بعد أن راكم العديد من المعارض وطنيا ودوليا، يعود الفنان التشكيلي «نور الدين عليوة» بلوحاته الفنية ليتوجهافي معرضه الجديد برواق صندوق الإيداع والتدبير بالرباط والذي يمتد من 10 يوليوز الجاري إلى 8 غشت 2008. هذا المعرض استثنائي لأنه هو رؤيا تنهل من الواقع المحلي لمدينة الصويرة التي تزخر بأجوائها الصوفية والروحانية، (كناوة، «تراث» تقليدي، الحايك) إضافة الى الأضرحة (سيدي مكدول سيدي كاوكي) وهي موضوع أعمال الفنان التشكيلي الأخيرة. ولعل الملاحظ داخل لوحات المعرض هو ذاك التطور التدريجي في عمل الفنان، والذي يمكن ترقيمه إلى ثلاث مراحل، فالأولى تنطلق من اللوحات الصغيرة والحجم وهي عبارة عن نتف مبتورة من الورق، وربما قد تكون بدايات إخصاب موضوع الأضرحة، وتتمثل في غزارة الألوان في محيط الإطار المقدس للضريح مع العمود اللوني الرابط بين الإنسان الذي يتخبط في دوامات وزوابع لونية تحقق الخطايا والعذابات التي يرزح تحتها والضريح الموسوم بفكرة الانعتاق والرحمة والغفران. والمرحلة الثانية تتجلى في اللوحات الأكبر حجما، وتمثل نضج الفكرة إلى أبعد الحدود ، حيث يبقي على نفس المنهجية في الإطار المقدس والعمود اللوني الرابط بين المعذبين في الأرض والضريح مع استنفاذ الغزارة اللونية والاحتفاظ ببعض الضربات اللونية، إما سوداء مترفة في تنميقاتها الشيطانية وكأنها شمس إبليس المرتبطة بغواية الذات ووضعها موضع الخطيئة مع مجاورة للضريح والقرب من السماء، وكأنه يبقى شره شكلا عصيا على التطهير وحاجزا أمام الغفران وإما ضربات زرقاء ولا تبدو إلا جزءا طفيفا وباهتا على هامش اللوحة مرتبطة بالإنسان في تحقيق مبتغاه وأحلامه وآماله ومطالبه عن طريق وساطة الضريح. وهناك وساطة أخرى بين الإنسان والضريح ممثلا بعمود لوني والذي ينطلق من الإنسان/الأرض كشكل مندفع نحو الإطار المقدس (الضريح)، وذلك بنفس الإحساس اللوني، وكأن الضريح هو الناظم الجامع لكل هذه التمثلات الإنسانية بفظاعتها وانسياقاتها الجنونية بين الخير والشر في منحى تمحيصها وغربلتها وحتى تطهيرها. ويكمن تعالي الضريح في سمو اللوحة عن الأرض، كترميز للطبيعة المقدسة المليئة بالزخم الصوفي والنقاء الروحي الخالص والطهارة من كل ما هو مدنس، والذي يتجاوز بطبيعة الحال الإنسان العادي. أما المرحلة الثالثة فقد تجاوزت الأيقونة وسرَّعت في تفتيت كل ما هو كائن وانغمرت في روح التجريد التي أصبحت لازمة من لازمات اللوحة، وهي تُشهد المتلقي على قدرته على تذوق الكمال في النغمات المتناسقة المصففة، فاللوحات تعبير مميز عن مأساة الإنسان ، وما الضريح إلا وسيلة لإلقاء الضوء على الجانب النفسي للفرد، ومنه أخذت معاول الريشة تهد إطار قدسيته، وتحيله الى اللاشكل وأخذت في تآكله حتى الانتفاء، فأصبح لدينا الإنسان كقيمة ووجود بشمولية عذاباته وأخطائه وخيره وشروره، واستمر العمود/الواسطة حاضراً، لكن هذه المرة بين الذات المعذبة والسماء مباشرة، وحتى هذه الواسطة هي الأخرى تنتفي بمعناها المادي وإن كان حضورها على اللوحة قويا، وبالتالي فالعلاقة الوحيدة الموجودة، هي العلاقة بين الإنسان والذات الإلهية. والمواضيع المستوحاة هي لحظات غزيرة، إذ تمثل لحظات الخيبة والارتداد والهزيمة والإخفاق، ولحظة نهايات وبدايات ، وفي هذا الخضم من المشاعر التي تعري الإنسان، بل أكثر من هذا نجد أنفسنا أمام إحساسات متناقضة كالشعور بالذنب وسقوط المشروع الإنساني، فيحدث الارتداد الى الماضي، بمعنى العودة إليه كخشية أو خلاص أو كحل إزاء اختياراتنا الحداثية المجهضة. وعندما نتناول هذه الإحساسات والحدوسات، فليس لأننا نقفز فوق الخيبات والهزائم التي ربما كان علينا التعامل معها بوسائل أخرى، وإنما نتبنى التدمير الذاتي أو العقاب الجماعي كمذنبين، وكأن الضريح هو الشيء الوحيد الذي لم يقع ضحية هذا العماء الإنساني ولم يشعر إلا بالشفقة نحو كل شخص، وإذا كان الضريح قد تجاوز الزمن بتحنيطه للوقت والتعالي في قدسيته، فهو أيضا اجتياح للعواطف التي يختلج بها القلب في ضعفه والتي هي أكثر من مجرد خضوع يقوم به الجسد، وهو أيضا شكل من أشكال الاعتراف ونقطة البقاء بين ما هو سر وما هو مقدس في استمرار الحياة الإنسانية. التهامي بوخريص