لعلَّ البعضَ لايُدْركُ ما (لِلِّحْية) الْكَثَّة من مكانةٍ في الأدب العالَمي، فهي كَ (صخرة سيزيف) يتّخذها الأدباء رَمْزا لِقَضاياهُمُ الفكرية، ويُوَظّفونَها للسُّخرية من أوضاعِهِم الْمُهْتَرِئة..! وأذكر مثالا على ذلك، ماقرأتُه لأدباء ألْمانٍ في عهد أدولْفْ هِتْليرْ، لَمْ يَجِدوا خيرا من (اللِّحْية) تصويرا وتعبيرا عن مُضايقات سُلْطته لَهُمْ في حرية التّفكير وإبداء الرّأي، حتّى أنّ الشرطة (الْمُختصّة في اللِّحى) كانت تُلْقي القَبْضَ على كل مَنْ يُرْسِل لِحيتَه في العيد الوطني، لأنّها تُشَكِّل دليلا قويا على معارضة الْمُلْتَحي وكرهه وبغضه لِحُكم هِتْليرْ! لكن قصة الْمُعْتَقَل لاتَكْتَمل بِخُروجه من السِّجْن، فقد يتهيّأ لاستقبال أقربائه وأصدقائه بالْمَظْهر اللاَّئق، فيَحْلِق لِحْيته، ويُعَطِّر وجْهَه، ويَمْشَط شعْرَه، ويُقَلِّم أظافِرَه، ويُمَنّي نفسَه بِجَلْسة مُريحة مع عشيقته (ولِيَفْهَمِ الْفاهِمُ)!..وقبل أن ينصرف، تعود به الشرطة إلى السجن ثانيةً، لأن ذلك اليومَ يُصادف ألْمانْيا في حِداد عامٍّ على ضحايا زلزال، أو وفاة شخصية مَرْموقة، أو إحياء ذكرى أليمة، وصاحبنا في السماء السابعة، يكاد يطير فَرَحا! وكاتبُ هذه السطور نفسُه، كتب قصة (الْخَلْفية) ونشرها في مَجَلة ((الآداب)) البيروتية، العدد الأول والثاني 1998 ثُمّ عَنْوَنَ بِها مَجْموعتَه القصصيةَ التي أصدرها سنةَ 2006. وهي قصة حقيقية لرجل أُمِّي ذي لِحْية طويلة، صَنَّفه الْمُخْبرون في السبعينيات (ماركسيا) وفي التسعينيات (سَلَفيا) وفي الْحالتين معا، أمْسكوا به، وحَقّقوا معه في فندق خَمسة نُجوم (طبعا، وأين سيُكرِّمونه)؟!!..وتنتهي القصة باعتقاله بِتُهْمة (هَتْك عِرْض ساقية (بارْميتْ) عِلْما بأنّه لَمْ يَسمعْ من قَبلُ لابالْماركسية ولابالسَّلفية، ولايعرف إلا(هَزْ ياوَزْ)!!..وللتذكير، فإن الرائد الْمَسْرحي نَجيب الرّيْحاني، ترجم لكاتب فرنسي مسرحية موسومة ب((اللحية البيضاء)) أطلق عليها اسْمَ((الْعِشْرة الطيبة)) ترصد بالْهَزْل والتَّهَكُّم علاقةَ شخصيةٍ بلحيته! أعود إلى لِحْيَتي الْمِسْكينة، وماجرى لي بِسببها، فأُشير بَدْءا إلى أن هذه اللِّحْية لاعلاقة لَها بالْمُعارضة أوالْمُوالاة، ولَمْ أتَّخِذْها صَديقةً في حَلِّي وتَرْحالي، لِكَوْني اقتنعتُ بفكرٍ ما، أومَذْهبٍ مَقصودٍ. لا لا، كل ما في الأمر أن أُمِّي، أطال الله عمرَها، قالت لي في بداية حياتي العملية (الآن تقاعدتُ): أنصحك، يابُنَيَّ، بأن تُرْسِل لِحْيتَك، ولاتَحْلِقْها يوماً ما، كي يَهابَك تلاميذُك، ويُقَدِّروكَ ويُصْغوا إليك، كما تزيدك هِمَّةً وقيمة وشَأنا. ولاتنسَ أنّك مازلتَ صغيرَ السِّنِّ، في عُمْر الزُّهور، نَحيلَ الْجِسْم، طَرِيَّ العود، قد يظنُّك الْمُفَتِّش، إذا زارك، صَبِيا، أو يستميل قدُّك أحداً ف(يطمع) فيك..!! فعْلا، عَمِلْتُ بِنَصيحة أُمّي، طاعةً لَها، فتركتُ لِحْيَتي تطول وتطول، حتى غطّتْ وجْهي كاملا. ومازلتُ لِحَدِّ الآن مُحتَفظا بِها، لا أستطيع فِراقها لَحْظةً، إرْضاءً لوالدتي، ورُبّما كيلا تطيرَ (هِمَّتي وقيمتي) أمّا أن يستميل قدِّي أحداً، الآنَ الآنَ، فسيكون هذا من عَجائب الدنيا السّبْع!! ولِيَسمَحْ لي الأديب مُحَمّد برّادة أن أقول إنَّنِي ((ذاتَ صيف لن يتكرّر)) حَلَقْت لِحْيتي الشَّعْثاءَ، لأغذِّيَ بَشَرَتِي بفيتامين (دِ) الذي تَجود به علينا أشعّة الشّمس السَّخية، ولَمّا أردتُ دخولَ بيتي، اعترضتْ بنتي، مُدَعِّمةً البابَ برِجْلها: أنتَ لستَ أبي، والأحْسَنُ لك، أيُّها الرّجل الغريب، أن تذهب من هنا، وإلاّ ناديتُ على الشرطة في الْحين! فتدخّلتْ أُمُّها لتحلَّ الْمُشْكلة بطريقتها التربوية الْخاصّة، وأفهمتْها أنّها هي من طلبتْ منّي إزالةَ اللِّحية لتُنَظِّفَها من الوسخ والغبار العالقين بِها، ثُمَّ تُعيدها إلى وجهي بعد أيام قليلة..وهذا ماحصل بالفعل! ماعلينا!..في سنة 1988 وجّه لي اتِّحاد كُتّاب الْمَغرب دَعْوَةً للمشاركة في ندوة بتونس، نَظَّمتْها ((الْمُنظمة القومية للطّفولة)) حول (ثقافة الطفل العربي) ويبدو أن الْحَظَّ ابْتَسَم لي مَرَّةً واحدة في حياتي مع اتِّحاد الكُتّاب، إذ كانت هذه الدّعوة منه، هي الأولى والأخيرة!..وبِما أن تذكرة السفر للدرجة الأولى، وتَمْتَدّ صلاحيتُها سنةً كاملةً، تَبَرَّعتْ بِها وزارة الثقافة الْمَغربية (حصل هذا فِي عهد الوزير الكُفْءِ، الأستاذ مُحمّد بنعيسى. أما اليومَ، فهَيْهاتَ أن تَجْنِيَ من الشوكِ الْعِنبَ!!) قَدَّمْتُ السفرَ أسبوعا، وماكان لي أن أفعل! فحينما نزلتُ من الطائرة، واتَّخَذْتُ دَوْري في الصّفِّ، لأَخْتِم جوازَ سفري، وقَعَتْ عينايَ صُدْفةً على رجل طويل القامة، حادِّ البصر كالقنّاص، يتفرّسنِي من قُنَّةِ رأسي إلى أخْمَص قدمي، ويُرْسل نَحْوي نظراتٍ فولاذِية، كأننِي تشَبّهتُ له ب (كارْلوسْ)..ويَمْسِك هاتِفا كبيرَ الْحَجْم، أسودَ اللونِ (في ذلك الوقت، لَمْ يكُنِ الْهاتف الْمَحْمول شائعا) فوَلَّيتُ وجْهي عنه بُرْهةً، ثُمَّ أدَرْتُهُ جِهَتَه ثانيةً، فوجدته مازال يُوجِّه نظَراتِهِ (النَّفّاثة بالْعُقَدِ) نَحْوي! توجَّسْتُ منه خيفةً، فركبني ألفُ عفريت وعفريت! أسْرَرْتُ في نفسي مُبتهِلا: مولايَ، يامولايَ، يا من يُغَذيني بالنِّعم صباحا ومساءً، ارْحَمْني في هذه اللَّحْظة الْحَرِجة! تَشبّهَ لي صاحبُنا بشَخْص آخرَ، التقيتُ به في مَحطة القطار بِمَرْسيلْيا، عام 1969 كان جَميلَ الطّلعة، أشْقرَ الشعر، يَتَمايل يَمينا وشِمالا، ويَخْتال في مِشْيته كالطّاووس، ويغمِز ويَلْمِز، ويَجول بلسانه بين شفتيه. ولَمْ أفهمْ غرضَه من تلك الْحَركات الْمُريبة، لأنّني كنت قليلَ التجربة (ومازلتُ) إلى أن أخبرنِي مسافر عراقي، بِما لَمْ يَخْطُرْ ببالي يوما، فجذبته من كُمِّه قائلا: هيا بنا، فأنا لستُ نُواسِياًّ، ولن أكونَهُ! أمّا صديقنا هذا، فيظهر، والله أعلم وأحكم، أنه من جِنْس آخر! بعد حين، أشار بأُصْبُعِه إلَى شرطي أنْ يأتِيَهُ حالاً، فطار إليه بِخِفّة رجليه، وأصاخ بسَمْعِه لِما يهْمِسُ به في أذنه، فأبْدى موافقتَه التّامّة، ثُمّ جاءني: يا سُنِّي، عندما تُكْمِل الإجراءات، الْتَحِقْ بالسيد الضّابط الذي هناك، ليَطَّلِعَ على جوازك! أجبته في دهشة: ولكنْ أنا لستُ سُنِّيا ولا شيعيا! ولِمَ تُطيل اللِّحية؟! ألايوجد عندك تفسيرآخرُ لَها، سوى أن تشِيَ بسُنِّيَّتي؟!..وكيف تصنِّف الرئيس الكوبي فديل كاسْترو؟!..سُنِّيا أم شيعيا؟! نظر إليَّ باهتا، وانصرف، وهو يهز كتفيه، كأنه يقول لي أنا أؤَدّي عَمَلي فقط، ولا أفهم في هذه الأمور! اِلْتَفتُّ يَمينا ويسارا، أتأمَّل وُجوهَ الناس، فَلَمْ أرَ لِحْيةً، ولانِصفَها أوثُلُثَها، أوحتى ذَقَنا مُشَعَّرا. ففهِمتُ أن الضّابط لَمْ يَخْتَرْني من بين الْحُشود إلاّ للحيتي الطويلة! تساءلت في نفسي: أيْنَكِ، يا أُمّي؟!..ألَمْ تتصَوّري هذه اللحظة، عندما طلبتِ مني إطالة اللحية؟! وهنا، بدأت أفكر في طريقة تُخَلِّصني منه، وتَجعل ليلتِي الأولى تَمُرّ بِخَير وسلام، غير أن دوري الذي حَلَّ فَجْأةً، قطع حبلَ تفكيري! أتْمَمتُ الإجراءاتِ بسرعة، وتوَجّهْتُ إلى السيد الضّابط الْمُحترم بِخُطى مضطربة، وذِهْنٍ مُشَوَّش، ويدي على قلبي أتَحَسّس خَفقانه. ودون تفكير أو شعور، سلّمت أمري لله، ومَدَدْتُ له الْجَواز، وأنا أتقدّم منه قائلا بِلَكْنةٍ (دوكوليّة) فَخْمة: بونْسْوارْ مُسْيو، سافا؟! فأشار بأن أحتفِظ بِجوازي، وردّ عليّ بوجه مُتَوَرِّد: بْيَانْ فوني مُسْيو، سافا بْيانْ..! وانْصَرفتُ ((مُنْتَصِبَ الْقامة، مَرْفوعَ الْهامَة)) وأنا أُدْخِلُ الْجَوازَ في جيبي: مِرْسي بوكو! خرجتُ من الْمَطار سالِما، والْحَمْد لله، الذي لايُحْمَد على مَكروهٍ سِواه، وإن كان ما خَفِيَ أعظم، فَما زالتْ مشاكل اللحية تتَعَقَّبُني أيْنَما سِرْتُ، مثلَ (حذاء الطُّنْبوري). فقد ركبت سيّارةَ أُجْرة، وطلبتُ من سائقِها أن يأخذَني إلى فندق (غيرِ مُصَنّفٍ) على قدْر جيبي!..وما أنْ توقّف أمام أحد الفنادق، حتى رمَقَني صاحبه، فأوْمَأ بيديه ألاّ غُرفة واحدة فارغة بالْمَرّة، رغم أنه لاتوجد أيةُ حركة فيه. ثُمّ سار بي إلى فندق آخرَ غيرِ بعيد، فانطلق صاحبه، هو أيضا، يُحَرِّك يديه في الْهَواء، ويصيح بأعلى صوته الْمَبحوح: اِسْتَمِرَّ في سيرك، فربّما تَجد غرفةً فارغة في فندق (الْجَزيرة)! وللتّذكير، فإن الكثير من الْمَغاربة يفضّلون هذا الفندق أكثرَ من سِواهُ!..هل لِرُخْصه؟..أمْ لقُرْبه من كل الْمَرافِق؟..أمْ لِشَعبيّته؟..أم لكونه ملتقى الْمُهاجرين إلى إيطاليا، الذين خذلَهمُ الزمان؟..لا أدْري! ضَحِك منِّي السّائق، وهو يُثَبِّت وردةً في أذنه، لأن (الفصلَ كان ربيعا، والْجَوَّ بديعا) كما تعلّمتُ من كتاب ((الإنشاء الصّحيح)) لأحْمَد مُخْتار عضاضة: يبدو لي أنك لن تَلْقى في هذه الليلة فندقا يأويك! سألته متعجِّبا، وأنا أُمَسِّد لِحْيتي: وماذا ترى؟!..هل يُمْكِنُني أن أجِدَ طائرة تعود بي إلى الْمَغرب الذي يتحمّل لِحْيتي؟! في رأيي أن نبحث عن حلاّق، فهذا أسهلُ طريق للوصول إلى أي فندق، وإلاّ بِتَّ على الأرصفة، مُتَوَسِّدا حقيبتَك! وصمت قليلا، قبل أن يُرْدِف: ثُمّ ما لك، يَأَخي، وهذه اللحيةَ الْكَثَّةَ التي تَجُرُّ عليك تُهَما، أنت في غِنًى عنها؟!..أزِلْها تَسْتَرِحْ! لَمْ أُرِدْ أن أُناقشَهُ، ووافقته دون تردُّد: نِعْمَ الرّأي، إذَنْ، لنقْصِدْ حلاقا! وأين نَجِد حلاّقا، والساعة تُشير إلى الواحدة صباحا؟!..بل مَنْ يُفكِّر في حَلْق لِحْيته أو رأسه في هذه الساعة؟!..اللَّهُمَّ إذا كان من الذين يُصيبُهُم (حِمارُ الليل) وقانا الله جَميعا منه!..الْخُلاصة أنه طاف بي كلَّ الأزقة والدّروب، عَلَّ وعسى أن يَظْفَر بِحلاق، فَلَمْ يَلْقَ في طريقه إلاّ القططَ والكلابَ الضّالّة! في تلك اللّحْظة، أشْرَقتْ في ذهني فكرة: لِماذا لا أستعمل (اللَّكْنة الدّوكوليّة) التي أبانَتْ عن فائدتِها في الْمَطار؟! أخرجتُ قُبّعةً شَمْسيةً من حقيبتي، ووضعتها على رأسي مائلةً إلى الأمام، كادت تَحْجُب الرؤيةَ عن عَيْنيَّ، وأوْصَيْت السائق قائلا: من فضلك أوْصِلْني إلى أقربِ فندق، ثُمّ انْزِلْ بسرعة، وافتحْ لي البابَ بكل أدب واحترام، ولا تُكَلِّمْنِي بغير الفرنسية! وكأنّه فَهِم قصدي، فأجابني باسِما: إذا لَمْ تنجحْ هذه الْمُحاولة، فسآخذك إلى مَخْفَر الشرطة، فهو أضْمَن لك، وبالْمَجّان! سألته باسِما: وهل ترك زين العابدين مَخفرا فارغا؟ أجابَني مرتبكا: اُسْكتْ قليلا، وإلا أمضينا ليلتنا معا بين حيطانه! وأوقف سيارته بباب فندق (القدس) في ساحة السوق الْمَرْكزي بشارع الْجَزيرة، ثُمّ تَرَجّل بِخِفّة ليفتحَ لي البابَ: مِرْسي بوكو! وبِمُجَرد ما سَمِع البواب صوتي، قفز من مكانه باشّا، وتوجّه نَحوَ صُندوق السيارة، ليحمل حقيبتي، قائلا للسائق: الله يُكْثِر من أمثالك، ياعبد الْهادي، وغداً إن شاء الله، إذا بَقينا أحْياء فوق الأرض، لا تنسَ أن تَمُرَّ بي، أُعْطِكَ عُمولتَك الْمُسْتَحَقة! غمزتُ السائق بألاّ يردَّ عليه،كيلا يشعر بشيء يغير رأيه في مبيتي، ثُمّ نقدْتُه عشرين دينارا، بَدَل خَمْسَةَ عَشَرَ، مُكافَأةً له. ودخلت الفندق لأُعَبِّئ بطاقةَ الإقامة بلغة موليير، وبِخَطِّ الأطبّاء (الواضح جدّا جدّا) مِمّا غَمُضَ على البَوّاب قراءتُه، فلَمْ يشكَّ في شخْصي!..ولكي أضْمَن الْمَبيتَ في الفندق طيلةَ الأسبوع، أدَّيتُ له الْمَبلغ مُقَدّما، فضْلاً عن إكرامِيَّة (سَمينة) تُعْميه عن النَّبْش والْهَبْش في هُويتي! دلفتُ إلى الغرفة بِهُدوء، وأغلقتُ بابَها عليَّ، حامدا اللهَ على سلامتي، ثُمّ وضعتُ حقيبتي جانبا، وجلستُ على حافّة السرير، أتَخفّف من ثقلي، والنّعاس يغالبُني، وأنا أقول في نفسي: هذه صخرة (سيزيف) أزَحْتها من طريقي، ولو لَمْ أفعلْ لَفَرَشْتُ الغَبراء، وتَلَحّفتُ السماء، كما يقول الشعراء! ولَمْ تَمُرّ غيرُ لَحظاتٍ، وإذا بِي أسْمَع طرْقا خفيفا، فارتَعَبْتُ وفزعت، وقُمْتُ واقفا، أسير بِحَذر وحيطةٍ نَحْوَ الباب، متسائلا ما إذا كان الطارق في هذه الساعة من الليل، سيبَشِّرنِي بِخَبر سيِّء: من الطارق الدّاعي؟! جاءني صوت خفيض من فُرْجة الباب: أنا أنا، افتح! من أنتَ، يَا أنا؟! ألا تعرفنِي؟!..أنا السائق الذي أوْصَلك...! قاطعته في دهشة: كيف تأتينِي، وأنا أغِطُّ في سابع نوْمة؟! أحضرتُ لك (...) زوجتي! سألته مندهشا: ماذا تقول، ياعبدَ الْهادي؟!..إذا فعلتَها حَقّا، فستكون أكرمَ من حاتِم الطّائي! ردّ بصبر نافدٍ: يا سيدي، افتح حالا، وخذها منّي!..أريد أن أعود إلى بيتِي لأنام! فتحتُ البابَ بلهفة، وتركته مُواربا، فمدّ لي خبزةً: خُذها، لا تَتردّدْ!..قالتْ لي زوجتي: أوْصِلْ للمَغربي هذه (....) التي سَوّيْتُها بيدي، والله لن يبيتَ جائعاً! لَمْ أستطع أن أمنع نفسي من الضحك، وأنا آخذ منه الْخُبزة: شكرا، يا عبدَ الْهادي، والله كنتُ أظُنُّها لَحْما وشَحْما!..لكن، ماذا عساني أن أقول؟!..هذا نصيبي في هذه الليلة النَّحْس، وكفى! (للتوضيح، فإن اسْمَ الْخُبْزة باللهجة العامية التونسية، وهو في الوقت نفسه، اسْم صندوق السيارة بالدارجة السورية، يدل على فرْج الْمرأة في اللهجة الْمغربية، ومن هنا أتى سوء الفهم)! ماعلينا!..أقفلتُ الباب، وأطفأت النور، ثُمّ ألقيت بِجِسمي على السرير ببَدْلتي وحذائي، وغطستُ في نومي بسرعة، كأنه كان ينتظرني! ولوَهْلة، سَمِعتُ صوتا آتيا من الباب، لَمْ أتبيّنه، فظننتُ نفسي سابِحا في حلم، أو أنّ حُمّى أصابَتني، فأخذتُ أَهْذي. لكنّني تيقنتُ كلَّ اليقين أنّني لا أحلم ولا أهْذي، وأن الصوت حقيقي لأنثى! نَهَضتُ متثاقلا أفتح الباب، فوجدت أمامي فتاةً حقيقية من لَحْم وعظم فِي الثلاثين من الْعُمر، متوسطةَ الْجَمال، ترتدي فُستانا شَفّافا، يُصَرِّح بكل مُمْتلكاتِها الْخارجية والداخلية! حرّكتُ رأسي يُمْنةً ويُسْرةً، أتأكّد مِمّا أرى: هل أنا في حلم أم في يقظة؟! حيّتني بدَلالٍ: مساء الْخَير! أجبتها، وأنا أخفي امتعاضي: تقصدين: صباح الْخَير، يَآنسة؟! اِحْمرّتْ وجنتاها، فقالتْ مُضطربةً: عُذْرا، إنْ أيقظتك من النوم!..قبل قليل، أصغيتُ إلى حديثك مع السائق، فأَعلمَني إحساسي أنك مغربي مثلي! شرعْتُ لَها الباب كلَّه: اُدْخلي، لاتظلي واقفةً بالعتبة! دخلت وقصدتْ أريكةً، فيما جلست أنا قُبالتَها على حافّة السرير: ماذا تفعلين في تونس؟! لاشيء، أنتظر دوري لأهاجر إلى إيطاليا!..لِهَذا جئتك، طالبةً منك أن تقرِضني قَدْرا من الْمال، ريْثَما أعمل، أو أعوضه لك...! ولكن، كيف تعرضين عليَّ التعويضَ، وأنت ترَيْنني ملتحيا؟! ضحِكتْ قائلة: ألَمْ تقلْ للسائق: كنتُ أظُنُّها لَحْما وشَحْما؟!..إذن، هاهي ناضجة بين يديك، كما كنت تتمنّى! اِبتسمتُ موافقا: حقاّ ما قلتِ!..لكنّها مُجَرّد مُزْحة فقط، إذ لَمْ أتَخَيّل أن يُحْضر لي شخصٌ ما زوجتَه! أخرجتُ من حقيبتي مِئَتَيْ درهم، ودسستها في يدها، وأنا أهْمس في أذنِها: خذي هذا الْمَبلغ الْمالي الضّئيل، هديةً لك من أخيك في الوطن، ولاتعتبريه قرْضا، أومقابلَ خدمة ما، فأنا لا أطمع إلافي نومة طويلة هادئة! لَمْ تَنْبِسْ ببِنْتِ شَفَة، وقامتْ لتنصرف غيرَ مصدِّقة! هكذا قضيت الأسبوعَ كلَّه بِهذا الفندق، دون أن يشعر البواب بِحَقيقتي، إذ كنتُ أتَجَنّب لقاءَه والكلامَ معه، ولا مع الْمُنَظِّفة، حتى حلّ اليوم السابع، الذي سأتركه إلى فندق آخر مُصَنّفٍ على نفقة الْمُنظمة، فودّعته بالعربية الفصيحة، وبااللَّكنة (السّاداتية) هذه الْمَرّةَ، وأنا أعيد إليه مفتاحَ الغرفة: شكرا جزيلا، سيدي، على ضيافتك، ومعاملتك اللطيفة!..جازاك الله خيرا، وبارك في ذُرِّيَّتك! فردَّ في دهشة: لقد تعلّمتَ العربية بسرعة!..أتَمَنّى أن تزورَنا دائِما، مُسْيو بَنْكَلونْ! أجبته بابتسامة خفيفة: بطبيعة الْحال، سأزوركم من حين لآخر، لأُتْمِمَ دراستِي للغة العربية في جامعة الزَّيْتونة! وفَجْأة، خطرتْ ببالي فكرة، فأخرجتُ من جيبي بعضَ الدّنانير، ما يُعادل مِئَتَيْ درهم أخرى، وقدّمْتها له: هذه أجرةُ غرفة الفتاة الْمَغربية فتيحة لِمُدة خمسة أيام! ومنذ تلك الرحلة، وأنا لا أُقيم إلا في ذلك الفندق، اعترافا بِجَميل صاحبه، ولطافته وظرافته، والذي لولاه لقضيتُ ليلتي بين أحضان القطط والكلاب الضّالة، أوفي مَخْفَر الشرطة (الْهادئ الْجَميل)! غير أن قصتي مع اللحية، لَمْ تَنْتهِ بتَركي هذا الفندقَ، فقد حدثت لي بسببها مواجَهات عنيفة، كادت في إحداها أن تتهَشّم جُمْجُمَتي، لولا لُطْفٌ من الله تعالى نزل بغتةً! ففي إحدى الأماسي، بينما كنت أتَجَوّل في الْمَدينة العتيقة، فاجأني رجل كَهْل، قادما من (الاتِّجاه الْمُعاكس) وهو يتوكّأ عُكّازا مَعْقوفا، والطريق خالية من الْمارِّين. ولَمْ أشعرْ به إلا وهو يضُمّني إليه ضَمّا قويا، كاد يُكَسِّر ضُلوعي، ويَحْبِس أنفاسي. ثُمّ أخذ يُرَبِّتُ على ظهري مرّاتٍ، بكِلتا يديه، كأنّه يعرفني جيدا، وقلبي يرتَجِف يرتَجف. ثُمَّ نظر في عيني عَميقا: اِسْمَحْ لي أن أقول لك إنّك بطل شجاع! قال لي بِحَماسة ووجه بَشوش، فأجبته مستغربا: كيف تصفني بالبطولة والشّجاعة، وأنا لاأستطيع حتى قتلَ فأر صغير، أو أدوسَ نَمْلةً ضعيفةً؟! أشار إلى لِحْيتِي، ثُمَّ مَدّ أصابعه، فجذَب شُعَيراتٍ منها جذبا قويا، حتَى كاد ينتفها، فأحسست بفكَّيْ أسناني يُطَقْطِقان: اُسْكُتْ، يا رجل، لولَمْ تكنْ بطلا شجاعا لَمَا أرسلتَ لِحْيتك! سألته باهِتا: ومَنْ منعك من أن تكون، أنت أيضا، مُلتَحِيا مثلي؟! لقد حاولتُ مرارا أن (أربِّيَها) فأعود لِحَلْقها، لأن الشُّرْطَة تتعقبني، وأصدقائي يَهْجُرونني، والْمُصلين يَنْأوْنَ عنّي، ولا يردون سلامي..! توقّف عن الكلام، وابتعد قليلا، يَحْدِجنِي بنظراتٍ غريبة، وأنا أتتبع حركاتِهِ غيرَ العادية. وفي الأخير سألني: ألا قلْ لي: لَهْجَتُك مُخْتلفة، من أين أنت؟! من الْمَغرب الأقصى، لكنْ...! ويا ليتني ماقلتُ (لكنْ)!..قاتل الله هذا الْحَرفَ الذي يُكَدِّر البالَ والْحالَ، فقد كاد يُشْعِل حربَ (داحِس والغَبْراء) لو لَمْ أضْبطْ نفسي، وأتَمالك أعصابي: لكن، ماذا؟..أكْمِلْ جُملتَك، لِماذا تركتها ناقصةً بين حلقك ولسانك؟! نطقتُ متلعثِما: هذه اللحية، يا سيدي، هي مُجَرّد صَرْعة، أوعُدَّها تَقْليعَةً، أُزَيِّن بِها مَظهري، كي أُضْفيَ مَهابَةً على شخصي، ولا علاقة لَها بالرّوس، ولابالأفغان..! في الْحين، أشْهر عُكّازَه في وجْهي قائلا: اُغْرُبْ من أمامي، أيُّها الزِّنديق الفاجر، وأنا الذي كنت أظنك بطلا شجاعا، وأنت (لا في الْعير ولافي النَّفير)..! ثُمّ علا بالعُكّاز إلى فوقُ، لِيَهويَ بِه على قُنّةِ رأسي، فراوغتُه، وما أنا بلاعب كرة أوكُنْتُهُ، وأطلقتُ رجلي للريح أُسابقها، من هذا الدرب إلى آخر، ومن هذا الزُّقاق إلى ذاك، حتّى وصلتُ شارعَ الْحَبيب بورْقيبة، بعد أن بلغتْ روحي حُلْقومي، فجلست الْقُرْفُصاءَ، آخُذ نفَسي، تَحت قَدَمَيْ تِمْثال العلامة عبد الرّحْمان بن خلدون، وأنا أنظر إليه، الْمَرّة تلو الأخرى، عَلّه يُشُدّ عضُدي في هذه الْمِحَن. أليس عالِمَ اجْتِماع، يُؤْخَذ برأيه في الشرق والغرب؟! قلت في نفسي: مالي وهذا البلدَ الذي لا يستطيع الْمُواطن فيه أن يرسل لِحْيته؟! وعند عودتِي، تشاء الصدفة الْحَسنة أوالسيئة، أن تقع عيناي في بَهْو الْمَطار على الضابط الْمَعْلوم، وكأنه جاء ليودعَني، جزاه الله خيرا، فأنْجزتُ كافةَ إجراءات الإياب، ثُمّ تقدّمت منه بوجه طلْق، تَحَسُّبا من أن يصدر منه أيُّ ردٍّ لا تُحْمَد عُقْباه، وفي الْحَقيقة كان عليَّ أن أتَجَنّبه، لكنني لَمْ أفعل! سلّمتُ عليه، وحيّيته بِتَحِيَّة (إخْوانية) وأنا أمَسِّد لِحْيتي: اَلسّلام عليكم! تفرّسني جيدا، حتى كادت عيناه تسقطان من مَحْجِرَيْهِما: أهذا أنتَ؟! هززْتُ رأسي مُجيبا: أجل، سأعود إلى بلادي! أتعلّمتَ العربيةَ في هذه الْمُدة القصيرة؟! قلت له باسِما: نُطْقا وكِتابةً..! عبس وتولّى قائلا: اِسْمَعْ، ياهذا!..يبدو لي أنّك أصبحتَ منهم!.. والله لوعدتَ ثانية، لَحَلقتُها لك، وتركتُك أمْرَدَ! ولاذ بالصّمت، لَمّا رأى الْمُسافرين يتحلّقون حولنا، ويتسقّطون كلامنا! وكانتْ زوجتي الْحَكيمة تقول لي: الناس في الْمَشرق يُنَقِّبون عن النفط لِيمْلأوا جيوبَهم وحسابَهم، وأنت في الْمَغرب، تَبْحث عن الْمَشاكل لتجْنِيَ لَوْمَهم وعِتابَهم! ولِهَذا قلتُ: كان علي أن أتَجنّبَه..ولَمْ أفعلْ!