قديمًا كان طلبة قسم الصحافة في مصر، قبل أن يتأسس معهد الإعلام بجامعة القاهرة، يوجهون للالتحاق بأقسام التصحيح، أو أقسام الأرشيف في الجرائد، لقضاء فترة تدريب قبل أن يتخرجوا. وكان أساتذة الصحافة الرواد في مصر يطلقون على أقسام التصحيح في الصحف (المطبخ الصحافي)، لأن الصحافة تقوم على اللغة العنصر الرئيس في المهنة. وأسوق المثل من الصحافة المصرية، لأنها الأعرق في التقاليد المهنية والأسبق في العمل بالأصول الصحافية. وكانت الجرائد في مصر، خلال الفترة التي ازدهرت فيها الصحافة المصرية، تستعين بخريجي دار العلوم والكليات الأزهرية، خاصة كلية اللغة العربية، في الحفاظ على صحة اللغة وسلامتها ونصاعتها، فتعين منهم من تراه أهلا ً للعمل في أقسام التصحيح. وكان للمصححين مطلق الحرية في تصحيح الأخطاء اللغوية وتهذيب الأساليب وضبط الصياغة في المواد التي ستنشر. وكان بعض من هؤلاء علماء متمكنين ضالعين من اللغة (وليس في اللغة). وكان التوأم (لا التوأمان) مصطفى أمين وعلي أمين صاحبا دار (أخبار اليوم) المؤسسة الصحافية الكبرى، يعتمدان على أحد خريجي دار العلوم في مراجعة ما يكتبانه وتصحيح ما قد يكون في مقالاتهما وفي الأخبار والمواد التي يحررانها ما يستوجب التصحيح. وهذا الدرعمي (نسبة إلى كلية دار العلوم التي كانت معقلا ً للغة العربية وأصبحت اليوم تابعة لجامعة القاهرة) سيصبح فيما بعد، أحد ألمع الصحافيين في صحف مؤسسة (أخبار اليوم)، وهو محمد فهمي عبد اللطيف، الكاتب الصحافي الذي كان يكتب الافتتاحية اليومية لجريدة الأخبار)( ، وينشر في عدد الأربعاء (يوميات الأخبار) في الصفحة الأخيرة التي كان يكتب فيها كبار الصحافيين والكتاب كعباس محمود العقاد، وسلامة موسى، ومحمد زكي عبد القادر، وتوفيق الحكيم، وغيرهم. وفي أقسام التصحيح في الجرائد تخرج الكاتب الصحافي والشاعر الكبير كامل الشناوي الذي كان طالبًا في الأزهر، فانتقل بموهبته وبكفاءته من قسم التصحيح في عديد من الجرائد التي عمل فيها، إلى أقسام التحرير. ولما تأسست جريدة الجمهورية)( ، التي كان أول رئيس لتحريرها محمد أنور السادات، التحق بها كمال الشناوي المصحح 1953 في سنة السابق، فكان من محرريها وكتابها المتميزين، وتولى في إحدى الفترات رئاسة تحريرها، وكان ينشر يومياته في الصفحة الأخيرة من (الجمهورية) تحت عنوان (ساعات). وكان من زملائه في تلك الجريدة، الكاتب الصحافي محمود السعداني المعروف بلقب (الولد الشقي)، الذي بدأ حياته في الصحف من أقسام التصحيح، قبل أن يسطع نجمه ويصبح أحد كبار الصحافيين في مصر، وتولى رئاسة التحرير أكثر من مرة. وفي لبنان بدأ الصحافي سعيد فريحة صاحب دار (الأنوار) الصحافية التي تصدر عنها جريدة (الأنوار) ومجلة (الصياد) ومجلات أخرى، مساره (لا مشواره) الصحافي من أقسام التصحيح، وهو رجل عصامي علم نفسه بنفسه، وكان يتقن لغته إتقانًا خوله ليصبح أحد كبار الصحافيين في بلده. وكثير من كبار الكتاب والصحافيين العرب تخرَّج في (لا تخرَّج من) أقسام التصحيح. ففي المغرب بدأ الدكتور محمد عابد الجابري رحلته مع القلم في قسم التصحيح بجريدة "العلم"، قبل أن يهاجر إلى سوريّة لإتمام الدراسة. ومن قسم التصحيح بدأ الكاتب الأديب الصحافي الأستاذ عبد الجبار السحيمي الذي يمتاز بوفائه المطلق لهذه الجريدة التي منذ أن دخلها وهو في مقتبل العمر فلم يغادرها إلا للقبر، رحمه الله. وفي قسم التصحيح في جريدتنا هذه تخرج كتاب وصحافيون، أذكر منهم من الذاكرة الأساتذة : زين العابدين الكتاني، والمحجوب الصفريوي، وإدريس الخوري، وميمون الأزماني، والإذاعي بنعيسى الفاسي، وكاتب هذه السطور. وفي عهد ما قبل الاستقلال عمل في قسم التصحيح بهذه الجريدة، الأستاذ محمد إبراهيم الكتاني، والأستاذ الشاعر محمد بلحسن، وآخرون ممن أصبحوا من الكتاب والمؤلفين ومن المثقفين الكبار. والمطبخ الصحافي، كما كان أساتذة الصحافة في مصر يطلقونه على أقسام التصحيح، هو الموقع الحساس من مواقع الجرائد، لأن فيه يتم إعداد (الغذاء اليومي) الذي تقدمه الجرائد إلى الجمهور. فإذا فسد المطبخ فسد الغذاء. وغالبًا ما يكون المصححون في المستوى المطلوب يؤدون عملهم بكفاءة ومعرفة، ولكنهم يلاقون العنت من بعض الكتاب والصحافيين الذين لا يتنازلون ولا يستسلمون للأمر الواقع ويبادرون إلى إصلاح لغتهم. فالمصحح قد يكون مغلوبًا على أمره إن كان لا يملك الصلاحية الكاملة ليمارس مهمته كما يجب، مع أن عمله من أسس المهنة، لأنه يجمع بين التصحيح والمراجعة والتدقيق. وهي مراحل ثلاث متتابعة، يمكن أن تتم بالقلم، أو تتم على جهاز الحاسوب مباشرة. أذكر أن الأستاذ الزعيم علال الفاسي كان يبعث بمقالاته إلى "العلم" بخطه الذي لم يكن يتعامل معه في المطبعة سوى الزميل المحجوب الصفريوي، ثم صرت أتعامل معه لما انتقل الزميل إلى التحرير. وذات يوم نشر مقال للزعيم وبه ثلاثة أخطاء، فاتصل بالجريدة وطلب أن يزوره المصحح الذي صحح مقاله أمس ليتعرف عليه. فلما ذهبت إلى مركز الحزب، استقبلني الأستاذ في مكتبه، وغمرني بالحفاوة الحانية التي خففت من روعي، وقال لي : (أعرف أن خطي استعصى عليك. ولكن الأخطاء التي وقعت في المقال من حسن الحظ أن لها وجهين). فما كان مني إلا أن أوضحت للأستاذ الكبير الذي كان تواضعه معي حافزا ً لأشرح الموقف : (أستاذي، كنت متيقنًا أن الوجه الذي نشرت به الكلمات الثلاث هو الصحيح، وأعتذر عن الخطأ. وما كنت أعلم أن لها وجهًا آخر، وهذا من حسن حظي. ومع ذلك أجدد الاعتذار). فانشرحت أسارير وجهه فبدا صبوحًا مشرقًا، وهو يقول لي : (عافاك .. الله يعاونك). فكان ذلك درسًا عظيمًا في تواضع الأساتذة الكبار، ودرسًا عظيمًا في تقدير مهمة المصحح الذي هو بمثابة الطاهي في المطبخ الصحافي، وفي تشجيعه على القيام بعمله، مع الاعتبار أن ليس كل خطأ له وجهان. فهذه مسألة دقيقة يدركها من يعرف لغته.