في سنة 1973 كنت أمتطي قطارا ليليا، متوجها من مرسيليا إلى باريس، وكانت العربة التي توجد فيها مقصورتِي شِبْهَ فارغة، إلاّ من عجوزين وكلبهما الرمادي الصغير. وفيما أنا أقرأ بِنَهَمٍ مسرحيةَ ((الْمُفتش العام)) للكاتب الكبير نيقولايْ كوكولْ، الذي، كما تعرفون، خرجتِ القصة من ((معطفه)) إذْ بشابة في الثالثة والعشرين ربيعاً، ممتلئة الْجِسم، مشرقة الوجه، نابضة بالْحياة، تقتحم عليَّ الْمَقصورة، بغتةً، وبالكاد تَجُر حقيبة ثقيلة، وجبينُها ينِزُّ عرقا. فوضعتُ الكتاب جانبا، بلاشعور ولا طلب منها، وقُمْتُ أحْمل الْحَقيبة، لأضعها على الرّف. فابتسمت ابتسامة وردية، اهْتزّ لَها قلبي، وشكرتنِي: كْراسْياسْ سِنْيورْ..! خلعت قبعتها الزّاهية الوشي، واتَّخذتْ لَها مكانا قُبالَتِي، ثُمّ أخرجتْ، هي الأخرى، مَجلة تتصفحها بيد مرتجفة، تقفز من صفحة إلى صفحة، دون تركيز أواهتمام، وبين الْحين والْحين، كانت عيوننا الْجائعة تلتقي في نظرات خاطفة، أوبتعبير أصحَّ، إن كلاًّ منا كان يسترقُّ النظرَ إلى الآخر، ويتلصّص عليه. بالنسبة إليّ، كان شعرها الْحَريري الْمقصوص في موجات بطول كتفيها يَجذبني، يستحوذ على ذهني، وكذا فستانُها الشّفاف الذي كشف لي بعضا من معالِمِ مُمْتلكاتِها الداخلية. وبعد حوالَيْ خَمسَ عشْرةَ دقيقةً، لَمْ نطْرُق خلالَها حديثا، سوى النظرات الزّائغة، نفِد صبري، فأخذتُ من حقيبتي طُعما، عفوا، أقصد تفاحتين حَمْراوين، ناولتُها واحدة، واحتفظت بالأخرى لنفسي، فسألتني باسِمة، وهي تقضمها: أتُحِبُّ التّفاح؟ أجبتها بثقة: أجل، أحبه كثيرا! صمتتُ برهة، ثُمّ أضفت: لا تنسيْ أنه من أقدم الفواكه، وأن آدم شطر التفاحة بينه وبين حواء! قالتْ ضاحكة: كما فعلتَ أنت تقريبا! وأردفتْ متلعثمة: لكنّ آدم ..جرّ حواء إلى.. الْخطيئة!..أليس كذلك؟ بل هي التي شجّعته عليها!..ولو لَمْ يُخْطئا، لَما نزلا إلى الأرض، ولَما كنا، لا أنا ولا أنت! إذن، أنت لا تؤمن بنظرية التطور! طبعا، نحن أخوان من آدم وحواء، وداروين لَمْ يُعَلِّل نظريته بأدلة قاطعة!..كيف يستسيغ عقلي أن يكون جدي الأول أميبا، وأن يظهر من الْخلية نفسها التي انقسمت لتتوالد عنها الْحَشرات والْحَيوانات والثّدييات والنباتات، وهات يا كائنات؟! ندّتْ عن شفتيها ابتسامة رقيقة، وسألتني: من أين أنت؟ أجبتها باسِما: لِماذا هذا السؤال بالضبط؟! أثارنِي كرمُك وحديثك، والكتاب الذي بين يديك! أنا عربي، لكن هذا الكتاب، وإن كان مطبوعا بالعربية، فهو للأديب الروسي كوكول. أما أنت، فيبدو لي من لَكْنَتِكِ، وعنوان مَجَلتك أنك إسبانية! قالتْ بدلالٍ، وهي تُداعب شعرها: حقا ما قلتَ، أيُّها الشَّاب الوديع!..أنا عاملة في سوق تِجاري! وأنا معلم لغة عربية في الْمَغرب..أعني أنني كنت معلما هناك، والآن، أشتغل مُحَرِّرا ومصحِّحا للأخبار بإذاعة مسيحية! وللمرة الثانية، أخرجتُ من حقيبتي طعما آخرَ مختلفا، عفوا، أقصد قطعة شوكولاتة مربعة، تزينها موجات خضراء داكنة، قسمتها بيننا قسمتين متساويتين، هادفا إلى إطالة الْحِوار، وإبقائه ساخنا: وهذه من أحدث الْحَلويات وألذّها! قالتْ ضاحكة: أنت تَجمعُ بين القَدامة والْحَداثة! وسكتت قليلا، قبل أن تزيد: عُذْرا، أنا ليس لدي ما أُكرمك به! بادلتُها الضحكة مازحا: يكفي أن تنعمي علي بقبلة على خدك الوردي الْجَميل! قلتُها مداعبا، فأمالتْ بِخَدِّها نَحْوي بكل بساطة: ولِمَ لا؟..أنت تستأهل أكثر، ألست أخي من أبينا آدم وأمنا حواء؟! فاجأتني، وما كنت أعني ذلك بتاتا، فطبعتُ خدَّها بقبلة خفيفة: شكرا، أختي، ما أحلى خدَّك!..إنه ألذ من التفاحة والشوكولاطة! أمالتِ الْخَدَّ الثاني بلا خجل، وقالت بسذاجة: هل تريد الْمَزيدَ؟ أجبتها ضاحكا: أخشى أن نتمادى في القبل، فنصل إلى الْمنطقة الْمَحظورة! في ذلك الوقت، باغتنا الْجابِي، فرفعتُ يدي عنها، وناولته تذكرتِي، وهو يَحْدجني بنظرات غاضبة، فيما كان الصليب الذي يتدلّى من عنقه يُعْشي عيني بلمعانه الْحاد. ثُمَّ لَمَّا عَلَّمَ تذكرتَها، خاطبها قائلا: اُتْرُكي البابَ مَفتوحا، لا تُغْلِقيه، فأنا سأعود حالاً! اِنْفَجرنا ضاحكين، وظللنا عبثاً ننتظر عودته، حتى توقف القطار بنا في مَحَطة باريس، فنزلنا معا. وجدْنا ضباباً كثيفاً، وبرداً قارساً، فخلعتُ معطفي الصوفي الذي جلبْته معي من الْمَغرب، ودثَّرْتُها به، فعلقت ذراعَها بذراعي، وقالت لي، وهي تشير بيدها: تعال، ففي تلك الزاوية يوجد مطعم دافئ! دلفنا الْمطعم، ونَحْن نرتعش، وجلسنا إلى طاولة ركنية، يضيئها نور أحْمَر خافت. ولَمْ أُحِسَّ بنفسي إلا وأنا أجول بعيني في أركانه وجنباته الفسيحة! لكزتني برُكبتها اللحيمة من تَحْت الطاولة متعجبةً، فَانتشتْ كل حواسّي: إيهِ، أين سرحتَ؟!..ألَمْ أمْلأْ عينيك، أيُّها الْمَغربي؟! اِلْتفتّ نَحْوها قائلا: لقد سبق لِي في الصيف الْماضي أن تعرفتُ على طالبة، ودخلنا هذا الْمطعم نفسه، وانزوينا في هذا الرُّكن ذاته. ولك أن تستغربي بأنّها كانتْ هي الأخرى إسبانية! ضحكتْ مني: إذن، أنت هاوي الإسبانياتِ! أجبتها حائرا: لا أدري ماذا أقول؟!..هل أنا مسير في حياتي أم مُخَير؟..كيف يقودني قدَري ثانيةً إلى هذا الْمَطعم، وإلى هذا الركن، ومع إسبانية؟..إنه لأَمْرٌ مُحَير أن أعيش حالاتٍ مُتشابِهةً، أوهكذا أتوهَّم على الأقل! قطعت تساؤلاتي حاسِمةً: دَعْك من هذا التفكير الْخُرافي، ولا تُعِرْهُ قيمةً أكبرَ من حَجْمه، فليس كل ذلك إلا صدفة، وعِشِ اللحظةَ التي أنت فيها! ثبّتتُ عينيّ في عينيها قائلا: تقولين إنّها مُجَرّد صدفة!..لكن، كيف تفسرين نفوري من فرنسيات فاتنات، يشتغلن معي في الإذاعة، ومنهن من تدعوني إلى عشاء، أو حفلة رقص وغناء، فأرفض مرافقتها؟!..وكيف تفسرين ميلي الفطري إلى إسبانيات؟!..ألأنَّني مورسْكي أحِنُّ إلى الْجُذور؟! أطلقت ضحكةً عاليةً، أثارتْ كلَّ من كان في الْمطعم، فبادرتُ أضع كفي على فَمِها، ثُمّ رفعتُها لَمّا هدأتْ: أإلى هذه الدرجة أضْحَككِ كلامي؟! سألتُها مُنْدهشا، فأجابتني مَرِحة: إذا كانت فكرتك صائبة، فهذا من حظي الْحَسن، لأنني عثرتُ بالصدفة على رفيق دربي من بلادي! أضافتْ، وهي تدنو مني، حتى كاد أنفها يلامس أنفي: أجبني بصراحة: أين ستقيم الليلةَ؟ بل قولي: والليالي القادمة!..سأبْحَث لي عن فندق رخيصٍ، فأنا لا أملك من النقود إلا النَّزْر الْيسير! ضغطتْ على يدي بِرفقٍ، ونظرت إلَيَّ بعينين متلألئتين، ثُمّ سألتني: لِمَ لا تُقيمُ معي فِي شُقّتِي الصغيرة، فأنا وحيدة في هذا البلد، ليس لِي صديق أو قريب، ولا يزورنِي أحد، وأنت كذلك مثلي، مقطوع من شجرة؟! ما كدتُ أفتح فَمي لأجيبها، حتى أحضر لنا النادل مشروبا، وصحنين من السْباكيتي! جذبتُ إلَيَّ صَحنا قائلا: لنتناول السباكيتي، ونترك الْمشروب إلى شقتك! أردفت ضاحكة: ليس في شقتي أكواب! قلت لَها، والابتسامة تزهر على شفتي: سأضُمّ لَه نَهْديك، ثُمّ أرشُفُه بينهما! أخرجتْ شيئا ملفوفا من حقيبتها اليدوية، وقالت: عندها سأمسح شفتيك بِهذا الْمِنديل الْمطروز بزهرات الكرَز! أشهد أنني وإيّاها، في تلك الليلة الشتائية، عبرنا إلى الْحَياة، ولن أنساها مدى عمري، أعني الليلة، برغم رحيل تلك الصديقة، قبل ثلاث سنوات، فقد ظللنا خَمسةً وثلاثين عاما، نلتقي كل سنة في الشقة نفسها لنختلس الْمُتعة الْخَفية..! كان يروقها أن ألْثم شفتيها، الْمَرة تلو الأخرى بلا توقف، وأعتصرَ نَهديها عصرَ برتقالة مُرتوية، فلمّا لَمْ يعد يروقها ذلك، قالت لي بعينين ذابلتين، وشفتين كسيرتين، وهي تُخَلِّل لِحْيتي الْكَثة البيضاء بأناملها الرقيقة: لا أدري، هل سنلتقي السنة القادمة أم لا؟ طوّقتُ رأسها بيد حانية: آهٍ، يا أختي من أبينا آدم وأمنا حواء!..إنه مصيرنا جَميعا الذي يترصّدنا في آخر الدرب! انفرجت شفتاها عن ابتسامة خفيفة: هل تذكر ليلة لقائنا في القطار؟.. لَمْ أنسَها، وما زالتْ ماثلةً بين عيني لحد الساعة! أجل!..ما زلت أذكرها لحظة لحظة، وكيف ينسى الإنسان تاريخ حياته؟!..الإنسان هو الوحيد الذي يمتلك ذاكرة، يراكم فيها ذكرياته ليبني بها شخصيته! نظرت إلي: أخشى أن يصبح جسدي وليمة للدود! طمأنتها باسما: لاعليك، حبيبتي، فليلتهمك الدود!..وغدا سنلتقي بروحينا في السَّماء، ونحيا معا إلى الأبد! أحقا ما تقول؟! هززت لَها رأسي مؤكدا، فاعْتَرَضَتْ: لَكِنْ، كيف نلتقي، ولكلٍّ منا طريقه!.. أنت مسلم وأنا مسيحية؟! أنسيت أن إلهنا واحد؟!..إذن، قُرّي عينا بأنك سترتقين إلى درجة أسمى، وأنا سألحق بك يوماً ما لنتحد روحا وجسدا! وكذلك كان، فقد كانتْ تعانِي من مرض مزمن أنْهَك جسدها الْغَض، ولذلك أحسّتْ بدُنُوِّ أجَلِها! وهناك على قبرها فِي (بْييرْ لاشيزْ) وضعتُ باقةً من الورد، وأنا أتذكر تانَيْك الشَّفتين، وذانيْك النَّهدين..فوداعا مارْغا رْييرا، وثقي بأنّك مازِلْتِ تسكنين حياتي بِخَريفها وشِتائها! في ذلك اليوم، قبل أن أتوجه إلى الفندق، لآخذ حقيبتِي، فأعود إلى الْمَغرب، عرّجتُ على مطعمنا الْمَعلوم، لأودعَه هو الآخر، أوقل لأدفنه بالْمَرّة، فلَمْ تعد لي حاجة بِه، بعد أن انفَرَط العقد الذي كان يصلنا! ولَكَمْ كانتْ دهشتي عظيمة، عندما دخلته، فوجدتُها هناك، في الركن نفسه، والطاولة ذاتِها، تنتظرنِي!..فما أن أرسلتُ عينيّ نَحْوَها، حتى انفرجت شفتاها عن ابتسامة عريضة، وأومأتْ بأصبعها أن أستفيق من ذهولي، وأتقدّمَ مِنْها! جلستُ أمامَها، أتأمّل تضاريسَها الْجَميلة غيرَ مُصَدِّق، وهي تبتسم، وتنبس بِحنان: مالك؟!..ألَمْ ترَ امرأةً ناضجة في حياتك، أيُّها الكهل الوديع؟! وضع النادل مشروبا وصحنين من السباكيتي، فجذبتُ إليّ صحنا، قائلا: لنتناول السباكيتي، ونتركِ الْمشروب إلى شقتك! قالتْ ضاحكةً: الأفضل لَنا أن نَحْتسِيَه في هذا الْجَو الْحَميمي؟! ضربتُ كَفاّ بكفٍّ، فما هذا جوابُها الذي تعوَّدتُ أن أسْمعه منها!..وتذكّرت شيئا سها عن ذهني: ألستِ توأمَةَ مارْغا؟!..لقد حدثتني عنك كثيراً! هَزَّتْ رأسَها مُوافقةً، وقالت بصوت حاد، فيما عيناها تتقدان غضبا: وماذا بعد؟!..هل ستتوقف الْحياة بِموتِها؟!..عليك أن تنساها، أن تغسل ذاكرتك منها، أن تُجَدد علاقاتك الإنسانية، لا أن تبكيَ الأنقاض والأطلال! نَهضت واقفا، أدفع الْحِسابَ للنادل، وانصرفتُ إلى الفندق، ومن ثَمّ إلى مطار شارل ديكول..وكانت الْمَرة الأخيرة التي أزور فيها فرنسا، ولن أزورها بالْمَرة!