توقعات أحوال الطقس اليوم الأحد    تفكيك أطروحة انفصال الصحراء.. المفاهيم القانونية والحقائق السياسية    مجموعة بريد المغرب تصدر طابعا بريديا خاصا بفن الملحون    بيدرو سانشيز: إسبانيا تثمن عاليا جهود الملك محمد السادس من أجل الاستقرار الإقليمي    السعودية .. ضبط 20 ألفا و159 مخالفا لأنظمة الإقامة والعمل خلال أسبوع    المجلس الأعلى للدولة في ليبيا ينتقد بيان خارجية حكومة الوحدة ويصفه ب"التدخل غير المبرر"    الأستاذة لطيفة الكندوز الباحثة في علم التاريخ في ذمة الله    الأمن في طنجة يواجه خروقات الدراجات النارية بحملات صارمة    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    إسرائيل تتهم البابا فرنسيس ب"ازدواجية المعايير" على خلفية انتقاده ضرباتها في غزة    المغرب أتلتيك تطوان يتخذ قرارات هامة عقب سلسلة النتائج السلبية    أمسية فنية وتربوية لأبناء الأساتذة تنتصر لجدوى الموسيقى في التعليم    لقاء بوزنيقة الأخير أثبت نجاحه.. الإرادة الليبية أقوى من كل العراقيل    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    التوافق المغربي الموريتاني ضربة مُعلمَين في مسار الشراكة الإقليمية    من الرباط... رئيس الوزراء الإسباني يدعو للاعتراف بفلسطين وإنهاء الاحتلال    مسؤولو الأممية الاشتراكية يدعون إلى التعاون لمكافحة التطرف وانعدام الأمن    المناظرة الوطنية الثانية للجهوية المتقدمة بطنجة تقدم توصياتها    توقع لتساقطات ثلجية على المرتفعات التي تتجاوز 1800 م وهبات رياح قوية    سابينتو يكشف سبب مغادرة الرجاء    الممثل القدير محمد الخلفي في ذمة الله    ال"كاف" تتحدث عن مزايا استضافة المملكة المغربية لنهائيات كأس إفريقيا 2025    ألمانيا تفتح التحقيق مع "مسلم سابق"    الدرك الملكي يضبط كمية من اللحوم الفاسدة الموجهة للاستهلاك بالعرائش    التقلبات الجوية تفرج عن تساقطات مطرية وثلجية في مناطق بالمغرب    مدان ب 15 عاما.. فرنسا تبحث عن سجين هرب خلال موعد مع القنصلية المغربية    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    توقيف شخص بالناظور يشتبه ارتباطه بشبكة إجرامية تنشط في ترويج المخدرات والفرار وتغيير معالم حادثة سير    علوي تقر بعدم انخفاض أثمان المحروقات بالسوق المغربي رغم تراجع سعرها عالميا في 2024    جلسة نقاش: المناظرة الوطنية للجهوية المتقدمة.. الدعوة إلى تعزيز القدرات التمويلية للجهات    نشرة إنذارية: تساقطات ثلجية على المرتفعات وهبات رياح قوية    الحوثيون يفضحون منظومة الدفاع الإسرائيلية ويقصفون تل أبيب    أميركا تلغي مكافأة اعتقال الجولاني    بطولة انجلترا.. الإصابة تبعد البرتغالي دياش عن مانشستر سيتي حوالي 4 أسابيع    "فيفا" يعلن حصول "نتفليكس" على حقوق بث كأس العالم 2027 و2031 للسيدات        مهرجان ابن جرير للسينما يكرم محمد الخياري    دراسة: إدراج الصحة النفسية ضمن السياسات المتعلقة بالتكيف مع تغير المناخ ضرورة ملحة        اصطدامات قوية في ختام شطر ذهاب الدوري..    بريد المغرب يحتفي بفن الملحون    العرض ما قبل الأول للفيلم الطويل "404.01" للمخرج يونس الركاب    الطّريق إلى "تيزي نتاست"…جراح زلزال 8 شتنبر لم تندمل بعد (صور)    جويطي: الرواية تُنقذ الإنسان البسيط من النسيان وتَكشف عن فظاعات الدكتاتوريين    مراكش تحتضن بطولة المغرب وكأس العرش للجمباز الفني    طنجة: انتقادات واسعة بعد قتل الكلاب ورميها في حاويات الأزبال    كودار ينتقد تمركز القرار بيد الوزارات    مؤتمر "الترجمة والذكاء الاصطناعي"    البنك الدولي يدعم المغرب ب250 مليون دولار لمواجهة تغير المناخ    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    المستشفى الجامعي بطنجة يُسجل 5 حالات وفاة ب"بوحمرون"    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عشيقة عمري!
نشر في العلم يوم 04 - 11 - 2012

إنْ أنْسَ، فلنْ أنسى حَدَثين بسيطين، عَمَّقا رؤيتي في مُجْتمعي، وقَلَبا حياتي كاملةً، رأساً على عَقِبٍ، بل لَقَّناني الكثيرَ الكثيرَ من الْحَذَر والْحيطة، كأنَّني كنتُ يومئذٍ أعْبُرُ شلاّلاتِ نْياغارا على حَبْلٍ مُعَلَّقٍ. وجعلاني أشعر أنني أعيش في غابة موحِشَة، لايكْمُنُ فيها ولوقَدْر يسير من الإنسانية.
ودَعْك، سيدي، من القيم النبيلة، والْمَبادئ الإنسانية الرفيعة، مِمَّا يتردد على صفحات الْجَرائد والْمَجلات، وفي أرْكِنة الأحزاب والنقابات والْجَمعيات والْمُنظمات، ومِمّا تُذيعه القنواتُ التلفزية. فكل ما تلوكُهُ تلك الْجِهاتُ، وما تصدَحُ به ألسِنَتُها الطويلة في الْمَواسم والْمُناسبات، ليس إلاعِلْكا للبيع والشراء في سوق البشرية، وإلْهاء البُسطاء، ودَغْدَغةِ الضُّعفاء. وهذه قناعتي الثابتة، النابعة من تَجْربة حياتية طويلة، لا أظُنُّ أنَّ لساني ينْطِقُ بِها عنِ الْهَوى..!
والْحقيقة أنني لَمْ آتِ بِجَديدٍ، فقد كانتْ هذه حالنا منذ قرون، ورِثْناها عَمَّنْ سَبَقونا، وحافظنا عليها. ويا لَسَعادَتِنا وفرْحَتِنا بِماوَرِثْنا!..وهاك الدليلَ من ملايين الأدِلَّة. يقول مُحَمّد بنُ عبد اللهِ الْمُؤَقِّتِ في كتابه ((الرِّحلة الْمُرّاكشية)): ((..واتْرُكْ حالَ غالِبِ أهْل هذا الْوَقْت، فإنه السُّخط والْمَقْت))..ويقول:((..إنْ أقمتَ لَهُمُ الشَّرْعَ رَفَضوك، وإنْ ألَنْتَ لَهُمُ الْجانبَ مَقَتوك، العالِمُ عندهم حقير، والظالِمُ عندهم كبير. عندهم قابض الْمال، أعَزُّ من الأب والْعَمِّ والْخال، إذا نظروا إلى مُنْكَر قَرَّروه، وإذا رَأوْا معروفا أنْكَروه))..وهذا يكفي ويشفي الْغَليلَ!
وبِما أنني كنتُ مُلَقَّحا ضدَّ الْجَراثيم الاجْتِماعية، فَلَمْ أُسايِرْ هذا السلوكَ، فأقتدي بِهِ، أوأطبق الْمَثَلَ السائرَ: ((مَنْ عاشر قوما أربعين يوما صار منهم)). لا لا، لقد عاشرت قومي خَمسةً وستين عاما، ولَمْ أحاول أن أحتذِيَ حذْوَهُمْ، لأن حِمْيَتي الكامنة في تربيتي ونشأتي وتعليمي، حالتْ دون ذلكَ!..وقياسا على قولة هرقليطس: ((لَمْ يَكُنِ الناسُ ليعرفوا الْعَدلَ، لولَمْ يَكُنْ هناك ظلم)) ولولا الداء، لَمَا عرف الْبَشَرُ الدواء، حَجَمْتُ عن إلْحاق الأذى بالآخرين، أوالكيل لَهُم بالْمِكْيالَيْنِ، ولوكانا من نصيبهم. واكتفيتُ بالآية الْكَريمة: ((وأعْرِضْ عَنِ الْجاهِلينَ))!
ولنْ أُغالِيَ في الكلام، إذا قلتُ إن وراءَ هذين الْحَدَثين لقبي العائلي، بل الْحَرْفُ الأخيرُ منه فقط، أي النونُ!..فلو حُذِف هذا النونُ، وعُوِّضَ بِحَرف آخرَ، كاللاَّمِ، مثلا، لَحُلَّ الْمُشْكلُ، ولَرُبَّما تغيرَ مَجْرى حياتي كُلُّهِ!..لكنْ ((سبقَ السيفُ الْعَذَلَ)) فَحَملتُ لقبي على ظهري بِحُروفه الثّمانية، وسِرْتُ في مسالك هذه الْحياة، كما حَمل سيزيفْ صخرتَهُ إلى قِمّة الْجَبل!
وهذا لا يعني أنني أرفض لقبي لِمُجَرَّدِ أن حدثين بسيطين أثَّرا فِيَّ، أو يُؤْخَذُ كلامي على مَحْمَلِ الْجِدِّ!..إنه الآنَ، أصبح قطعةً مني، لا أستطيع فِراقَه، ولو لبُرْهَة، كسائر بني آدَمَ مع أسْمائهم. وإنَّما أريد أن أُثيرَ نقطةً، وهي أنَّ بعض الأمور العادية تَمُرُّ بنا على حين غَفْلة، ولا نُعَبِّرها أو نُحِسُّ بِها. رُبَّما لأنَّها من جُمْلَةِ الأمور التي نَعيشها يوميا. غيرَ أن الكاتب الْقُحَّ، الذي يُحْصي الأمورَ كبيرَها وصغيرَها، وينظر في شاذِّها وفاذِّها، لايَدَعُ شيئا يفلِتُ من بين يديه، ولايفْحَصُه ويُمَحِّصُه، وبالتالي، يُعطيه أبعادا نفسية واجتماعية وسياسية، ليَجْعلَه قضيةً من قضايا كتاباته وحِواراته.
وحتى لاأظل تائها بين السطور، أورِدُ الْحَدثَ الأولَ!
في صَبيحة العاشر من أكتوبر1969 سافرتُ من مدينة مكناسَ إلى قرية (عَيْنِ...) القريبة منها، لأبدأ عملي بِمَدْرستها الْمُختلطة، إذ كان الدخولُ الْمَدرسي في فاتِحِ أكتوبر وليس في بداية شتنبر، والعطلة الصيفية تَمْتَدُّ ثلاثةَ أشهرٍ بالتَّمام والكمال، من اليوم الأول في شهر يوليوز إلى اليوم الأخير من شتنبر. وما أن دخلتُ الْمَدرسةَ بِخُطًى مضطربة، وعينين زائغتين، أتأبَّط مِحفظتي، وأتعثّر في بَدْلتي، التي لَمْ أَأْلَفْ لِباسَها بَعْدُ، أسأل عن السيد الْمُدير الْمُحْترم، حتى رأيته يُغادر مكتبه، وهو يُهَروِل نَحْوي باشّا هاشّا، يتقدمه كرشه الصغير (لَمْ يصبح مفتشا ليصير كرشه كبيرا كسائر الْمُفتشين القليلين في ذلك الْحين) ولَمَّا اقترب مني، بسطَ يديه كلتيهما، صائِحا بكلماتٍ وعِباراتٍ مستهلكة في الْمُناسبات، تتطاير من بين شفتيه بشكل مُفاجئ:
أهلاً وسهلاً بأستاذنا العزيز!..يا مرحبا، يا مرحبا بالبدْر الْمُنير الذي طلع على هذه القرية الوديعة!.. لوكُنّا نعلم بِمَجيئك، لَفَرَشْنا لك الزرابي، ونثرنا فوقَها الورود!..ألا تعلمُ أن كل التلاميذ والْمعلمين ينتظرون قُدومَك بصبر نافد؟!..هذا يوم سعيد!
أصابتني دهشة وذهول عارمان، وأنا أشك في شخصي، وأردد في نفسي:
ألا يكون هذا الرجل أخطأ هدفَه؟!..ربّما ينتظر مفتشا عاماًّ، أو قائدا جديدا، أو موظفا كبيرا من وزارة التعليم، وإن كان جِسْمي النَّحيل وحَجْمي الضئيل لايَمْلأُ العين!..أَأَستحِقُّ كلَّ هذا الترحيبِ، وأنا مُجَرَّد شابٍّ ناشئ، يبحث عن مَوْطِئ قَدَمٍ في مُجْتَمعِه؟!..(لَمْ نكنْ نرى في تلك السنوات الأولى شرطيا أو مفتشا نَحيلَ الْجِسم، قصيرَ القامة، فالضَّخامة كانتِ السِّمةَ الغالبةَ لذوي الْمَناصِب الْحَسَّاسة، تَجْعلنا نَحْتَرم ونَخْشى صاحبَها، ولوكان لايفقه حرْفا)..كيف يفرش لي الزرابي، وأنا أنام على الْحَصير؟!..ينبغي أن أقدم له نفسي، وأصارحه بِحَقيقتي، كيلا يتمادى في حفاوته، التي أخجلتني وأربَكَتْني!
سلمته قرارَ تعييني بيدٍ مرتعشة، وفَمٍ مُتَلَعْثِمٍ، وأنا أكاد أسقط مُغْمى عليَّ من رائحته القوية التي تَزْكُم الأنف، وتقطع النفس، وتُغْشي العين، كأنه جاءني من قفص
للأرانب، أومن معمل للخميرة:
اِسْمَحْ لي..سيدي..الْمُدير، أن ...!
قاطعني قائلا:
لا مَعْنى لِهَذا التقديم!..هل يَخْفى القمر، ولو كانتِ السَّماءُ غائمةً؟!..أنا، وأعوذ بالله من قولي أنا، فَهِمْتُ بفِراستي ونباهَتي، اللتين لا تُخْطئان ولا تزيغان، أنك السيد فُلان بن عَلاّن، الذي تَمَّ تعيينك بِهذه الْمُؤسسة!..أليس كذلك؟!
وهنا غَرِقْتُ أكثرَ في دهشتي وحيرتي، وأحسست، فِعْلاً، أنني أغوص في حُلْم عميق، لا أدْري كيف أصحو لأتَخلّص منه: أأنا فوق الأرض أم في كوكب آخر؟!..أكل هذه الْبشاشة، والْمُعاملة الْحَسنة توجد في مُجْتمعي، وأنا أظنه واديا غيرَ ذي زَرْعٍ؟!..إذن، الدنيا ما زالتْ بِخير، ما دام فيها هذا النَّموذج الْحَيُّ من الْمُدَراء!
حرّكتُ له رأسي، فوقَ تَحْتَ، أوافقه أيْ نَعَمْ!
وزاد بثقةٍ مؤكِّدا:
لقد توصّلتُ بنسخة من تعيينك، وبِمَلَفِّك الإداري، وهناك مَنْ رسم لي ملامِحَك وقسماتِك بدقة، فاطْمَئنَّ، يا بنيَّ، بأنّك في أيْدٍ أمينة!
قال الْمُدير، وهو يُشير إلى نفسه!
ثُمَّ أخذني من يدي، كأنه يعرفني منذ سنوات، وسِرْنا في فِناءِ الْمَدرسة نذْرَعُها، ذهابا وإيابا، رِجْلاً بِرِجْل، والتلاميذ والْمُعلِّمون يلتَهِمونني بعيونِهِمْ، وكُلَّما حاولتُ أن أبتعدَ عنه، يَجْذبني باسِماً!
اِلْتَفتْتُ إليه، وأنا أحاول أن أسُلَّ يدي:
شكرا، سيدي، على طيبوبتك، آمِلاً أن أكون عند حُسْنِ ظَنِّك!
اِفْتَرَّ فمُه عنِ ابتسامةٍ صَفْراءَ:
لَنْ تَجِدَ في شخصي إلا الوالدَ الْحَنونَ، وثِقْ بأن كل ما يعْسُرُ عليك، سيسْهُل عليَّ، فلا تتردّد في طَلَبِ ما تُريد وترغَب نفسك!
وصَمَتَ قبلَ أن يُرْدِفَ:
والآن، كفى من القيل والقال، والسؤال تِلْوَ السؤال، وتعالَ معي إلى بيتي، أُقَدِّمْك لأسرتي، وتسترِحْ من عَناءِ السفر!
وأيَّ عَناءٍ أوعَياءٍ يقصد، والْمَسافة بين مكناس وهذه القرية لا تتجاوز بضعةَ كيلومتراتٍ؟!
قلتُ بيني وبين نفسي مُتَعَجِّبا!
ولَمَّا حَلَّ الْغذاء، تَحَلَّقْنا حول قَصْعَةِ كُسْكُسٍ بسبع خُضَرٍ، صُحْبَةَ قِدْرٍ من اللَّبن الْخاثِر. وتَعَمَّدَتْ إحدى بناته الْخَمْس، وهي دَحْداحَة كالبقرة الْهولاندية، أن تَحْضُر مُتَغنِّجةً، تَمْشي في الأرض مَرَحا، وتتلوّى على هذا الْجانب وذلك الْجانب، ثُمّ تَتَّخِذ مَكانَها إزائي، لِحَد أنْ دفعتْ أُخْتَها بعيداً لتجلس وتلتصق بي. فانْتابَتْني موجة من إحساسات غريبة، أفقدتني توازني. ويظهر أنَّها كُبراهُنَّ، دخلتْ عُشَّ الزواج باكِرا، كما رُوِيَ لي فيما، فتَهَدّم في ليلته الأولى، لأن زوجَها الشَّابَّ أدرك ليلةَ الدُّخلة أن الطريقين، الرئيسية والثانوية، كانتا مفتوحتين ومُعَبَّدتين. فلَمْ يتحمَّلِ الْمِسْكينُ أن تُدَشَّنا قبلَه، وهو الذي أنفقَ الكثيرَ من الْمالِ والْجُهْد لتَزفيتِهِما، وانتظر طويلا لِيَمُرَّ منهما بشكل رسْمي وعَلَني، لكنَّ ((الرياح تَجْري بِما لاتشتهي السفن))!
وكانتْ، بين الْحين والآخر، تُلَقِّمُني بيدها قطعةَ لَحْمٍ، أو تُكَوِّر لي لُقْمةَ كُسْكُس، وتُلْقيها في فَمي، كما يقذف اللاَّعب الكرةَ في الْمَرْمى:
كُلْ هَنيئا مَريئا، لا تَخْجَلْ، إنك بِمَثابة أخي!
فيردُّ الأب مؤيِّدا:
طبعا، لَمْ تقلْ بِنْتي العاقلة إلاصِدْقا!..لقد شاءتِ الأقدارُ أن تَحْمِلَكَ إلَيَّ لتكونَ ابني الوحيد، فأنا أبو البنات!
وقبل أن نَرْفَعَ أيْدِيَنا عنِ القَصْعةُ، تظاهرَتْ بالنُّهوضِ، وتَمايلتْ بكنيزَتِها الْمُشَحَّمة الْمُلَحَّمة، فسقطتْ فوق حِجْري، كالرَّدْمِ...!
صِحْتُ عاليا، وأنا أُمْسِكُ به، فيما نَهَرَها الأب حانقا، وحَبّاتُ الكُسكس تتناثر من فَمِه، حتى كاد يَغَصُّ:
لعنة الله عليك إلى يوم الدين، أيتها البَهيمة!..ألاتَحْتاطين في قُعودك وقِيامك؟!..هكذا فِعْلُك دائما، ترْفُسينَ ما تَجِدينه في طريقك كالناقة العَمْياء!..اُغْرُبي حيناً من قُدَّامي، يا وَجْهَ النَّحْسِ!
ثُمَّ التفتَ إلَيَّ يسألني:
ألايوجد كسر أوِ الْتِواء، لاسَمَحَ الله؟!
وقبل أن أُجيبه، قامَتْ زوجته وبناته يُغادِرْنَ الغرفة، وهُنَّ يضعن أيديهن على أفواهِهِنَّ، كي يَحْبِسنَ ضَحكاتِهِنَّ، وإحداهُن تَهْمِس في أذن أخرى:
يا لَشَّقي!..رُبَّما لن يستطيع الزواجَ طولَ حياته!
رفعتُ يدي عن حِجْري، وأنا أتصنّع ابتسامةً:
الْحَمْد لله، هدأ الألَمُ! وقام يتأبَّط ذراعي، ويتَّجِه بي نَحْوَ الباب قائلاً:
الآن، ستُسَرُّ كثيرا، وتنسى السَّقْطة، عندما أفاجئك بأن في هذه الْمَدرسة منزلا صغيرا مَفْروشا، مؤلَّفا من غرفة ومطبخ وبيت الأدب، لَمْ أُسَلِّمْهُ لأيِّ مُعَلِّم من قَبْلُ!..أتعرِف لِماذا؟!..يا لَحَظِّك الْحَسَن!..أنتَ مَرْضِيُّ الوالدين!..لقد كنتُ أحتفظ به لك وَحْدَك فقط، كأن قلبي أعْلمني بقدومك، رَغْمَ أنَّني لَمْ أكُنْ، قبل الآنَ، أعرفك، ولَمْ أسْمَعْ بك بَتاتاً، والله شاهدٌ على ما أقول!
أبْرَقَتْ أساريري، وغَمَرَ الْبِشْرُ وَجْهي، وأنساني الْخَبرُ الْخَبْطةَ:
هذا من فضل ربي!..لَمْ يَخْطُرْ ببالي قطُّ أن تُكْرمَني بِهذا الْمَنزل!
ولَمْ يكنْ ينقصُ هذا السَّكَنَ غَيْرُ الْماءِ والْكَهْرباءِ، فكنتُ، خلالَ الأسبوع الوحيد الذي قضيته فيه، أسقي الْماءَ من بئر الْمدْرسة، وأستضيء بنور الشمعة أوالفتيلة..!
فِي تلك الليلة الأولى، جَلَستُ إلى طاولة، أقرأ كتابا للأديب العربي الكبير إبراهيم عبد القادر الْمازِني، مَوْسوماً ب((قَبْضُ الرِّيحِ))..وبعد لَحَظاتٍ، بينما سلطانُ النوم يداعب جُفوني، ونور الشمعة يتراقص بين عينيَّ، فينعكس ظلُّه على الْحائط، أحسستُ بِمَقْبَض الباب يتحرّك يَمينا ويسارا، فرفعتُ رأسي أسأل بِحَزْم وحَسْم:
مَنْ هُناك؟!
أجابني صوتٌ أُنْثَوي هادئ:
اِفْتَحِ البابَ!..أنا نورية!
ونوريةُ اسمُ بقرة في نصوص الكاتب الراحل أحْمَد بوكماخ!
فَتَحْتُ الباب، فوجدتُ بقرةً، فعلاً، تَحْمِل بين يديها صينية، تَضُمُّ زَلَفَةَ حَريرَةٍ، وبيضةً مسلوقةً، وصَحْنَ تَمْرٍ صغيرا، و خبزةَ شعيرٍ. فَأخَذْتُها منها، وأنا أمُدُّ رِجلي طويلا كيلا تَدْخُلَ، أي جَعَلْتُها حَجرةَ عَثْرةٍ في طريقِها. وهذا لايعني أنني لَمْ أتَشَهَّها، لَكنَّني غَلَّبْتُ عَقْلي على عاطفتي، إذْ خَشيتُ أنْ أُدْخِلَها فتُلَبِّسَني تُهْمةً، أو تنسُجَ لي، هي ووالدُها، شَرَكاً يُسْقِطاني فيه:
ألا تريد شيئا آخرَ؟
لا، شكرا جزيلا!..ولاداعِيَ، مرَّةً ثانيةً، إلى أن تُتْعِبي نفسَكَ!
هل مازلْتَ تتألَّم من أثَرِ سقطتي عليك؟!
طبعا!..أنصحُكِ بأن تُمارسي الرياضة، لتُخفِّفي من كنيزتك!
ولكنَّ الشبابَ يُفَضِّلونَها لَحيمة!
أنا لا يهُمُّني ذلك!..تُصْبِحينَ بِخَيْر!
وصَفَّقْتُ البابَ في وَجْهِها، ثُمَّ أحْكَمتُ غَلْقَهُ بالْمِرْتاجِ!
تُرى، ماذا يَحْدُثُ لو أدْخَلْتُها، وتكون هي حاملا، مثلا؟!..ألا تُحَمِّلُني الْمسؤوليةَ؟!..(في ذلك الوقتِ، لَمْ تظهرْ تقنيةُ ما يُسَمّونه بالبصْمة الوراثية، إذ يكفي أنْ يشهدَ البعضُ بترَدُّدِها على بيتي)!..على كل، عَمِلْتُ بنصيحة أمي، كما يقول عبد الوهاب البياتي: ((إياك والوُقوعَ في حَبائل النساء!..تقول جدتي وتُمْضي الليلَ في الدعاء))
كان طَوالَ الأسبوع الأول الذي أمضيته في الْمَدرسة، يزورني حينا في الفصل الدراسي ليطمئِنَّ عليَّ، ويوصِيَ تلاميذي خيرا بي، وحينا في بيتي، حاملا طبقَ طعامٍ أوحلويات، فيسألني عن مدينة فاس، وعُلَمائِها وأدبائِها، وعن أزِقَّتِها ودروبِها الضَّيِّقة، وعُيونِ مياهِها الْمُتَدَفِّقة، إلى غير ذلك من الْمَوضوعات التي تَحْضُر في تلك الساعة، أو يُفَرِّخُها عقلُهُ ليبقى حبلُ كلامِنا مُسْتَرْسَلا. وحينا ثالثا، يأخذُني في سيارته من طِرازِ (أُبِّيلْ) إلى الْمُدن القريبة، مثل (زَرْهونْ) و(سيدي قاسم) لاقتناء الْجرائد والْمَجلات، ك(العَلَم) و(الكِفاح الوطني) و(الشعب) و(الْعَرَبي).
وكان يقضي كلَّ أوقاته مع سيارته كأنّها عروسة، فينظفها ويغسلها في فِناءِ الْمَدرسة، ويُزيِّنُ داخِلَها بالصور والورود والدُّمى، وخارِجَها بِالْحِكَم والأمثال، من قبيل: عين الْحَسود فيها عود، والْحَسود لا يسود، كنْ ابنَ مَنْ شِئْتَ واكتسِبْ أدَبا!...كما كان يسوقُها بِمَهْلٍ شديد، فقد يُمْضي ساعةً كاملةً ليقطعَ مسافةَ عشرين كيلومترا في الْجَوِّ الصَّحْو، وثلاثينَ في الْجَوِّ الْغائم. ويكفي أن أشير إلى أنه عندما يصِل إلى مُنْعَطَفٍ ما، يوقِفُها ويترجَّل منها، ليرى ما إذا كانتْ هناك سيارة قادمة من الاتِّجاه الْمُعاكس أم لا، ولايُتابِع السَّيْرَ حتى تَمُرَّ تلك السيارة، ويتأكد من خُلُوِّ الطريقِ!
وفي نِهايةِ ذلك الأسبوع، سافرتُ إلى مكناس لأزور أختي، ثُمَّ عُدْتُ صبيحةَ الاثنين فرِحاً، لأسْتَأْنِفَ عَمَلي بنشاط، فَوجدْتُهُ متسَمِّرا بباب الْمَدرسة كالْجُنْدي، مُشَمِّرا عن ساعِدَيْهِ، كأنَّه مُلاكِمُ حَلَبَةٍ ينتظر خَصْمَه!
وقفَ شعر رأسي، وأنا ألْحَظُهُ يَخبِط الأرضَ بقدَمَيه حَنَقا، ويُكَشِّر عن أسنانه الْمَخْرومة. ثُمَّ خاطبني صارخا، وعيناهُ تُرْسِلان شَرارا أحْمَرَ، تكادان تَخْرجان، فيما بعضُ الْمُعلمين يتغامزون ويضحكون مني شَماتَةً:
أهْلاً وسَهْلاً بالطُّفَيْلي!..مَرْحى بِمَنْ ذاق خبزي وملحي ومائي، ولاذ ببيتي، وحَمَلْتُه في سيارتي!..أتُريد، أيُّها النِّمْس، أن تَجْعَلَني أضْحوكةً أمام القاصي والدّاني؟!..أتريد أن تُحَوِّلني في آخر الْعُمْر إلى عِلْكٍ في فَمِ الكبير والصغير؟!..شُلَّتْ يداك، أيُّها الثعلب الْمُحْتال!..لن تعيش إلى ذلك اليوم!..سأُريك مَنْ أنا، فأقص جناحيْك كِلَيْهِما!
حنى رأسه، كأنه يفكر في ماسيُضيفه، وأنا أنظر إليه مستغربا، ثُمَّ رفعه:
أجِبْني: أسَمَحَ لك ضَميرُك بأنْ تتطاوَلَ على أسْماءِ أسيادِك الرجال،
فتوهِمني بأنَّك أخٌ للكاتب العامِّ؟!..ألا تعلمُ أن ما فعلتَهُ تزويرٌ، يُحاسِبُ عليه القانون، ويُعاقبُ مرْتَكِبيه؟!..اِنْطِقْ، مالَكَ تُلْجِم لسانَك، وزُمُّ فَمَك، كأن الطيرَ فوق رأْسِكَ!..هَيّا، تكلّمْ!..قُلْ ما في جُعْبَتِك!
أجبته بأعصابٍ هادئة، وبُرودٍ تامٍّ، كعادتي دائما:
أنتَ الذي ينبغي أنْ تُصْغِيَ إلَيَّ: أنا لا أعرِفُ أيَّ كاتبٍ عامٍّ أو خاصٍّ، ولَمْ أسْمَعْ بِهِما، أو أذكرْ لك يوماً أنَّ أحدَهُما قريبٌ لي. يالَلْكَذِب والْبُهْتان!..كما أن بطاقةَ تعريفي الوطنية تَحْمل الاسْمَ نفسَه الذي يوجد في وثيقة تعييني، فكيف تدَّعي أنَّني مُزَوِّرٌ؟!..ولكنْ، يبدو من كلامِكَ أنَّك تسَرَّعْتَ في الْحُكْم عليَّ من خِلالِ تشابُهِ اسْمَيْنا. ولقدْ حاولتُ أن أُصْلِحَ خطأَك، لأنَّ استقبالَك لي كان مُبالَغاً فيه، أشْعَرَني بأن حركاتِك غير عادِيَّة، لكنَّك أخْرَسْتَني. وهذا خطأك فتَحَمَّلْهُ وَحْدَك، وافعَلْ ما تشاءُ!
تلأْلأَتْ عيناهُ كأنه عثَرَ على حَلٍّ:
إذَنْ، سأتَحَمَّل خطئي، وأفعل ما أريد، كما قلتَ بعظمة لسانك، وإنْ كان اللسان ليس فيه عظم!
ونادى على الْحارسِ، فحضر بسرعة:
اِذْهَبْ حالاً إلى منزل صاحبنا، وأحْضِرْ كلَّ حَوائِجِه!
والْتفتَ إلَيَّ، وهو يشير إلى رأس جبل قصير يُطِلُّ على القرية:
أمَّا أنتَ، أيُّها الْمُعلِّم (النَّبيهُ) الذي تتقمَّص شخصيةَ الْكِبار: مِنَ الآن فصاعِداً، ستغادر مدرستي إلى تلك الْحُجْرَةِ الْخَرِبة التي تعلو قِمَّتَهُ. أي ستنتقل من الْمَركزية إلى الفرعية، وسأزورك كلَّ يوم، لأُلَقِّنَكَ دُروسا في الاسْتِقامة، كيلا تعودَ تَستغِلّ أسْماءَ الآخرينَ..!
حاولتُ ألاَّ أنفعلَ، كيلا يَحْتدّ نقاشُنا، فقلتُ له بوجه باسم:
أنا لا أشعر بأية نَقيصةٍ، سواء درَّستُ هنا أو هُناكَ، لأن بلدَنا غني، بسُفوحه وقِمَمِه، ومُدُنه وقراهُ وبَواديه، وسُهوله ورَوابيه..وكل أبنائه في حاجة إلى التعليم، أغنياء كانوا أوفقراء، حَضَريين أو بدويين...!
اِعْتَرَضَ بصَوْتٍ عالٍ، فيما كان الْحارسُ يرمي أمتعتي بين قَدَمَيَّ:
كفى من الْهَذَر واللَّفِّ والدَّوران، ووَفِّرْ خُطَبَكَ الوطنية لتلاميذِك، ثُمَّ احْمِلْ سَقْطَ مَتاعِكَ إلى الْجَبل، ولا تُرِنِي وَجْهَك ثانيةً، أفَهِمْتَ؟!
وما أن غادَرْتُ بابَ الْمَدرسة بأمتار قليلة، مُتَّجِها إلى مَحَطَّةِ سَيَّارات الأُجْرة، حتى لَحِقَ بي مُعَلِّمٌ، فأوقفني ضاحكا:
إنَّها والله لَقِصَّة طريفة!..لقد كان صاحبك يظن أن الكاتب العام لنيابة التعليم أخٌ لك، لتشابه اسْمَيْكما، الشخصي والعائلي. ولِهَذا استضافك في بيته وأكرمك، وسَلَّمك منزلا مَجَّانا لتُقيمَ فيه، كي يَمْتَطِيَ ظَهْرَكَ ليصِلَ إلى أخيك الْمُفْترض، فينقله إلى إدارة أخرى بِمَكناس. ومن قلة ذكائه، لَمْ يَدْرِ أن الْمَغاربة لا يُسَمُّون اثنين من أبنائِهِم بالاسْمِ نفسه..!
اِنْفجَرْتُ ضاحكا:
الْحَمد لله الذي ألْهَمَني الصَّبرَ، فَلَمْ أذُقْ عسيلةَ ابنته!
سألني مستغربا:
كيف تضحك بِمِلْءِ فَمِك، وهو طردك من الْمَنزل والْمَدرسة، لتعاشر الثعابين والعقارب في هذا الْجَبل؟!
أجبته، وموجة الضحك لَمْ تُفارقني:
الْمَسألة بسيطة جدا!..سأطلب من أخي الكاتب العام أنْ ينقلني من هذه الْمَدْرسة بالْمَرَّة، كيلا يرى صاحبي وجهي ثانيةً، كما قال!
سألني دهِشاً:
ألا أجبْني بصراحة: أهُوَ أخوكَ فعلا؟!
قلتُ له بثقة:
أجلْ!..كيف لا يكون أخي، واسْمي ينطبق على اسْمِهِ؟!
نظر إلَيَّ باهِتا غيرَ مُصَدِّقٍ، فيما كانتِ السيارة تنطلق بي نَحْوَ مكناس..!
وكانتْ لصِهْرٍ لي معلم، أصبح فيما بعدُ مفتشا، ومؤلِّفا للعديد من الكتب التعليمية والتربوية، كلمةٌ مسموعةٌ، لأنه عنصر نشيط في منظمات كشفية وحزبية، وفي أنشطة التعاونية الْمَدرسية. وهو أيضا يُخْطئ الكثير فيه، لأن اسْمَه (مُحَمّد الدويري) من مدينة (عين اللُّوح)!..فلَمَّا حكى قصتي مع الْمُدير لنائب وزارة التربية، وحَدَّثه عن مواهبي الأدبية، أشفق عَليّ ورثى لِحالي، فعيَّنني بِمدرسة البنات بزرهون!
ولا أعْلَمُ هل مازالتْ تلك الْمَدْرسة تَحْمِل هذا الاسْمَ أم لا؟!..وهل مازالتْ قائمةً بِجُدْرانِها وسقوفِها الاصطناعية الرَّقيقة، التي تُرَخِّص لقَطراتِ الْمَطر الثقيلةِ بالسقوط على رؤوس التلميذات، وتبليل ثيابِهِنَّ أم لا؟!..وهل مازال البرد يقرِصُهُنَّ شتاءً، والْحَرُّ يشوي أجسامَهُنَّ الْغَضَّةَ صَيْفاً أم لا؟!..ذلك ما لا عِلْمَ لي به! وأمَّا الْحَدَثُ الثانِي، فيُشْبِه الأولَ إلى حَدٍّ ما، لأنَّهُما من (طينة واحدة) أو بالتعبير السائد حاليا (هُما مَعاً من صُنْع صيني)!..فحينما الْتَحَقْتُ بعَمَلي الْجَديدِ، اقْتَرَحَتْ عليَّ الْمُديرةُ أنْ أفْتَحَ حسابا بَنْكِياًّ، كي أسْحَبَ منه حوالتي، بَدَلَ البطاقة الصَّفراء التي كُنَّا ننتظر طَلْعَتَها الْمَيْمونة كلَّ شهر، كما ننتظر هلالَ رمضان!
توجّهْتُ إلى أحَدِ البنوك بِمَكناس، إذ لَمْ تكنْ آنذاك بِمَوْلاي إدريس أيةُ وكالة بنكية أو مَحْكمة أو مركز شرطة، ما عدا البريد!
ومن عادتي، ومازِلْتُ، أتزَيَّنَ عند القِيامِ بأيِّ عَمَلٍ، لأنني أعتبر الْمَظْهر في مُجْتَمَعِنا له تأثير في نفسية الآخرين، وعامل قوي في قضاء الْمَآربِ. فلبِستُ بَدْلةً، وطَعَّمْتُها بربطة عُنُقٍ ومِعْطفٍ طويل، يكاد يُلامس الأرض، كان صَرْعةً شائعةً في ذلك العَهْد، مِمَّا جعلني أبدو بدينا بعضَ الشيء، ما عدا رأسي الذي بقي في حَجْمِه الطبيعي، لَمْ يزِدْ ولَمْ ينقُصْ، سوى أنني نفَشْتُ شَعْرَ مَفْرِقَيَّ. وما أن دَلَفْتُ إلى بنك في الشارع التجاري السَّكَّاكين، حتى لَمَحْتُ كاتبةً، قامَتُها كغُصْنِ الْبانِ، تُشَرْئِبُ برأسِها، وتُرَكِّز عليَّ نَظَرَها، فأعجبني الْحالُ، وأحْسَسْتُ بشبابي وفُتُوَّتي...! ثُمَّ لَمْ تلبثْ أن نَهَضتْ من كُرْسيِّها، وسألتني باسِمةً:
صباح الْخَير، سيدي!..هل يُمْكِنُني أن أساعدك؟
صباح الْخَير، أريد أن أفتحَ حسابا!
هل تتكرّمون بذِكْر اسْمِكم من فضلكم!
طلبتْ مني أنْ أنتظر قليلا، ودَلَفَتْ إلى مكتب الْمُدير، وبعد بُرْهَةٍ، خَرجا مَعاً، وهي تُشير إلَيَّ. فتقدّم مني مُرَحِّبا، وهو يُرَدِّد اسْمي كاملاً. ثُمّ فتح بابَ مكتبه، وفَسَحَ لي الطريق، لأدْخُلَ أنا الأوَّلَ، فسبقته وجلستُ على أريكةٍ!
ماذا تريد أن تشربَ سيادتُك؟
بادرَ يسألني بوجه طَلْقٍ، فأجبته فورا:
عصير برتقال!
فرك يديه مغتبطا، وقال لي، وهو يطلب العصير عبر الْهاتف:
إنّك، والله، من الدَّوْحة الْجَلَّونية التي طَبَّقتْ شُهْرَتُها آفاقَ الْمَغرب والسينغال وساحل العاج. فهناك العديد من التُّجّار الْكِبار ومُدَراء الشركات والْمَعامل الْمُشتركين في بنكِنا، وها أنتَ، الآنَ، تنضافُ إلَيْهِمْ، فَأهْلاً وسَهلاً، وألفَ ألفَ مرحبا بشخصك الكريم!
وهنا أعادني كلامُه إلى صاحبنا الأول، قأسْرَرْتُ في نفسي:
ألا يكون هذا هو الآخر أخطأ الْعُنْوان؟!..مالي والدوحة والتجار والْمَصانع، وأنا مازلتُ فتى طريَّ العود، جِسْما وجيْبا وتَجْربةً؟!..يا إلَهي، لِماذا يَحْدُثُ لي كلُّ هذا؟!
أردْتُ أنْ أضَعَ حَداًّ لِهَذا الْمُسَلْسَل، فالْتَفَتْتُ إليه باسِما، وأنا أسَلِّمه بطاقتي الشخصية:
شُكْرا، سيدي، على لطافتك وظرافتك، وأوَدُّ لو تتفضّل بتَعْبئة الطلب!
بكلِّ سرور!
وما أن وقعتْ عيناه على خانة (الْمِهنة: معلم) حتى شَرِقَ حَلْقُه بِريقِهِ، وعَبَسَ وتَوَلَّى في وَجْهي، كأننِي عُضْوٌ في عِصابةٍ!..ثُمَّ بادر يسألنِي ليتأكّد، وهو يرفعني ويَخْفِضُني بعينيه البراقتين، كأنه يَزِنُني:
أأنتَ مُعلِّم، أم كنتَ معلِّماً من قبلُ؟!
ثبَّتْتُ عينيَّ في عينيه، وأجبته بِحَماسة وتَحَدٍّ، لأنني أدركتُ غرضَه:
إنَّ مِهْنةَ التعليم عشيقةُ عمري، ولن أفارقَها، حتى يُنازعَني الْمَوت!..ولنْ تُصَدِّقَني إذا قلتُ لك إنَّ أخي عبد الوهاب...!
قاطعني بصوتٍ مبحوحٍ:
أتقصِد الصَّائغَ الذي توجد ورشته في سوق...؟!
نَعَمْ!..ألَحَّ عليَّ أنْ أستقيلَ منْ وظيفتي، لأشْتَغِلَ معه نَظيرَ أجْرٍ يُضاعِفُ حَوالَتي الشَّهريةَ خَمْسَ مَرَّاتٍ، فأقْسَمْتُ بالْيَمينِ الْمُغَلَّظة أنْ أظَلَّ وَفِياّ لعشيقتي مدى حياتي!
في تلك اللحظة، فتح النَّادلُ البابَ، حاملاً كوبَ عَصيرٍ، فأوْقَفَه صائِحاً:
اِشْرَبْهُ، فلَمْ نَعُدْ في حاجةٍ إليه!
وطأطأ رأسَه، لينغمِسَ في الْمَلَفَّات الْمَوضوعة أمامه، مُتَجاهِلاً حضوري معه. فقُمْتُ مِنْ على الأريكة، وانْصَرفتُ من مكتبه، دون أن أُوَدِّعَه..!
إنه الْمُجْتمَع الذي قال عنه عبد الله بنُ الْمُؤَقِّتِ:
((العالِمُ عندهم حقير، والظالِمُ عندهم كبير. عندهم قابض الْمال، أعَزُّ من الأب والْعَمِّ والْخال))!
مرَّتِ أيام وأعوام، طويْتُ فيها هذا الْمَلفَّ، ولَمْ أعُدْ أُشْغِل بالي به، لأنني غُصْتُ في عالَمٍ آخرَ، عالَم الْكِتابة والنشر والسفر!..وفي سنة 2002 توصَّلتُ بدعوة من سلطنة عُمَانَ للمشاركة في نشاط ثقافي بعرض حول توظيف التراث في مَجَلَّة الطفل. فتوجَّهتُ إلى سفارتِها بالرباط للحصول على التأشيرة، ومن ثَمَّةَ عَرَّجْتُ على مَحَلٍّ للصِّرافة لتبديل العملة.
قدَّمْتُ للصَّرَّاف جوازي، ومبلغا من الْمال، فأخذ ينظر إلَيَّ مَرَّةً، وإلى صورتي بالْجَوازِ مرّةً أخرى، ثُمَّ سألني:
هل أخوك هو الصائغ عبد الوهاب...؟!
أجَلْ!..أتعرفه؟!
ألَمْ تكنْ مُعَلِّما بِمولاي إدريس؟!
أأنتَ مدير وكالة البنك...بِمَدينة مَكناس؟!
تَماما!..بلحمه وعظمه!
سألته ضاحكا:
ولِماذا خذلك الزمانُ، فأصبحتَ عاملاً في الصرافة؟!
تنهَّد طويلا، ثُمَّ ردَّ، وعلامة الْحُزن ترتسم على وَجْهِه:
لقد ضبطتْ لَجْنةُ الْمُراقبة أخطاءً في حساباتي، فسُجِنْتُ عاما كاملا، وصودِرَ بيتي، وخَسِرْتُ وظيفتي، وها أنا مثْلَما ترى!
أخرجْتُ مئةَ درهمٍ، هِبَةً له، وأنا أقول:
أمَّا أنا، فقد كنتُ وسأظلَّ معلما، إلى أنْ ألتحقَ بالرَّفيق الأعلى!
وقبلَ أنْ يتسلَّمَها مني، دخل شخص غليظ، يضع نظارةً سوداءَ على عينيه، يظهر أنَّه من ذوي الأُبَّهةِ، فبادرَ صاحبي قائلا:
تَنَحَّ جانبا، فهذا زبون يُكْرِمُني بعشرين درهَما في كل عملية!
سَحَبْتُ جوازي ومبلغي من يديه، وقلتُ له بصوتٍ حادٍّ:
سأُعيد هذه الْمِئةَ إلى جيبي، كما أعدْتَ أنتَ عصيرَ البرتقال، لأنك وأمثالُك، لن تُغَيِّروا سُلوكاتِكُمُ الرَّديئة، ولو حكموا عليكم بالسجن الْمُؤبد!..وصِدْق مَنْ قال: تزول الْجِبالُ، ولا تزول الطَّبائعُ!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.