها وغربها، وذلك لتحققهم بمعنى الإيمان وشروط "لاإله إلاالله، محمد رسول لله". وما أخطرهذا الحكم الإلهي:"ومن يتولهم منكم فإنه منهم، إن الله لايهدي القوم الظالمين". فمن تولى اليهود والنصارى كان بالضرورة منهم، ومن كان منهم كان ضالا ظالما مثلهم، والله لايهدي القوم الظالمين. وقال الله بعد ذلك مبينا الولاية الحق ولمن تكون:(إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون. ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون)(سورة المائدة: 5/55 56).