كَمْ أنا سعيدٌ في أن أتَحَرّر من ذاتي قليلا، فأُلْغي ضميرَ الْمُتَكلم، وأعَوِّضه بضمير الغائب، فبالثاني أستطيع أن أقول كلَّ شيء، وأحَمِّله ما لا ينبغي أن يقال! إن أول ما أثار فُضولَ الطفل، وهو في عُمْر الزّهور، أَوْ لِنَقُلْ بتعبير أَصَحَّ، كيلا نبالغَ، عندما بدَأَ يُحسّ بالْمَسؤولية، وعليه أنْ يَخُطّ لنفسه طريقا كسائر عِباد الله فوق هذه الأرض، هو وِلادَتُهُ في )درب الْحَمّام( بِحَيِّ )رَحْبةِ الزَّبيب( الْمُحاذي لِمَسْجد)الرّصيف( وأُطْلِق عليه هذا الاسْمُ، لأنّ له بابا يؤدّي إلى )سوق الرّصيف( الذي يعرض كلَّ ما طاب من الْخُضر، وما حلا من الفواكه، وما نضِج من لَحْم الْبَرِّ والْجَو والبحر، وسواء النيِّء منه أوالْمُقَدَّد والْمُصَبّر. فكان هذا الطفلُ يَحْمل سلّةً أو قُفّة، ويقتفي أثَرَ أبيه، ليتعلّم الْمَبادئَ الأولى في الْحَياة، ألا وهي البيع والشراء، والْمُساوَمة والانتقاء، وما تفرضه مسؤولية البيت، والْحَياة الدنيا!..أمّا (دربُ الْحَمّام )فإنّه كان، بالنسبة له ولأصدقائه، عاديّا كباقي دروب الْمَدينة، إلى أن أتى ذلك اليوم الذي جلس فيه القُرْفَصاءَ، في زاوية من زوايا مسجد الرصيف، يُصْغي إلى درس ديني، يلقيه فقيه. فاستطرد هذا الأخير في الكلام، كعادته دائما، وأشار إلى كتاب قديم بين يديه: ألا تَعْلمون أن هذا الكِتابَ، الذي تروْنه، طُبِع في مطبعة على مَرْمى حَجَر منا، وهي أول مطبعة بالْمَغرب، كانتْ بدرب الْحَمّام؟! لَمْ يشعر الطفل بنفسه، إلاّ وهو يرفع صوته الرقيقَ بسؤال: أُريد أن أعرفَ، يا سيدي، في أيِّ دارٍ كانت هذه الْمَطبعة؟ صاح في وجهه بعضُ الْحاضِرين، غاضبين ساخطين بأن يُقْفِل فَمَه، إذا أراد أن يظلّ معهم، فاعترض عليهم الفقيه عابسا: مالكم والطفلَ؟!..اُتْرُكوهُ يسألْ!..ألَمْ تقرأوا: ((عبَس وتوَلّى أنْ جاءَه الأعْمى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكرى... ))؟! نطق رجل بصوت مَبْحوح: ولكن هذه الآياتِ تَخُصّ أعْمى البَصر! ردّ الفقيه فوْرا، كأنّ جوابَه كان على طرَف لسانه الطّليق، ينتظر نوْبَتَه ليقفز من فمه: وهذا الصّبي أعمى الْبَصيرة، فَما الضّرَر في أن يسأل؟! تشَجّع الطفل، فأرْدَف قائلا: أنا من سُكّان الدّرب، يا سيدي! في أيِّ دار تقطُن؟ الدار الأولى على اليمين! اِبْتَسمَ الفقيهُ مُلاحظا:كل الدّور على اليمين، لأن حائط مسجدنا هذا يشْغَل اليسارَ، وأنت داخل إليه!..ما علينا، إنْ كنتَ، فِعْلا، تسكن الدارَ الأولى، فإنّني أُبَشِّرك، يا ولدي، بأنّ أول مطبعة بالْمَغرب، كانتْ توجد فيها! ثُمّ أضاف قائلا، وهو يتوَخّى أن يُخَفِّف من التَّوتُّر الذي رانَ بُرْهةً على جوِّ حَلقة الدرس: هل تتوسّط لي لدى أبيك فيطبعَ كتابي؟ اِلْتَفَتَ الْحاضرون إلى الطفل القاعد في الْخَلف، وأطلقوا ضَحْكَةً أخْجَلَتْه، فيما لاذ هو بالصّمت الْمُطبَق! منذ ذلك اليوم، والطفل ينظر بفَخر إلى دربه وبيته، حتى أنه، ذات مساء، بكى بكاءً مُرّا، عندما قرّر والداه أن يرحلا إلى حي آخر، ودار أخرى، فعدَلا عن فكرتِهِما، حينما أقنعهما بالبقاء، مُتَعَلِّلا بوجود الْمَسجد قريبا، يصلي فيه، ويتلقى بين جَنَباته الدروس الدينية! وبالْمُناسبة، فإن هذه الدروسَ كانت تشحَذ خيالَه، بِما يطرحه بعض الْمُتَتَبِّعين لَها من أسئلة عجيبة غريبة، تُحَفِّز الطفلَ على التفكير. ومِمّا يذكر أن رجلا سأل الْفقيه: هل يَجوز لِلْمُرشد السياحي أن يتكلم باللغة الأجنبية في رمضان؟..فعبس الفقيه قائلا: أيُّها الأبله، وماذا تقول عن الإيرانيين والأفغانيين والشيشانيين، بلْهَ الفرنسيين والإسبانيين الْمُسلمين، الذين لا يَنْطِقون إلالغتَهُم؟!..وسأله آخر: هل يَجوز أن يصعد الرجل الدُّرْجَ وراء امرأة بدينة؟..وقبل أن يرد عليه، بادر عجوز قائلا: يَجوز في النزول، ولا يَجوز في الصعود!..ضحك الفقيه: غدا، سأُخْلي لك مكاني، لتنوب عني، أيُّها العالِمُ الْعَلاّمة! وكان هذا الْمَسجد يشهد حركةً دائبةً من الْمُتَظاهرين، الْمُطالبين برحيل الْمُسْتَعْمرين، فيتجمَّعون في رِحابِه ليقرأوا (اللَّطيف) ثُمّ ينطلقون من بابه الْمُفْضي إلى الرّصيف، ليجْتازوا طريقا طويلا، وهم يردّدون الشعاراتِ التي تندِّد بالاحتلال، ويُكَسِّرون أبواب الدّكاكين الْمَفتوحة، وأبوابَ منازل الْخَوَنة. ويذكر يوماً من سنة 1954 كانت فيه حُشود من الْمُتظاهرين، إذا قال، مثلا، ثلاثة آلاف، فقلْ أنتَ بالْفَمِ الْمَلآن ولا تَخجلْ أو تتردّدْ، ستةَ آلاف؛ حشود ليس لَها أول يُعْرَف، ولا آخر يوصَف!.. أطلق عليها الْجُنودُ وابِلاً من الرصاص، فسقط منها من سقط، وفرّ الباقي لتبتلعَه الدروب الْمُلْتَوية العَميقة، التي كان الْجُنود يَخْشَوْن أن يُغامروا ويُخاطروا بِحَياتِهِم فيدخلوها. وبقي هو وأصدقاؤه مُتسَمِّرين في مكانِهم، إلى أن حَضر بعض الْمُتَعاونين مع الْمُسْتعمرين، وألقوا عليهم القبض، ثُمّ تفرّسوهم بعيونٍ تتطاير شَرَرا، واحدا واحدا، وأخيرا، أومَأ مُقَدَّمٌ لَحيم أصْلعُ إلى الطفل، الذي كانت فرائصه ترتعد خوفا، حتى أنّه بلّل سِروالَه القصير، ونزل الشَّلاّلُ عبرَ فَخِذَيه ليملأ فَرْدتيْ حذائه:هذا زعيمُهُمْ!..أنا متأكِّد مِمّا أقوله مِئة في الْمِئة! سأله جندي في دهشة:كيف عرفتَه؟! ردّ، وهو يفْتِل شُعَيْراتِ شاربِه الطويلة بعصبية، كمَنْ يستعرض عضَلاتِه: عيناه تتلأْلآن، كعيني الْهِرِّ في ظلام الليل الْحالك! وغَمَز شَخْصين، فأشْهرا عصاةً غليظة، طرفاها مربوطان بِحَبْل. وخلعا فَرْدَتَيْ حذائه، ثُمّ أدخلا قَدَمَيْه في الْحَبل، وأخذ يَهْوي عليهما بِحِزام جلدي، وجبينُه يرشَح عَرَقا، وطقْمُ أسنانه يُطِلّ بين الْحين والْحين، كأنّه يتأهّب للقفْز ليَتَخلّص من صاحبه، هو الآخر، فيما أصدقاء الطفل يبكون ويصرخون، ظنّا منهم أن دورَهم سيأتي بعدَه، لكن شيئا من ذلك لَمْ يَحْصُلْ بالْمَرّة.كان الْمُقَدَّم يَهْوي بكل قوته على القدمين الصغيرتين، بلا رأفة أو رحْمة، مُردِّدا بين الْفينة والأخرى:ألا تُريد أن تلْزَم حَدّك، أيّها الصّبي الطائش؟!..خُذْ، يا بْنَ الْكَلب، وتذكّرْنا دائما!..أين أولئك الذين دفعوك إلى التّظاهر على أسيادِك؟!..قل لَهُمُ الآنَ أن يأتوا ليُنْقِذوك من أيدينا، إذا كانوا رجالا أفذاذا! ولَمّا تركوهُ، ووَلّوا عائدين، حَمل صديقه (عبد العالي التّازي) حجَرا صُمّا، وكان يكبره بِحَوالَيْ ثلاثِ سنوات، وقذف به قَفا الْمُقَدّم، فانبَجَس الدّم منها جاريا على جلبابه الصّوفي الأبيض! أطلق الْمُقَدّم صيحةً عالية من أثَرِ الْقَذْفة القوية: يا وَيْلي، يا ويْلي!..أمسكوا بأولاد الزِّنى!..لعنةُ الله عليهِم إلى يوم الدِّين! فأخذ بعض الْمُواطنين يتظاهرون بالْجَري والصِّياح وراءَهم، وهم يَكْتمون ضَحَكَاتِهِم، فيما أطلق الأطفال أرجلَهم للريح يسابقونَها، من حَيٍّ إلى حَيٍّ، إلى أن وصلوا رحبةَ الزَّبيب، فدَلَفوا إلى بيوتِهم هَلِعين فزِعين، ولَمْ يُغادِروها إلا بعد أيّام قليلة، حين هَدَأ الْوَضْع تَماما، ولَمْ تَعُدِ العيون مبثوثةً، هُنا وهُناك، وعادتِ الْحَياةُ إلى حالِها الطبيعي (مُؤَقّتا طَبْعا(! أُدْخِل الطفلُ مدرسةَ (أَكومي ) الْخُصوصية، وهو الأخ الأكبر للموسيقار الْمَغربي عبد الوهاب أكومي، الذي توفي في حادثة سير مؤلِمة بضواحي مدينة (بني مَلاّلْ). وهذه الْمَدرسة، وغيرها كثير، أنشأها الزعماء السياسيون الْمَغاربة، أو بإيعاز منهم، لتعليم اللغة العربية، ومُجابَهة الْمَدِّ الثقافي الاستعماري، والْحِفاظ على الْهُويّة العربية. وكان عُمرُ الطفل آنذاك، يَتَجاوز السِّنَّ القانونية، فنُقِص منها بقرار من الْمَحْكمة، كي يُقْبَلَ في الْمَدرسة الْحكومية من 30/ 06/ 1948 إلى 01/ 01/ 1951.. ولا يذكرُ من الْمُعَلِّمين الذين درّسوه، خلال الْمَرحلة الابتدائية، إلاّ واحدا منهم، يُلقبونه ب(الْيوبي) كان يَحْلو له أن يسخَر منه، أمام زملائه في الفصل الدراسي، ربّما لأنه يشرُد بذهنه عن الدروس في حصّته، ويتلهّى باللّغو واللعب، والْحَركة الْمُفْرطة!..ويوماً ما، قرّر الطفل أن يضع حدّا لسلوك معلمه تُجاهَه، ويُعطيه درسا لن ينساه، ولِيَكنْ ما يكون، لأنه سيلتحق، اليومَ أوغدا، بالْمَدرسة الْحُكومية (الصَّفّاحْ) ليتابع دراسته مع صديقه الأديب رشيد بنّاني!..فطأطأ رأسه تَحْت الطّاولة، يُتَمْتِم بينه وبين نفسه، والْمُعلم يشرح درسا في التاريخ الْمَغربي، حول ( الْمَولى إدريس الثّانِي)!..قال للتلاميذ ضاحكا:اُنْظُروا إلى ذلك الكسول الْخامل، الذي يتلهّى بتحريك أصابعه، وأنا أشرح له الدرسَ!..إنه لا يريد أن يتعلم كسائر التلاميذ الْمُجْتهدين! وزاد قائلا، وهو يضرب كَفّا بكَفّ:على من تقرأ زبورك، يا داود؟!..كنت أتَمَنى أن تكون تلميذا مُجِدّا مُكِدّا، مثل هؤلاء التلاميذ، فَخَيَّبتَ أُمنيتي فيك..الأمر لله وحده! ثُمّ تقدّم منه بضعَ خطواتٍ، والتلاميذ صامتون، يتتبّعون حركاته، كأنّ على رؤوسهم الطير:هل تعلم أن الْمَوْلى إدريس الثّاني تولّى الْحُكْمَ وهو طِفْل صَغير، بينما أنتَ ما زلتَ في الابتدائي الثالث، وعُمْرك عَشْرُ سَنوات؟! لَمْ يُجِبْهُ الطفل، وظلّ صامتا، ينتظر الفرصةَ الْمُواتية! جذب أذنه، الْمَرَّة تِلْوَ الأخرى، حتّى كاد ينثرُها من موضِعها، فأحسّ الطفلُ بشيء من الألَم الْموجِع: هيّا، أجبْني!..لِماذا لا تريد أن تتكلّم، أيُّها الولد اللَّعوب؟! نظر الطفل إلى الْمُعلّم، وقال متسائلا بلسانٍ طليق لَمْ يَخْذُلْه:إذا كان الْمَوْلى إدريس الثاني أصبح مَلِكا، وسِنُّه لَمْ تَتَجاوزْ عشرَ سنواتٍ، فلماذا أنت في الأربعين، ومازلتَ معلما مؤقتا؟! وكأَنّ زُنْبورا لسَع الْمُعلمَ، وما أكثرَ الزَّنابيرَ في ذلك العهد، فقفز عائدا إلى السّبّورة، صائِحا في التّلاميذ بصوت عالٍ، ليُنْسِيَهُم ما فاهَ به الطفل في حقِّه، وليُفرغ رؤوسَهُم مِمّا التَقَطَتْه آذانُهُم، كمن يُفرِغ قَبْوا من خُرْدَواته:قِفوا جَميعا، وأنْشِدوا معي: عليكِ منّي السلامُ يَا أَرضَ أجْدادي ففيكِ طابَ الْمقام وطاب إنشادي منذ ذلك اليوم، ماعاد الْمُعلمُ يهْزَأُ بالطفل، ولا يكلّمه أو يسأله بالْمَرّة، ولا ينظر إليه إلاّشَزْرا، وأرْخى له (الْحَبلَ على الْغارب) ليفعل ما يشاء. وعند الاختبار السّنوي، منحه نقطةً عالية جدا؛ كان يسعى من ورائها نقلَه إلى فصل آخر، كيلا يُرِيَهُ وجهَه ثانيةً، ربّما لأنه يُحَسِّسه بوضعيته الْمِهْنية ويَحُطّ من مكانته (الْمَرموقة) بين الْمُتَمَدْرسين الصغار! ولعل هذا الْمَوقفَ الذي عاشه الطفل، جعله عاملا قويا من عوامل نَجاحه في مِهْنته التعليمية؛ فلايذكر بتاتا أنه أهانَ تلميذا، أوآذى شخصيته، وإلاّ سَمِع ما لا يُرْضيه، وتعرَّض للهُزْء من قِبَل الصغار قبل الكبار، ولأنه كان يؤمن بِما قاله أمير الشعراء أحْمَد شَوْقي في البيت الشعري الشّهير: قُمْ للمعلّمِ وَفِّهِ التّبْجيلا كادَ الْمعلّمُ أن يكون رسولا فإذا كاد الْمُعلمُ أن يكون رسولا، فعليه أن يتحلّى بأخلاق الرُّسل. لا يعبس ولا يتولّى، إذا جاءه أعْمى البصر أوالبصيرة، ويتحمّل بصبر وثبات ورزانة ما يُلاقيهِ من مُريدِيه من عِنادٍ، وسلوكٍ سيء..! والْحَقيقة أن الطفل لَمْ يَكنْ يَأْبَهُ بالدراسة، فقد كان ينفُر منها، وفي كثير من الأحايين، يُغَيِّر وجهته من الْمَدرسة إلى (الْمَركز الثقافي الْمِصري) بِحَيِّ (الْبَطْحاء) الذي أُنْشِئ في عهد الرئيس الرّاحل جَمال عبد الناصر، ليطالعَ قصصَ كامِل كيلاني، وأشعار مُحَمّد الْهراوي ومُحَمّد عُثْمان جَلال، و(( سِندباد: مَجَلة الأولاد في كل البلاد))لِمُحَمّد سعيد الْعَريان.. وهذه الْمَجلة، أثّرتْ في العديد من الأدباء الْمَغاربة، يذكر منهم الأستاذ عبد الْجَبّار السحيمي الذي قال عنها: ((أتذكّر طعمَ الطفولة الفتّانَ، حين أقف أمام مُجَلدات سندباد: مَجلة الأولاد في كل البلاد، وكانت تأتي من القاهرة، تصدر هناك يومَ الْخَميس وأظل أتردد مراتٍ، كلَّ يوم، على بائع الكتب، أسأل عن سندباد، وبين البيت والْمَكتبة تعترضني شتى الإغراءات: بائع الحلوى وبائع الْحِمِّص وبائع الْمُخَلّلات وبائع اللعب، لكنني، مثل علاء الدين في قصص ألف ليلة وليلة، أغمض العين عن كل الإغراءات لأحتفظ في جيبي بثمن مَجَلة الأولاد، هذا الكنز الساحر، حتى إذا جاءت أخيرا، التمعتْ داخلي شهوة، وأسرعت أختفي عن كل الأنظار في غرفة بعيدة لأخْتليَ بِها؛ وأمارس مع صفحاتِها تلك الطقوسَ التي ركبتني منذ ذلك التاريخ البعيد حتى الآن، فأنا أستعيد صفائي، واشتعال العينين كلما وقفتُ أمام كتاب أوكتابة خَمنت عوالِمها الْمُضيئة...وهاهو مُجَلد مَجلة سندباد بينها، وقد كنت أدفع ثَمنَ أعداده مُقدَّما في بعض الأحيان، حتى لا يسبقَني أحدٌ إليه، ها هو الآن يبدو مثقلا بالسنين، وقد خرجت منه بعض أوراقه، ولَحِق البلى غلافه. إنه مصفوف الآن على الأرض، مع الكتب القديمة الأخرى، التي تَحتوي الطفولة، تتنازعني نَحْوها العواطف، فليس لَها بعدُ من مكان على الرفوف، ولكن مكانَها في النفس باقٍ))،أوبدَلَ الْمَركز الْمِصري، يُيَمِّمُ وجْهَه نَحوَ (سينما الْعَشّابين) القريبة من حيِّه، ليشاهد الأشرطة الْهِنْدية والْمِصرية والأمريكية، التي كانتْ تُلبّي حاجاته النّفسية والذهنية. فلاينسى ((علي بابا والأربعين لصّا)) و((ظُهور الإسلام)) وأبطالَ ((رُعاة البقر)) الذين كانوا ينتقمون للمظلوم. كانتِ الأشرطة، في البداية، باللونين، الأبيض والأسود، وبرغم ذلك، كان الْجُمْهور يَحْيا بوِجْدانه قصصَها الْمُشبعةَ بالرومانسية والْمُثُل والقيم العليا، والصراع الأبدي بين الْخَير والشر.. بل كان هذا الْجُمهور عنصرا أساسيا فيها، يلعب دورا خاصّا بِه، ألا وهو تنبيه وتَحذير بطل القصة من الْخَطر، الذي يُمْكن أن يودِيَ بِحياته؛ فعندما يكون الواحد منهم سيتعرض لضربة من الْخَلف، يقوم الْمُتفرِّجون جَميعا صائحين باحْتداد:حذارِ الْمجْرمَ!..هاهو فوق السطح، يستعد للقفز فوقك! وبالفعل، يعمل بنصيحتهم، فينظر إلى أعلى في حيطة، ثُمّ يوجِّهُ له فُوَهَةَ بندقيته، يُرْديهِ برصاصة في الرأس، أويُصَوِّبُها نَحْو قلبه، فيَخِرُّ الْمُجرم على الأرض، مُضَرَّجا بدمائه. وهم يتنفّسون الصُّعداءَ:اَلْحَمْدُ لله، لقد قضى عليه قضاءً مُبْرَما! لأن الْجُمهور لَوْ لَمْ يقمْ بالدور الْمَنوط به، لَقُتِل البطل، وانْتهى الشريط، وهو مازال في أوّله، وبذلك ينصرف دون أن يشاهد النِّهاية!..أوإذا رأوْا البطلَ يَمُدُّ يديه إلى خَصْر حبيبته، يصيح بعضُهم مُقَهْقِها:هكذا يُفْعَل بأخواتكم في الدروب الضّيِّقة، عندما ينزل الظلام..هاهاها! فَيردّ آخرُ ضاحكا:حَمْدا لله، أنا إخْوتي كلُّهم ذكور! وربّما يتلفّظ أحدُهُم باسْم فتاةٍ، يُصادف أن يكون لأختٍ آخر، وهذا كثيرا ما يقع، فينطلق التّراشق بالألفاظ، بين متفرِّجي الدّور العلوي والدَّور السفلي، وأحيانا (يتطور ويرتقي) إلى ما لاتُحْمَد عُقْباهُ، فيتحوّل إلى التّنابُز بالألقاب، يتبعه التّراشق بكؤوس الشاي، وقِنِّينات الْمَشروبات، وقشور البرتقال والْمَوْز، وأكياس الفضلات، والبُصاق، وما تأتي به تلك الساعة، مِمّا يفرض حينئذ على مسؤولي القاعة، إيقافَ الشّريط، وإحضارَ الْعَسَس والْحُرّاس لإخراج الْمُتَخاصمين، وجَرِّهم كالأكباش، أوإلغاء بقيّة العرض! لقد كان الطفل مُدْمِنا على متابعة الأشرطة في القاعات السينمائية والْمَرْكز الثقافي الْمِصري، إذ يستحيل أن يَمُرّ أسبوعٌ، ولايُشاهدها هو وأصدقاؤه، برغم فاقتِهِم وخَصاصتِهِم!..والسؤال: من أين كانوا يَحْصُلون على مبلغ تذكرة الدخول؟..مَرَّة، يشتغلون في ساعات فراغهم حَمّالين للسِّلَل والْقُفَفِ بسوق الرصيف. ومرّة يشتركون في شراء تذكرة واحدة، فيُمَرِّرونَها بينهم بطريقة خفية، لايشعر بِها الْجابي. ومرّة، يتحايلون على أشخاص مغفَّلين. مثلا، يذكر الطفل، وكانت هذه عادته، أنه رأى يوما، بدويا في حي (الْمَخْفية) يَحْمل ديكاً هِنْديا، وما أدراكَ ما الديك الْهِنْدي!..فتقدّم منه، وقال له بثبات:إن أمي تريد أن تشتري منك هذا الديك السَّمين! فسأله البدوي بسَذاجة:وأين هي أمّك؟ أجابه، وهو يشير بأصبعه: هناك في آخر الدرب، تنتظرك بباب الْمَنزل! سارا رِجلا برِجْل إلى أن بلغا دارا بدرب»رأس الزّاوية»يسمى»لَلاَّ هُوّارَة» فنادى الطفل أمَّه أن تَحْضُر، ثلاثَ مرّات، ولَمّا لَمْ يَأْتِهِ رَدٌّ، ولن يأتيَهُ ولو نادى عليها ألفَ عامٍ، التفتَ إلى البدوي قائلا:ربّما أمي لَمْ تسمعْني! فسلّمه الديك على أن يُحْضِر له النقودَ، وجلس على عَتبة الدار ينتظر عَوْدَتَهُ. وليس ببعيد أن يكون هذا البدوي، مازال لِحَدِّ الآن، بعد مرور أكثر من خَمْسين عاما، ينتظر (الذي يأتي ولا يأتي) ذلك أن للمنزل الْمَهْجور بابين؛ بابا في الْمَدينة الْقَديمة، وبابا خارجَها، يُؤَدِّي بالْمارّين إلى (باب فَتّوحْ)!..وأمّا الطفل، فقد أخذ الديك إلى السوق، ليدخل بثمنه السينما، ويقضي (مآربَ أخرى)! ولَمْ يَتَخلّ عن هذا الإدْمان، الذي أثّر على متابعته دِراسَتَهُ بطريقة منتظمة، إلاّ بعد أن التقى صُدفةً بعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، وهو ابنُ عشرِ سنوات، فكيف تَمّ له ذلك؟! في صبيحة يوم الأحد 6 يونيو 1958 سافر مع أبيه إلى مدينة تطوانَ لإحْضار بضاعة من تاجر، لأن والده كان بائعا متجوِّلا. ولَمّا وصلا الْمَدينة، تناولا الغذاء، ثُمّ تركه أبوه عند صديق له، يعمل نادِلاً في مقهى. وفي الْمَساء، أحس الطفل بالضيق والْمَلل، لأن والده تأخّر عنه، وليس له في هذه الْمَدينة أصدقاء يرافقهم. إذن، ماذا يفعل؟..غافل النّادل، وتسلل إلى (سينما اسْبانْيولْ) ليشاهد شريطا مصريا، فوجد قاعتَها غاصّةً بالرجال الْمُطرْبشين، عِوَض الأطفال والفتيان، كما أن الْمِنصّة فارغة من الستار، تتوسّطها طاولة وكراسٍ ومكبِّرُ الصّوت!..وفَجْأةً، التفتَ إلى الباب، فرأى الأستاذَ علاّل الفاسي، ومن لايعرفه؟!..وثُلّةً من الأطفال يرتدون أزياء مزركشةً. ثُمّ دخل رجل ضرير، على عينيه نظارة سوداء، مَحْفوفا بثُلَّة من الرجال، فتقدّمتْ منه فتاةٌ صغيرة، وسلّمته باقةً من الورود. ووقف الْجمهور احتراما له، ولَمْ يقعدْ إلابعد أن صعِد الرجل الْمِنَصّةَ، وجلس إلى الطاولة. تساءل الطفل في نفسه متعجّبا:لِمَ لا يكون مُمَثِّلا، جاء من مصرَ ليقدِّم شريطه الْجَديدَ؟! غير أن ظنّه خاب، عندما جلس الضّرير وراء الطاولة، تُرافقه التّصفيقاتُ، كأنّها أصواتُ أسْرابٍ من العصافير، لا تريد أن تسكت!..قال مقدِّمه: إنه عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين يَحُلّ ضيفا بين ظُهْرانينا!..فعرف أنه كاتب، وليس مُمَثِّلا كسائر الْممثلين الذين يشاهدهم يوميا!..وبعد أن تناول الدكتور الكلمة، حلّل أزمةَ القراءة في العالَمِ العربي، وأرجعها إلى الْمُخترعات الْحَديثة التي تُلْهي الشباب عن الْمُطالعة، كالْمِذياع، والْحاكي، والسينِما..فضْلا عن مشاكل الْحياة اليومية، وأتعابِها الْمُقْلِقة!..وكان الطفل يُصغي إليه، ويتتبّع مُحاضرتَه، وإن لَمْ يفهم الكثير منها، سوى العوامل الْمُعيقة للقراءة، كالسينما، والْمِذياع الذي كان يَحْرص على أن يتتبع ما يقدّمه من تَمثيليات هزلية كلَّ خَميس، بأصوات حَمّادي عَمّور وأحْمَد حسن الْجُنْدي والعربي الدُّغْمي وعبد السلام العمراني وأمينة رشيد وحبيبة الْمَذْكوري،..!..وهكذا ظل قاعدا في مكانه، وليس من عادته، حتى انتهى الْمُحاضر، ونَهَض لينصرف، فقفز الطفل إلى الباب، معترضا طريقَه، هو وبعض الأطفال الذين صَحِبوا آباءهم. وعند مروره بِهِم، سلّم عليه، فسأله الدكتور بابْتسامته العريضة:هل فهِمتَ شيئا مِمّا قلتُه؟ ردّ الطفل بِثقة:أجلْ، سيدي، وسأعْمل به! هذا ما أتَمَنّاه، بنيَّ..! كانتْ تلك الْمُحاضرة حَدّا فاصلا بينه وبين السينما والْمِذياع، لأنّه أدْرك بِما لايدعو إلى الرِّيبة، أن قِبْلتَه ينبغي أن تَتَحَوّل إلى الْمُطالعة. لكنّ إدمانَه عليها، جعله يُهْمِل الدراسة النِّظامية، فبِالكاد، حصل على شهادة التعليم الثانوي، التي خَوّلتْ له وُلوجَ مركز الْمُعلمين. والآن، أودّ أن أشير إلى الْكُتّاب والشعراء الَْمغاربة والعرب والرّوس، الذين نسجوا خيوطا من شخصيته، فهو لَمْ يكنْ يُطالع للمتعة، أو لِمَلْء الفراغ وتزجية الوقت، وإنّما كان يقرأ لِحاجة قوية في نفسه، تَجْعل منه إنسانا واعيا. فكان يتأثّر بِقراءاته الْمُتنوعة، ويُحاول أن يُطبِّق ما يقرأ، ويعتبر الْكِتابَ دواءً، يَجِب أن يتناوله كلَّ حين، والكُتّابَ أطبّاء، يَنبغي أن يعمل بنصائحهم، ويتأسّى بِهِم، ويَحْذُو حَذْوَهُم، حتى أنه عندما كبر، واشتعل رأسُه شيبا، وتقاعد عن العمل، صار يشُدُّ الرِّحالَ إلى الْمُدن والدُّول، ليترحّمَ عليهم، كالدكتور طه حسين، وعلاّل الفاسي، ومُحَمّد الْحَلْوي، وسُهَيل إدريس، وعبد العزيز البشري، وكامل كيلاني، وإبراهيم عبد القادر الْمازِني، ونيقولاي كوكول، وليف تولستوي، ودوستويفْسكي، وألِكْسَنْدَرْ بوشْكينْ، وعبّاس مَحْمود العقاد الذي زار غرفته بأسْوانَ، فاطّلع على مكتبته، ولبس مَنامتَه، وتوكّأ على عُكّازه، بل جلس على أريكته، ونام على سريره..فاسْمَحْ له، أيُّها الكاتب الكبير، إنْ فعل كلَّ ذلك في غيبتك، لأنّه لولا حُبه القوي لك ولأدبك الثَّرِّ، لَمَا تَجَرّأ صاحبي على دخول غرفتك، بلا إذنك..وقائمة الكُتّاب طويلة، لاتُعَدّ ولا تُحْصى!