حياة الأديب أو الفنان، حافلة بالذكريات الجديرة بأن تسرد ويطلع عليها العموم، بالنظر لوضعه الاعتباري والرمزي. وفي صلب هذه الذكريات، تبرز الوقائع الطريفة، التي – باعتبار طرافتها- تظل محفورة في الذاكرة وفي الوجدان. ولهذه الغاية، كان لبيان اليوم، اتصال بمجموعة من الأدباء والفنانين؛ لأجل نفض غبار السنين عن جملة من الطرائف التي عايشوها في محطات مختلفة من حياتهم اليومية. لفظة الطريف- حسب القاموس اللغوي- هي مرادف للحديث الجديد المستحسن، وهي كذلك مرادف للغريب والنادر من الثمر ونحوه، وحسب هذه الحلقات أن تكون ثمارا ذات مذاق طيب، في هذا الشهر الفضيل. أنا بحريني قح! اِلتفتَ القنصلُ إلَيَّ، والابتسامة لاتُفارقه: يبدو لي أنك لست كويتيا؟ أجل، سيدي! وحتى لاأطيلَ عليك، أو أكون ضيفا ثقيلَ الظلِّ: الْمَسألة ومافيها أنني عزمتُ على زيارة (بلدي الأول) البحرين، فقال بعض أصدقائي لابد لك من تأشيرة، وأنا بَحْريني قُحّ، فهل يُعْقل هذا؟! تبادل القنصل وصاحبه نظراتِ الذهول، وهنا اخْتَفَتِ الابْتِسامة من الوجهين، وغدا الأمرُ جِدِّيا! قال لي جاحظَ العينين: ناولْني جوازَك من فضلك، لكي نَحْسم هذه الْمُشكلة! وضع نظارته الطبية على قصَبة أنفه، يتفحّص الْجَوازَ صفحةً صفحةً، وبين الفينة والأخرى يسترِقّ النّظر إليّ في دهشة، فيما يداه ترتعشان! بعد حين ثبّت عينيه عليّ، مُتَجَهِّمَ الوجه، وتساءل مستغربا: ولكنك مغربي، أتنكر؟! صدقتَ، وبالْحَقيقة نطقتَ!..ألاتعلم، سيادتك، أن تاريخ ابن خلدون يُحَدثنا عن هجرة قديمة للكثير من البحرينيين إلى الْمَغرب، وليس ببعيد أن يكون جدي واحدا منهم؟ فهل نَنْكُر التاريخ الذي لايُجامل ولايُمالئ؟لِهَذا أريد أن أصِل الرّحِم بالأرض والأجداد، ولو لثلاثة أيام فقط، فَهِيَ كافية! اِنفَرَجَتْ أساريرُ مُحَياهُ، والتفت إلى صاحبه: مالك صامتا هكذا؟! قل شيئا نَحَلّ به هذه الْمُشكلة التاريخية القانونية؟! ماذا أقول لك؟! والله لَمْ تواجهْنِي في حياتِي كلها مثل هذه النازلة! أعاد إلَيَّ الْجَوازَ قائلا: هل تُمارس نشاطا ثقافيا أواجتماعيا؟ أنا كاتب أطفال، أنشر قصصا في مَجلّتي»العربي الصغير»و»براعم الإيمان» الكويتيتين، و «العرفان»التونسية! قال، وكأنّه عثر على حلٍّ جاهز: الآن، فهمتُ! كُتّاب الأطفال خَياليون! وزاد قائلا: اِطْمَئنَّ، ستزور البحرين بدون تأشيرة، ولِمُدّة ثلاثة أيام فقط، كما قلتَ بلسانك، وعليك أن تفيَ بوعدك. ولا تَحْمِلْ هَمّا للإجراءاتِ، أوتسألْني عنها، فأنا سأتولّى أمرَها من البداية إلى النهاية..هل ترى هذا الْحَلّ مناسبا، أيّها (البحريني الأصيل)؟! وأردفها بقهقهة! صافحته قائلا: شكرا جزيلا، سيدي! حقا ماقلتَ؛ كتاب الأطفال خياليون، لكنهم يُحَوِّلون الْخَيالَ إلى واقع! أليس كذلك؟! ولَمّا أردت أن أنصرف، نادتْني الكاتبة، فاسْتَجبتُ لندائها: يَا أُستاذ، لاتقلقْ، أخي نفسه حصل على التأشيرة من بلدي مصر! أجبتها باسِما، وأنا أُرَبِّت على صدري: هذا لاينطبق عليّ بصفتي مواطنا بَحْرينيا! وضعتْ رأسها بين يديها قائلةً: أحدنا مَجْنون؛ إمّا أنا، وإمّا هو! اللَّهُمّ اجعلْ آخرَنا أحسنَ من أوّلنا، ياربَّ العالَمين! ليلةَ ذلك اليوم، هاتفتُ صديقي الشاعر الكويتي: اِسْمَعْنِي جَيدا: سأزور البحرين غدا، وبدون تأشيرة، كأي مواطن بَحريني، فعليك أن تَحْضر باكرا لتحجز لي تذكرتَيِ السفر، كما تراهننا، وإلا سأشكوك لرئيس رابطة الأدباء والكتاب الكويتيين! ماذا تقول؟! ظل صامتا قليلا، كأنه ذاهل من الْخَبر، أو يفكِّر فيما ينبغي أن يقوله، ثمّ جاءني صوته متلعثما: أجبني..بصراحة: هل..هل تصدُق فِي..فِي كلامك..أم تُمازحنِي كعادتك؟! صِحْتُ فيه بلهجة حازمة: نَحن لسنا في شهر أبريل فأمازحَك! ولكي أبَرْهن لك على صحة قولي، فإنني أسحب فوزي في الرهان، لأنه مُغالَبةٌ لاوجهَ لَها. ومرحبا بك في الْمَغرب ضيفا، أنت وصاحباك بلارِهان! بين الكويت والْبَحْرين مسافة قصيرة، بالطائرة طبعا، كالْمسافة بين الدارالبيضاء وأكادير، لاتتعدّى خَمْسا وأربعين دقيقةً. فما تكاد تنتهي من العصير الذي تقدمه لك الْمًضيفة، مع ابتسامتها الْخَفيفة وحركتها الظريفة، حتى تُلْفيَ نفسك في مطارها الصغير! وأنا آخذ دوري في صف الوافدين، لإنْجاز إجراءات الوصول، عقدتِ الْمُفاجأةُ لسانِي، فقد نادى عليّ موظف من بعيد، وعيناه تبتسمان: تعالَ، يابَحرينِي! فالتفتَ إليّ كلُّ البحرينيين الْمُصطفين مستغربين، وكأنّهم يتساءلون: ومن نَحْنُ، إذا كان هذا بَحْرينيا؟! أردف الْمُوظف قائلا، وأنا أقترب منه: أرجوك ألا تُحْرِجَنا فتزِيدَ عن ثلاثة أيام، هل سَمعتَ؟ أجبته مؤيدا: أجل!..وفِي ((الْمُوَطّأ)) لِلإمام مالِكٍ أنَّ الضيافة ثلاثة أيام، وما بعدها صدقة! ربّتَ على كتفي ضاحكا: أوافقك الرأيَ، شَرْطَ أن تقضيَ (الصدقة) في مكتبِي بالْمَطار، أوفي مَخْفر الشرطة!