أ لستُ أدْري لِماذا يرتَجِف قلبي، كلما سَمِعتُ اسمَ (الكويت) يُذْكَر، برغم ما أكُنُّهُ لِهَذا البلد الْجَميل من حُب وتقدير عَميقَين، فلن أنسى ضيافته لي، وكرمَه الْحاتِمي، مهما حَييتُ، ولن أفِيَهُ حقَّه مَهْما أثْنَيْتُ! ولاأبالغُ أوأجامِلُ إذا قلتُ بالفم الْمَلآن إنّني من أولئك الذين لاينسون فِعلَ الْخَير، ولو مِثْقالَ ذرَّةٍ منه!..ولست من أولئك الذين يشربون من البئر، ثُمّ يبصقون فيه! ماعلينا، ولأبدأْ قصتي مع الكويت: في أكتوبر 2002 توصلتُ بدعوة من وزارة الإعلام الكويتية لزيارتِها. فحزَمتُ حقيبتي، وتوجهتُ إلى مطار الدارالبيضاء. ولَمّا أردت سَحْبَ تذكرتِي من وكالة الأسفار، قالت لي الْمُكلفة بثقة: عُذْرا، لاتوجد تذكرةٌ باسْمِك، ولاباسم أيِّ شخص عربي! اِقترحتُ عليها أن تبحث بين الأسْماء الأجنبية، فربَّما يوجد اسْمي مُتَوارِيا أوتالفا، والْحَظ السّيِّء، أوالطّالع النَّحْس لايُريدُنِي أن أزور الكويت، أو أنَّ عيْنا (نَفّاثةً بالعُقَدِ) أصابتني بسَهْم حادٍّ! ضحِكتْ من كلامي قائلة: لا يوجد إلا اسْمٌ واحدٌ لروسي، يُدعى (لارْبِيوفْ بَنْكَلوفْ(! أرْدَفتُ في دهشة: إنه أنا، لقد كتبوا اسْمي بالإنْجليزية! اِعترضتْ قائلة: ولوْ!..هناك فرق كبير بين الاسْمَين، وأنا عبدٌ مأمور، لا يُمْكننِي أن أخالف الأوامر! ودّعتُها باحتداد: اِنتظري إلى يوم القيامة، فسيأتيك الروسي بِباقة ورد! وعُدتُ فوْرا إلى بيتي مَكسورَ الْخاطر، لأفاجئ أسرتي بعودتي، فقالت زوجتي متهكِّمةً: ماذا أحضرتَ لنا من الكويت؟..العربي الكبير أم الصغير؟ ثُمَّ هاتفتُ الدكتور سليمان العسكري في أمْر الْخطإ، فوعدنِي بإصلاحه، قبل أن يرتد إلَيَّ طرْفي! وفي الْخامسة من صبيحة الغد، أيقظتْنا رنّةُ الْهاتف، فظننّا أن مكروها أصاب أحدَ أقاربِنا؛ ذلك أن الساعةَ في الكويت، كانت الثامنة، لتخبرني الْجِهةُ الْمَعلومةُ بأنّ موعد سفري سيكون في الْعاشرةَ. فحملت حقيبتي ثانيةً، وتوجهت إلى الْمَطار، الذي يبعُد عن القنيطرة بِحَوالي ساعتين تقريبا هذا (دون الوقت الضائع بالْمَفْهوم الْكُروي) وإذا بالْموظفة، جزاها الله خيرا (تبشِّرنِي) بأننِي تأخرتُ عن الْمَوعد، وأن الطائرة لاتنتظر ركابَها كالْحافلة، فأفهمتُها بأن ساعة الطيران لَمْ تَحِن بعدُ! وكأنّها فهِمَتني بنباهَتِها: يظهر لي أنّهم أخبروك بتوقيت الكويت..هذا كثيرا ما يَحدُث! وعدتُ أدْراجي، فقالت لي زوجتي كعادتِها دائما: هذا جزاءُ مَنْ يسافر وَحْدَهُ! أجبتها، وأنا أعيد ملابسي إلى الصِّوان: يبدو أن كل ما يُجرى لي ليس عاديا، فعيناكِ اللتان تُرْسِلان شَرَرا، تَحولان دون تَيْسير سفري! وبعد حوالي شهر، توصلتُ بِمَوعد سفر جديد، ولكن في هذه الْمَرة كان مضبوطا، لاتشوبه شائبة، فقد أصلحوا كتابة اسْمي، وحددوا لي توقيتا مغربيا، بل حجزوا لي مقعدا في الدرجة الأولى، و(يالَسَعادتي، لأن الْخيرَ أتى كله)!! قصدت الْمَطار فرِحا، مطمئنا، وقمت بكامل الإجراءات، ثُمّ دخلت قاعة الانتظار، أتَنَفّس الصُّعَداءَ، وهي آخر ما ينتهي به الْمُسافرُ ليطير، وبالنسبة إلَيَّ، كانتْ بِمَثابة آخر مسمار أدُقُّه في نَعْشِ مشكلتي الْمُؤرقة! ولَمْ تَمُرَّ إلاّدقائقُ قليلةٌ، وإذْ بِي أرى شرطيا، يدخل القاعةَ مضطربا، وعيناه زائغتان، تتنقّلان بين الأركان والزّوايا، وهو ينادي على اسْمي بأعلى صوته، فتوجّستُ خيفةً، ودعوتُ في نفسي: اللهم اجعلْ هذا السفرَ خيرا وبركةً، يارَبَّ العالَمين! تقدمتُ من الشرطي متسائلا: ماذا هناك؟!..لِماذا تنادي عليّ؟! تفرّسني من قمّة رأسي إلى أخْمص قدمي، ثُمّ قال: ظهر لنا على شاشة الْحاسوب...! وتوقّف، كمَنْ غصَّ، فصِحْتُ: أطْلِقْها، لا تترُكْها بين حَلقِك ولسانِك!..ماذا ظهر لكم؟! أنا لا أصدق، لاأصدق بَتاتا! وضعتُ يدي على كتفه: يا سيدي، صدِّقْ أولاتصدِّق، قل لي ماذا هناك؟! بصراحة..رأينا في حقيبتك ما يشبه..قن..بلة! اِبتَسَمت قائلا: هذا ما كان ينقصني، أصبحتُ إرهابيا في خريف عمري!..ولِماذا لَمْ تفتحوها، فتتأكدوا قبل أن تنادوا علي، ألَمْ يَخْطُر ببالِكُم أن أفِرَّ من إحدى نوافذ بيتِ الأدب، مثلما نشاهد في الأشرطة البوليسية؟! أجابني مُعترضا: لا، نَحْن نَحْترم القانون!..ينبغي أن تفتح حقيبتك بنفسك!..أليس مفتاحُها معك؟..قل لي: ماذا يوجد فيها بالضّبط؟! لا شيء، سوى بعض الكتب والْمَجلاّت، التي سأهديها إلى رابطة كُتاب الكويت، ووزارة الإعلام، وجَمْعيات خيرية..! قال لي بوجه بَشوش: ثِقْ بأننِي قلتُ لَهُم بالْحَرف الواحد، والله شاهدٌ عليَّ: يستحيل أن يَحْصل هذا، وأبنائي يقرأون له قصصا تدعو إلى الرّأفة بالْحَيوان، فكيف يفعل هذا ليقضي على الإنسان؟!..وإذا كان ما تدّعونه حقيقةً، فأتَعهّد بقَصْعة كُسْكُس بسبع خُضر، غير أنّهم أرادوا أن يتأكدوا بِحُضورك!.. كُنْ مُطْمئِنا، ولاتَخْشَ سوءا، إنّه مُجَرّد شكٍّ، وهذا غالبا ما يَحْدث لنا! نظرت إليه باسِما: أرجو ألاّيَخسِروا القَصعة! وحينما دخلنا قاعةَ الكشف عن الأمتعة بالأشعّة السِّينية (هذا كان قبل أن يتحَوّل الْجِهاز إلى مدخل الْمَطار) وفتحتُ قُفْلَ الْحَقيبة، تفاجأنا جَميعا بقِنِّينة العسل البلَدي الْمَحْضِ، الذي نصطلح عليه باللهجة العامية الْمَغربية (الْحُرّ) كلّفنِي الْمُلْحق الإعلامي (فيصل الْمُتَلَقِّم) بتسليمها لأخيه، وأنا دَسَسْتُها بين الكتب في آخر لَحْظة، فغابتْ عن ذهني تَماماً! ولَمّا كان الشيء بالشيء يُذْكَر، فإن الأستاذ فيصل، الرجل الْحَليم الْوَديع، انتقل فيما بَعْدُ للعمل في لبنان. ويوماً ما، بينما كان داخلا إلى مكتبه، انفجرتْ قنبلة (وهذه حقيقية) فسقطت الرُّفوف التي كانتْ موضوعةً فوقها، وتطاير زجاج النوافذ شظايا! ويبدو أن القنبلة قديمة، لا تَحْتوي على موادَّ متفجِّرة قويّة، فَنَجا صديقنا بتأخُّر دُخوله قليلا، عندما كان يركُن سيارته. وما أن سَمِعتُ الْخَبرَ من قناة (الْجَزيرة) التي عادتُها أن تلتقط ما يدِب فوق الأرض وتَحْتها، حتى طار عقلي من مكانه، كأنّ صاعِقةً ضربَتْني، فقلت في نفسي، والذّهول يستولي عليَّ: يا لَسُخْرية الْقَدَر!..أمِثل هذا الرجل يُسْتَهْدَف؟! وبادرْتُ في تلك اللحظة إلى مُهاتَفته، فجاءنِي صوته يُطَمْئِنُنِي بأنه لَمْ يُمَسَّ بأذى! قلت له ضاحكا: ليتك تعود إلى الْمَغرب الآمن! كما أذكر أن هذا الرجل، لَمْ يَقِفْ مَكتوفَ الأيدي، لَمّا عَلِم أن صديقي الشاعر الراحل مُحَمّد الطوبي يكابد مرضا عُضالا، فأخذته إلى بيت الفنان عبّاس الْخياطي، حيث كان الشاعر يُقيم خلال الفترة الأخيرة من حياته، وسلّمه مبلغا كبيرا، مساهَمةً في اقتناء الأدوية الغالية الثَّمَنِ! وحتى لا أستطرد كثيرا في هذه الواقعة، أعود إلى (أصْحابي) بغرفة الكشف عن الأمتعة، كيلا أنساهم! قلت لَهُمْ مازحا: بالله عليكم، أجيبونِي: أليستْ هذه قنبلة من الْحَرب العالَمِية الأولى؟!..كيف تنطلي علينا، والقنابل أصبحتْ في حَجْم علبة سجائر، تفَجِّر مدينةً بعماراتِها الشاهقة، وأسواقها الضّخمة..؟! أطلق شرطي ضحكة عالية: اِخْرَسْ، يارجل، واذهَبْ قبل أن تُقْلِع الطائرة، ولاتنسَ أنك حرمتنا من قَصْعة كُسْكس! أجبته، وأنا أنصرف مُهَرْوِلا: أعِدُكُمْ بِها في الرحلة القادمة! وصِدْقاً قال الشرطي، فقد كنتُ آخرَ مَنِ الْتَحقَ بالطائرة، أو بالتعبير السّائد: آخرَ مَنْ أغلق البابَ خلفَه، وأطفأ النّور! بعد عشرِ ساعاتٍ، مُحَلِّقا بين السماء والأرض، قضيت نصفَها نائما، حَتّى كِدْتُ ألفَظ أنفاسي، وصلتِ الطائرة مطارَ الكويت. غير أنني لَمْ أُصَدِّق عيني، فما أن فُتِحَ البابُ، حتى هَجَم علينا جيشٌ من عُمّال النَّظافة، وجُلُّهم أسيويّون. فظننت أن الطائرة أخطأتْ طريقَها، ونزلتْ بِمَطار كراتشي، مثلا. لكن راكبا كويتيا بدينا أحسّ بِحَيْرتي وذهولي، فقال لي، والابتسامة ترتسم على شفتيه: يلزمُك أن تسير كيلومترا بين الأسيويين لتجدَ كويتيا واحدا!.. هل تيقّنتَ الآن بأن دَخْل النفط يعُمُّ الكثيرين؟! حقّا قلتَ، سيدي!..وأنا أيضا ما جئتُ إلى الكويت إلاّ لآخذَ حصّتي من النفط! اِنفجر ضاحكا حتى تطايرَ رذاذ فمه على وجهي، ثُمّ قال مازحا، وهو يُناولني منديلا ورقيا شَفّافا: تعال معي رِجْلا برِجل، أنا الْمُدير العام للأبناك! وبَدَلَ أن يأخذَني إلى بنك من أبناكه لأحُشَّ حصتي من دَخْل النفط، قادني إلى شرطي بالباب، يُديرُ جهازَ الكشف عن الأمتعة، فتدخّل مسؤول من وزارة الإعلام، كان ينتظرنِي، بأننِي كاتب مغربي، أحُلّ ضيفا على الوزارة، وأنا أنتفخ كالطاووس. فتَجاهله الشرطي، والْتَفَتَ إلَيَّ قائلا بلهجة الآمر: ناوِلْني الْحَقيبة من فضلك، لابُدّ من تفتيشها، ولتكُنْ ما تكون! ضحكتُ متسائلا، وأنا أريد أن أوفِّر عليه عَناءَ التَّفتيش: أتقصد، أنت الآخر، القنبلة؟!..لقد حلَلْنا مشكلتها في مطار الدارالبيضاء، قبل أن أركب!..إنّها مُجَرّد قِنِّينة عسل! اِعترض الشرطي حاسِما: لا لا، أنا أقصد قنبلتين، لا قنبلةً واحدةً! تساءلت مستغربا: وهل القنابل تتوالد وتتناسل هي الأخرى؟! صرخ في وجهي: يا سيدي، لاتُكثرْ من الكلام، ودَعْنا نَقُمْ بعملنا الأمْني!..اِفتحِ الْحَقيبة حالا، ماذا ستَخْسِر؟! حدّثْتُ نفسي: هربتُ من الدُّبِّ، فوقعتُ في الْجُبِّ!..رَبّي، ما آخر هذا الشريط الْمِكْسيكي؟! أشار إلَيَّ الْمَسؤولُ الإعلامي أن أفتح الْحَقيبة، واتَّجَهَ ليقفَ بعيدا، فامْتثَلْتُ لِحَركته الرّأسية، وفتحت قُفْلَها، فيما عينا الشرطي مُثبّتتان على حركة يدي، لاتزيغان عنها قَيْدَ أُنْمُلة، كأنه يَخْشى أن تنفجر الْحَقيبة في وجهه. وكالْمَرَّة السابقة، وجدنا القنينة نفسها، لكنّها موضوعة على العرض بين الكتب، ولِهذا انقسم العسل إلى نصفين، قسم انسابَ إلى فَتحَتِها، وقسم إلى قاعِها، بينهما برْزَخ لايبْغِيان!! حَملتُ حقيبتِي، وانصرفتُ خارجا، ثُمّ تذكّرت الْمُديرَ العام الْمُفْترض للأبناك، فعدتُ أبْحَث عنه، هنا وهناك، في هذه الزاوية وتلك، فلمْ أعثرْ له على أثَر. وبذلك عدتُ إلى الْمَغرب صِفْرَ اليدين، كَمَنْ (غابَ حَوْلَيْنِ كاملينِ، وأتى بِخُفَّيْ حُنَيْنِ)! كانت إقامتِي في فندق (مِريدْيانْ) الفاخر، الذي يُطِلُّ على مَجْموعةٍ من الأحياء والأسواق القديمة والْحَديثة، والْمَقاهي والْمَكتبات. وسرّني كثيرا أن يزورني في غرفتي مديرُ الفندق وكاتبُه، ويقدِّما لي نفسيهما بأنّهما مغربيان، يقيمان منذ سنوات طويلة في الكويت. وهُما الوحيدان اللذان يتكلّمان بالعربية، أمّا باقي الْمُوظَّفين والْعُمّال الوافدين من دول أسيوية، فلا يُجيدون غيرَ الإنْجليزية. ولذلك كنتُ عندما ألتقي بِهِمْ، أُحَيِّيهم أو أطلب منه إحضارَ شيء ما، مُتَعَمِّدا الْحَديثَ بالعربية، فيلجأون إلى الْمَغربيين ليُتَرْجِما لَهُمْ طلباتي. ويا لَها من أيام جَميلة قضيتها مع هذين الرجلين الشَّهْمَين، فقد كانا يوفِّران لي كلَّ ما أحتاجه، ويؤنساني في وحدتي، بل مازلت أذكر أن أحدهُما دسَّ في جيبي حفنةً من الدّنانير، تعادل ألفي درهم، وهو يقسم بأغلظ الأيْمان أن أقبلَها منه. وهذه من الأخلاق الْمَغْربية الأصيلة، التي يَحْسُدنا عليها الكثيرون..! أعدّتْ لِي وزارة الإعلام الكويتية، بَرنامَجا يوميا، حافلا بالزيارات والْمُحاضرات واللقاءات والْجَولات، وخَصَّصتْ سيارة تُقِلُّني، أنا ومرافقتي، إمّا إلى الْمَراكز العلمية، أورابطة الكُتاب، وإدارة مَجَلة ((العربي))..وإمَّا إلى مَقَر البرلَمان، والْمُنظَّمات النسائية، أوالكليات والْجَمْعيات والنوادي الاجتماعية والعلمية؛ فتارةً، يُطْلعني مسؤولوها على ما حقّقته الكويت من تطور علمي وثقافي واجْتماعي. وتارةً، ألقي عرضا حول أدب الأطفال، أوالصحافة الْمَغربية، أوجذور العلاقة الثقافية بين الْمَغرب والكويت، وهكذا..! وغالبا ما كانتِ الزياراتُ تَتِمُّ بين الثامنة والْحاديةَ عشرةَ صباحا، والْخامسةِ والثامنةِ مساءً، لأن درجةَ الْحَرارة هناك مرتفعة جدا، تصل، أحيانا، خَمسين فأكثرَ، تَحْت الظِّلِّ..! ومن الْمَعالِم التي لَمْ تُمْح من ذاكرتي (بيت القرين) أو(متحف القرين) الذي أحدثه الْمَجلس الوطني للثقافة والآداب والفنون في منطقة القرين، وهو البيت الذي تَحَصّنتْ فيه فرقة (الْمِسيلَة) الْمُكونة من أحَدَ عشرَ مُقاوما، عندما تعقّبهم الْجَيش العراقي في 24 فبراير1991 وهناك مركز أومتحف آخر، لايقل أهَمّية عن متحف القرين، يَخُص الأسرى والْمَفقودين. ويعرض في جهةٍ منه صورَهم وأسْماءهم على جدار مسيَّج، كأنه قبْوٌ معتم. وفي جهة أخرى، أحذية مُهْترئة، مُلقاة على الأرض بشكل فني، خلّفتها الْحَرب الضروس، ومُجسّمات لدبّابات وأسلحة، وخرائط توضيحية لِخُطة الحرب. وقبل أن أغادر هذا الْمَركز، سلّمتُ مسؤوليه مائتيْ نسخة من كتيباتي الْمُوجّهة للأطفال، هديةً لليتامى..! وأذكر يوماًً ما، عزَمتُ على زيارة (بُرْجِ الكويتِ الكبير) الذي يبدو لي من شُرْفة غرفتي متلألئا كلَّ ليلة، ولَمْ تَكنْ زيارتُه مُدْرجةً فِي البرنامج. فأوحى لي شيطاني، لعنة الله عليه، أن أغادر الفندق في الساعة الواحدة ظُهْرا. سرتُ في اتِّجاه البرج، وبعد لَحَظات، شعرت بالعطش الشديد، وبالوحدة والغربة، كأنّني في مدينة خالية، هَجَرها سُكّانُها؛ ذلك أن الدّكاكين مغلقة، والنّاس مُتُحَصِّنون في بيوتِهم الْمُكيّفة، والشوارع فارغة، لابشر يسير، ولاطير يطير، غير هذا الشَّقي! ولَمْ يُنْقِذْنِي من ظَمَئي إلاّ(صُنْبور) فوقه لوحة خشبية، مكتوب عليها بِخَطِّ اليد: ماء سبيل!..مثلما يوجد عندنا في كثير من الْمُدن الْمَغْربية العتيقة، كتطوان ومكناس ومراكش. ويُطْلقون عليه في فاس اسْمَ (السَّبّالة) أي الْماء الذي جُعِل في سبيل الله، ينتفع منه الْمُسافرون (أبناءُ السَّبيل) وأنا بطبيعة الْحال كنتُ منهم، ولِهَذا شرِبتُ حتى رويتُ! وبينما كنتُ أتَمَشّى هائِما على وجهي، إذا بِي أصِل إلى حَيِّ السُّفراء، بالقرب من السفارة البريطانية، إن لَمْ تَخُنّي ذاكرتي، فسمعتُ صوتا حادّا ينادي عليّ: قِفْ، أيُّها الإيرانِي، ولا تُغادرْ مكانك! اِلْتَفَتُّ جِهَةَ الصَّوْتِ، فرأيتُ جُنْديا شابا، أسْمرَ اللون، طويل القامة، نَحيل الْجسم كالشمعة، لايبرز منه إلا رأسه، يُوَجِّه نَحْوي فُوَهَةَ رَشَّاشِه من فوق سيارة عارية: اِرْفَعْ يَدَيْكَ، ولاتلْفظْ بكلمة، وإذا لَمْ تَمْتَثِلْ، لنْ تلومَنَّ إلاّنفسَك! وضعتُ يدي فوق رأسي، وقلتُ له بصوت هادئ: اِفْهَمْ أوّلا..أنا لستُ إيرانيا! سألني متعجّبا: لستَ إيرانيا؟!..ومن تكون، يا تُرى؟! أنا مغربي، عربي مثلك تَماما! وماذا تفعل في الكويت؟!..موظف؟..عامل؟..تاجر؟ سائح، نزيل فندق مريدْيانْ! قطَّب حاجبيه: لاتكذِبْ عليَّ، أيُّها الإيرانِي، أنت تَتَجَوَّل بِخُطى بطيئة في حي السفراء، مِمّا يشي بأنّك تبحث عن شيء ما، والكويت، كما تعلم، لايأتيها السُّيّاح بالْمَرّة! أدخلتُ يدي في جيبي، وأجبته ببرود: إذا لَمْ تُصَدِّقْني، فهاك جوازي، وإشعار تأشيرتِي! ترَجّل من السيارة بِحيطة، وتقدّم مني حَذِرا، فمدَدْتُ له الْجَواز، طَيَّهُ الإشعار..وبعد أن تصفّحَهما، وعيناه تتنقلان بيني وبينهما، ابتسم قائلا: سامِحْنِي، كنتُ أظنك إيرانيا، لأنّ لِحْيتك قصيرة..! اِنْفَرجَتْ شَفتاي عن ابتسامة خفيفة، تنِمُّ عن اطْمِئناني، وقلت له: وفي مصر يظنّوننِي تركيا! وكأنه لَمْ يُصدقني، فعاد ليطلبَ مني: لكي أتيقن، ويطمئن قلبي، غَنِّ لي مقطعا من أغنية مغربية! اِستغربت من طلبه، فقد أصبحت مطربا في كُهولتي، وأنا لاأملك صوتا عذبا. فانطلقت أردد أغنية للموسيقار عبد الوهاب الدُّكَّالي، يعرفها الكبير والصغير في الشرق والغرب: (مرسول الْحُب)! وفيما أنا أغني، وهو يَميلُ برأسه منتشيا بصوتي (الْعذب) ذاتَ اليمين، ذات الشمال، باغتنا صوت من داخل السفارة: يا فوزي!..لقد أزعجتنا بغطيطك؟! أجابه الْجُندي: لا، أنا مستيقظ، وهذا صوت مغنٍّ! أطفئ الْمِذياع، ودَعْنا ننمْ! أخذنِي من يدي إلى السيارة: كفى كفى، أنت مغربي مئة في الْمئة..هيا معي، تشربْ كأسا من الشاي الأحْمَر! ولِمَ لا؟! قال ضاحكا، وهو يناولني الكأس: مرحبا بك، أيُّها الْمَغربي! وسكت قليلا، قبل أنْ يُرْدِفَ مُتسائلا: هل تعرف أن الْمصريين يُعِزّون الْمَغاربة، فيقولون عنهم إنَّهُمْ أحْسنُ النّاسِ إطْلاقا؟! أجَلْ، أخي!..ونَحْنُ نُجِلُّ الْمِصْريين، لأنَّهم أفادوا البشرية بعلمِهم وفنِّهم وأدبِهم وحضارتِهم، وأساتذتي كانوا مصريين، درّسوني اللغة العربية والعلومَ والرياضياتِ في الابتدائي والإعدادي..! حسنا، وهل تعرف ماذا يُردِّد الشباب الْمِصري في أحاديثهم؟! لا، لَمْ أنْتَبِهْ، برغم أنّني زرتُ مصرَ أكثرَ من عشرِ مرّاتٍ؟! اِسْمَعْ ما يقولون: إذا أردتَ حياةً هَنِيَّةً، فتزوّجْ مَغْرِبيةً! وأنت، هل تعرف ماذا يقول الشباب الْمَغربي في أحاديثهم؟! لا، ومن أين لي أن أعرف، وأنا لَمْ أزُر الْمَغرب؟! أصْغِ إلَيَّ، يقولون: إذا أردتَ فولاً وطَعْميةً، فتزوّجْ مصريةً! وهنا عانقني ضاحكا، وطلب مني أن أكتب له عنواني كاملا، ورقم هاتفي، ليزورنِي. وهاأنا أنتظر زيارته برغم مرور تسعة أعوام، والعاشر في الطريق..! ولقد بُنِيتْ هذه الأبراج الثلاثة سنة 1975 في حي (رأس عَجوزة) بِمِنطقة (الشرق) وأكبرها وأعلاها بقطر أرضي يبلغ عشرين مترا، وبعُلُوِّ مائة وسبعة وثَمانين، ويتألف من طبقتين: دائرية عليا متحركة، يسمونَها (كرة كاشفة) تدوركلُّ ثلاثين دقيقةً، وتتوفر على منظار كبير، ومَشْربة، تصلها فِي مصعد يقطع بك مائةً وثلاثة وعشرين مترا في نصف دقيقة. وطبقة دائرية ثابتة، تضم مطعما فاخرا، ومقهى، وغرفة فسيحة، خاصة بالْمُناسبات. والبرج الثاني بقُطر ثَمانية عشر مترا، وعُلُو مائة وسبعة وأربعين، ويستعمل خزّانا للمياه. والصغير باثني عشر مترا في القطر، ومائة وثلاثة عشر في العُلُو.وتترَصّع كراتُ هذه الأبراج بِخَمسة وخَمسين ألفَ صحنٍ، وهذه الصحون مصنوعة من الْحَديد الْملون بثمانية ألوان تتماشى مع ألوان البحر والسماء. وللأبراج أشكال فنية ذات دلالة تراثية، فالأول يدل على (الْمِبْخَرة) والثاني على (الْمِرَشّة) والثالث على (الْمُكْحُلة)..وهي الأدوات التقليدية التي تستعمل في الْحَفلات والْمُناسبات كالأعراس، سواء في الكويت أوفي سائر البلاد العربية. وبرغم أن هناك أبراجا في الدول الأروبية أعلى مِمّا في الكويت، فإن البرج الرئيسي بِها، شدّنِي بتجهيزاته الضخمة، وأنظمته الدقيقة، وموقعه الْهام، بل والدور الذي يؤديه، مالايتوفر عليه، مثلا، برج (برلين) الذي زرته قبل ستة أشهر فقط! يوم عودتِي من الكويت، سلمت أمتعتِي إلى الْمُضيفة وتوجّهت تَوّا إلى قاعة الانتظار، ومن ثَمّةَ إلى داخل الطّائرة، ولَمْ أفكر قَطْعا فِي إجراءات السفر الضرورية، سواء في الذهاب أوفي الإياب! فجأة، سَمِعتُ راكبين مصريين يتحدّثان عَن تلك الإجراءات، وكأنني كنت في سابع نَوْمة، فانتفضتُ من مقعدي وخرجت من الطائرة مُهَرْوِلا. وإذا بِمَسؤول أمْني يوقفني، ويُمْسكني من ذِراعي: تعال، لِماذا تُغادر الطائرة؟! لقد نسيتُ أن أختِم جوازي! وكيف دخلتَ إلى قاعة الانتظار، ومنها إلى الطائرة؟! لَمْ يُكَلِّمني أحدٌ، أويعترضْ طريقي، كما أنني لَمْ أفكر أوأشعر حتى وجدت نفسي داخلهما! إذن، اذهب وعُدْ بسرعة! وبقي متسمِّرا في مكانه، يتعقّبُني بعينيه، إلى أن قَفَلْتُ عائدا إلى الطائرة! إن تلك الواقعة البسيطة، أثبتت لي أنه يُمْكن لأي شخص أن يَخْترقَ الْخُطوطَ الأمنيةَ بسهولة، فيَحْمل مايشاء إلى الطائرة ثُمَّ يعود، لأن الْمَسؤولين عنها، ينشغلون، أحْيانا، بأمور أخرى. ومن تلك الْهَفْوةِ البسيطة تَحْصل بعض الْحَوادث الْمُؤْلِمة، التي تعرفونَها أكثرَ مني. وعلى كُلٍّ، فإن ذلك حدث لي قبل تسع سنوات، فلا ينبغي أن نقيس الْحاضرَ بالْماضي، وإلاّ أوقفْنا عَجَلةَ الْحَياةِ..!