ديننا جزء من وجودنا وكينونتنا، لكنه حين يسقط في لعبة التجاذب والاستقطاب السياسية نخسر نحن، ليس فقط معتقدنا بل أهم ركن من وجودنا، وهو ما يساهم في موجة التطرف "مع" الدين أو "ضده"، ويساعد في نفس الوقت في اكتساح الديانات الأخرى للفراغ الناجم عن ذلك. إننا بهذا المنحى نسيء إلى الدين أكثر مما نخدمه، بالطبع لا بد أن نميز بين الثوابت، التي لا تقبل النقاش، وبين الإجتهادات الفقهية لرجال حاولوا جهد قدرتهم أن يجعلوا تعاليم الدين مناسبة لعصره فقط، ولم يغلقوا باب الإجتهاد لأنهم يعلمون جيدا بأن الأزمة تتغير وكانوا يأملون منا أن نسير على دربهم وأن نطور ديننا ليزداد قوة ومناعة، غير أن ما حدث هو العكس حين سقطنا في الجمود السلفي التقليدي وألهنا أشخاصا وكتبا وأفكارا وجعلناها ترقى إلى منزلة التقديس، لا مقدس في الإسلام إلا كتاب الله وكل كائن ما عدا النبي عليه الصلاة و السلام لا يرقى إلى تلك المنزلة. وبناء عليه نحن بحاجة إلى فقه جديد ونمط تفكير حداثي في فهم الدين، بعيد عن العنف و التطرف والإقصاء والتكفير المجاني، لأنه سلوك عبثي يشتت وحدة الأمة ويزرع الفرقة بين المؤمنين بفتاوى غريبة وتعاليم فقهية كانت صالحة في حينها، وقد يكون فيها ما يصلح لهذا الزمن ومنها ما أصبح متجاوزا. لا قدسية لأفراد أو فقهاء وعلماء دين لأنهم مجرد مجتهدين، خاصة وأن هذا النمط من التفكير كان السبب في انتشار هذه الطوائف الجهادية التكفيرية، التي استحلت دماء المسلمين ولو كانوا عصاة، وشجعت على العنف كوسيلة للتغيير أو الوصول إلى السلطة وتبنت شعار الجهاد وهو حق أريد به باطل لان الجاد في عصرنا الحاضر لم يعد له ذلك المفهوم الذي كان سائدا عند السلف الصالح لتغير قوانين اللعبة و أدواتها، فلم يعد للجهاد معناه المتطرف القالي في ساحة معركة مع مقاتلين، بل أصبح الجهاد الحقيقي هو التطور العلمي والمعرفي والرقي الاجتماعي، وبناء منظومة أخلاقية حقيقية والتنافسية في مجالات الفكر والثقافة و الإقناع المنطقي، وتثبيت السلم الاجتماعي والحكامة الجيدة، حتى نؤسس لمجتمع جديد ينعم بالسلم الفكري وتسوده أخلاقيات تحترم معتقداتنا الفكرية مهما اختلفت، لأن الإختلاف رحمة طالما لم يمس جوهر المعتقد وصلبه، أما ما نراه من تطرف قاتل يستبيح الأعراض و الأرواح فهو غريب عنا و الدين براء منه، وهو ما يعني أن دعاة العنف باسم الدين هم صناع فتنة وتجار دين همهم الوصول إلى السلطة مهما كلف الأمر وكل داء المسلمين مستباحة في سبيل تحقيق ذلك. هل من حق أحد أن يكفر أحدا ؟ إن هذا الأمر متروك لله، ولا سلطة لأحد أن يحرم إنسانا من حق الوجود والحياة لمجرد أنه لا يسير على هواه، وما نراه من موجات التكفير ودعوات القتل والجهاد وحمى "الإنتحاريين" تحت مسمى "الشهداء" ليست من الإسلام في شيء. إن قوة الإسلام كانت وستظل دائما في تسامحه وشمولية دعوته وقدرته على استيعاب كل الإختلافات. ما هو مطلوب منا الآن هو فتح ورش كبير لمنهاضة كل أشكال التطرف وإعادة تحديد المفاهيم وعلى رأسها مفهوم الجهاد، ليتحول إلى جهاد فكري يؤسس لعهد جديد من التحدي الحضاري لتقليص الأمية و تشجيع البحث العلمي والفلسفي، والنهوض بالمجتمع و السلم الإجتماعي وترسيخ منظومة أخلاقية تربط المسؤولية بالمحاسبة ونشر التوعية الحقوقية في أوساط المواطنين، وأهم من ذلك محاربة التطرف و العنف والفكر التكفيري. إننا لو تمكنا من توحيد أهدافنا والوصول إلى هذه الغايات الجديدة للجهاد سنكون قد قطعنا الطريق أما كل أشكال الإستقطاب المتطرف و الإراهبية، حتى ولو كان بعض معتنقيها يفعلون ذلك بحس نية لأن الطريق إلى الجحيم مليء بالنوايا الحسنة.