نقابة تندد بتدهور الوضع الصحي بجهة الشرق    اسبانيا تسعى للتنازل عن المجال الجوي في الصحراء لصالح المغرب    وزارة الاقتصاد والمالية: المداخيل الضريبية بلغت 243,75 مليار درهم عند متم أكتوبر 2024        في لقاء مع الفاعلين .. زكية الدريوش تؤكد على أهمية قطاع تحويل وتثمين وتسويق منتجات الصيد ضمن النسيج الإقتصادي الوطني    أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    الذهب يواصل مكاسبه للجلسة الرابعة على التوالي    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها بأداء إيجابي    سعر البيتكوين يتخطى عتبة ال 95 ألف دولار للمرة الأولى    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    استئنافية ورزازات ترفع عقوبة الحبس النافذ في حق رئيس جماعة ورزازات إلى سنة ونصف    "لابيجي" تحقق مع موظفي شرطة بابن جرير يشتبه تورطهما في قضية ارتشاء    مقتل 22 شخصا على الأقل في غارة إسرائيلية على غزة وارتفاع حصيلة الضربات على تدمر السورية إلى 68    ترامب ينوي الاعتماد على "يوتيوبرز وبودكاسترز" داخل البيت الأبيض    الحكومة الأمريكية تشتكي ممارسات شركة "غوغل" إلى القضاء    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    حادثة مأساوية تكشف أزمة النقل العمومي بإقليم العرائش    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    البابا فرنسيس يتخلى عن عُرف استمر لقرون يخص جنازته ومكان دفنه    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    كيوسك الخميس | 80 في المائة من الأطفال يعيشون في العالم الافتراضي    المركز السينمائي المغربي يدعم إنشاء القاعات السينمائية ب12 مليون درهم    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية        اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    الأساتذة الباحثون بجامعة ابن زهر يحتجّون على مذكّرة وزارية تهدّد مُكتسباتهم المهنية        جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    الفتيان يواصلون التألق بالفوز على ليبيا    بلاغ قوي للتنسيقية الوطنية لجمعيات الصحافة الرياضية بالمغرب    بوريطة يستقبل رئيسة برلمان صربيا    الحكومة تتدارس إجراءات تفعيل قانون العقوبات البديلة للحد من الاكتظاظ بالسجون        ولد الشيخ الغزواني يهنئ الملك محمد السادس بمناسبة عيد الاستقلال    العصبة الوطنية لكرة القدم الاحترافية تقرر تغيير توقيت انطلاق ديربي البيضاء    توقعات أحوال الطقس لنهار اليوم الأربعاء    منح 12 مليون درهم لدعم إنشاء ثلاث قاعات سينمائية    تفاصيل نجاة فنانة مصرية من الموت        نادال مودعا ملاعب التنس: " أريد أن يتذكرني الناس أنني كنت شخصا طيبا قادما من قرية صغيرة قرب مايوركا"    تلاميذ مغاربة يحرزون 4 ميداليات في أولمبياد العربية في الراضيات    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    من الحمى إلى الالتهابات .. أعراض الحصبة عند الأطفال    فعاليات الملتقى الإقليمي للمدن المبدعة بالدول العربية    أمزيان تختتم ورشات إلعب المسرح بالأمازيغية    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    "من المسافة صفر".. 22 قصّة تخاطب العالم عن صمود المخيمات في غزة    روسيا تبدأ الاختبارات السريرية لدواء مضاد لسرطان الدم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أرض المبادئ :المختفي
نشر في طنجة الأدبية يوم 02 - 09 - 2010

"لا يمكننا أن نفهم سوى عالما اصطنعناه بأنفسنا" نيتشه
كم مرة أبلغتك فيها – عبر رسائلي – أنك كنت دائما تكذب عنا. تكذب عن الصغار والكبار. لكن كن على يقين أنه من اليوم فصاعدا لن تجد من يصدقك حتى ولو قلت الصراحة. ومهما بذلت من مجهود لتلميع صورتك في أذهاننا.
لست أنا الوحيد الذي اكتشف أكاذيبك، خياناتك، نقضك لعهودك... بل إن الكل في هذه المدينة يتحدث عنك. فقد كذبت حتى على صاحب المتجر المجاور. حيث قلت له إن مدة صلاحية بطاقتك البنكية قد انتهت. صاحب المتجر لم يكن بليدا بالدرجة التي كنت تعتقد أنه عليها. لذلك فقد استرهن منك هاتفك المحمول مقابل منحك بعض الأوراق المالية.
تركت عليك ديونا كثيرة. حيث ظل يبحث عنك النجار والحداد وبائع النعناع و"البيبوش". تخون كل من يستأمنك... ألم تخجل من نفسك؟!. حتى بائع جافيل كنت تبتزه. حيث كنت تطلب منه كل يوم سيجارة أو ثمنها، مع العلم أنه لا يدخن، عندما ضقت به ذرعا وامتنع عن أداء تلك الدمغة الجبائية التي ألزمته بها. في اليوم الموالي لذلك اليوم، دبرت له ذريعة، أطللت عليه من النافذة ووجهت له وابلا من الشتائم. لقد كانت شتائمك تلك موجهة بدقة حيث كانت تؤدي كل من يسمعها. الذريعة التي اتهمته بها هو أنه يزعجك بمنبهه الصوتي ويفسد عليك نومك !.
لست أعرف هل وصلتك بعض رسائلي!... فأنت لا تستأجر مسكنا حتى تتركه من جديد!. أحيانا تعاد إلي الرسائل التي أبعثها إليك، مرفقة بعبارة : "إن الشخص الذي تراسلونه لا يوجد بهذا العنوان". أول رسالة ردت إلي قرأتها بكاملها. ولم أكتشف أنها بضاعتي ردت إلي حتى وصلت الإمضاء. وكل ذلك بسبب إصرار أمك.
ليست لدي إليك أخبار جديدة. سوى أن ثمن البصل - هذه الأيام - قد فاق ثمن الموز. وأنه إذا كان هذا الأخير لا يعنيني في شيء حيث كلما مررت بالقرب من باعته إلا واعتقدت أنهم يعرضونه لأشخاص آخرين غيري. فالبصل يشكل لي مادة أساسية. حتى أنني أفضل كتابا عنوانه "تاريخ البصل". على محاضرة حول واقع الأحزاب السياسية بالبلاد.
إن ظلال الأزمة قد أرخت سذولها هذه الأيام في كل مكان. حتى بدأ البعض يعتقد أن مستوى عيش مواطن أمريكي بولاية كاليفورنيا قد نزل إلى الحضيض، ليماثل مستوى عيش مواطن مغربي يعيش بجبال الأطلس أو ببوادي الراشيدية. بعض الناس في صالحهم الترويج لهذا الاعتقاد، تحت شعار مصائب قوم عند قوم فوائد. والبعض الآخر يعتقد أن الأصح هو أزبال قوم عند قوم موائد. ليس لدي ما أخفيه عنك فالناس هنا أصبحوا يكرهونك. حتى تلك العجوز المسكينة التي كانت تتحدث عنك في كل مكان، بحديثها الممزوج بالشفقة والرحمة أصبحت توجه إليك ضربات تحت الحزام، بين الفينة والأخرى. أما في أخبار الحب والغراميات. فرغم أني قرأت هذه الأيام الكثير من القصص. التي تتعلق بنفس الموضوع. فإنني لم أر أحسن من مشهد ذلك الشخص الذي كان يقول لمعشوقته : بأنه يحبها، يرى العالم بعينيها. يحب رموشها، أنفاسها، لهاتها... وفيما بعد اكتشفت شخصيا أن السيد متزوج وله أطفال!. السيدة المغفلة كانت تصغي وتنصت إليه. لكن في يوم من الأيام سمعتها تقول له: "هل تظن أنني لم أكن على علم بذلك. إنني فقط كنت أضيع معك الوقت وفوق ذلك فقد كنت أنت الطرف الخاسر في هذه الصفقة. إن زوجتك بدورها على علم بعلاقتي بك. وأنا أعرف أنها تعرف أنني أعرف أنها تعرف ذلك. لكن المسكينة ربما تعتقد أنه من الصعب عليها تطليقك وإعادة بناء حياة زوجية أخرى. لذلك فقد تركت الأمور تسير على ما تسير عليه. إنك أنت الوحيد الذي تعتقد أن لا أحد يشعر بسلوكياتك.
أما عن موضوع حالة أمك الصحية فطبيب الحارة قد طمأنها قائلا إنه في حالة عدم تعرضها لعوارض فجائية. فقد يمكنها أن تعمر بضع سنين أخرى. لكنه أضاف مؤكدا أنه في كل يوم تموت فيها مائة ألف خلية. وربما تتجدد فقط تسعون ألف خلية (أي أنها تفقد عشرة ألف خلية كل يوم). ما خفي عن الطبيب كان أعظم. فالخلايا الجديدة رغم قلتها تكون خير من الخلايا الميتة القديمة. فتلك الخلايا الجديدة قد صممت بطريقة انتقائية لتتلاءم وحالة أمك الراهنة. حتى أمست أمك تعتقد أن لعبة حياة / موت الخلايا. هي لعبة في صالحها. وأنه لو تأخرت بعض الخلايا في موتها. لعرقلت النظام التطوري في جسم أمك!.
أمك المسكينة. بيضت السنون شعيرات رموشها. وصار شعرها الذي تركته أسودا شبيها بشعيرات نباتات الذرة الشقراء. لا تتحرك البئيسة دون عكاز بيدها. ولا تقف أو تجلس دون الاستنجاد بالصُّلَحَاء المحليين والنائيين. والأولياء المغمورين والمشهورين. ورغم غيابك الطويل فلازالت ترتاد محطة الحافلات على رأس كل أسبوع. تسأل عنك المسافرين والسائقين. حتى وحيث أصبحوا يعرفونها ويعرفون قصتك. أحدهم يشفق لحالها، ويقول لها إنه التقى بك. وأنك تقرؤها السلام معه. قد تصدقه أولا تصدقه لكنها تسوق شهادته. كدليل ضد أولئك الذين يلومونها عن تمسكها بالبحث عنك طيلة هذه المدة. ويعنفونها عن تكلفها كل هذا العناء.
تتعايش وتتساكن في ذهن أمك جميع الاحتمالات، التي يمكن أن يكون قد آل إليها مصيرك. فأحيانا تعتقد أنه قد ابتلعتك الدار البيضاء بين عماراتها وتبنتك أسرة ميسورة، وزوجتك ابنتها العانس. وصرت لتلك العائلة ابنا وصهرا وعبدا!. وأحيانا تعتقد أنه ربما حاولت عبور مضيق جبل طارق. فغضب عنك البحر واصطادتك أمواجه. وغدوت قوتا للحيتان. وربما لفظك بعد ذلك ونقلت إلى بيت الموتى. ولم يتم التعرف عن جثتك فدفنت بقبر منسي أو حفرة جماعية. وتعتقد أحيانا أنك وطأت أوربا وتعاطيت تجارة المحظورات. وألقي عليك القبض. وصرت في سجنين سجن الغربة وسجن المؤسسة. وأنه مع تطاول الأيام والأحقاب لم تستطع تحمل العيش في غياهب الظلمتين. وبدأت تجرح جوارحك بشفرة الحلاقة. وتنهش فخديك كالكلب المسعور. فأصبحت تشكل خطرا على نفسك وعلى النزلاء الآخرين. ونقلت إلى زنزانة خاصة بك وصرت في ظلمة ثالثة!... وربما حقنت بمهدئات عصبية، فأتلفت ذاكرتك. وانهارت أعصابك ودخلت حلقة الظلام الرابعة. فنسيت مدينتك وقريتك. نسيت بلدتك ووطنك. وأضحيت ذكرى في خبر الذكرى.
في كل مناسبة تنظر أمك إلى واحدة من بنات عمك. تراها وردة قد أزهرت. وفتاة قد أينعت. تقول في نفسها وللحاضرين : - يا ليت ابني المختفي يعود وأزوجه هذه العذراء. تتمناها لك. تتصور عرسكما في خيالها. تمر الأيام والسنين. تتزوج بنت عمك. وتتجه عين أمك نحو بنات الجيران. زوجتك في خيالها عشرون ألف مرة!... ومع ذلك فأمك لازالت تعتقد أنك مازلت شابا يافعا. تتصورك كما غادرتها في ذلك اليوم المشئوم. بل تعتقد أنك لازلت ترتدي نفس الثياب التي خرجت بها. ربما لن تصدقك إذا عدت. لن تعانقك، ستعتقد أنك قتلت ابنها، وعدت لتحل مكانه. ستصرخ في وجهك. ستحاول أنت تذكيرها لكنها لن تتذكر. فهي ليست مستعدة لذلك أبدا.
هل ستعود أم لا ؟ أرى أنه من الأفضل ألا تعود.!

الإمضاء : أبوك الذي لا تدمع له عين.
الرَّد
"لا يمكننا أن نصنع عالما، لم نفهمه"
المؤلف

... ردا على رسالتك التي كان عنوانها : "المختفي". والتي كان من الأجدر بك أن تعنونها بعنوان : "أبوة". فهي تكشف طبيعة مزاجك. ونوعية شخصيتك. وطينة عجينك، أكثر مما تنقل شيئا عني.الرسالة التي تسيء إليك أكثر من إساءتها إلي...الرسالة التي بعثها لي في السابع والأربعين من شهر "جعنبلط"!، لسنة خمسة ملايير مرت على انشطار الأرض عن نجمنا الشمس. الموافق لخمسة ملايين خلت، بعد هجرة أجدادنا الهومو- سابينز من إفريقيا مهد الإنسانية. الموافق لخمسة ملايين... الموافق لخمسة أيام تعلمت فيها الكتابة دون معلم!.
قبل أن أرد على اتهاماتك وأخبارك. أسألك هل انتظرت، يوما كلبا حتى يخرج رأسه من )سطل( القمامة. وذهبت لترى هل ترك شيئا به؟.وهل حسدت - يوما- قطا على سمكة وجدته يلعب بها؟. وهل بت يوما في مقاهي من خمسة نجوم تحت الصفر وليس فوقه هذه المرة؟. وهل اختزنت نقودك في الخلاء، حتى تستيقظ. وعندما استيقظت وجدت شخصا ما قد حفر المكان الذي اعتقد أنك اختزنتها به. لكنه وجدك أشد دهاء منه فقد موهت به واختزنتها في مكان آخر. وهل جعلت، يوما ما، من حذائك مخدة وانكمشت مثلما تنكمش أم الأربعة والأربعين. وهل...
لست أعتقد هل ستصلك أفكاري بالشكل المطلوب. فاللغة التي بدأت تعاني من مرض التآكل. هي نفسها في حاجة إلى طفرة خاصة بها. فمهما تشير مؤشرات علم المستقبليات على أن اللغة الانجليزية ستكون اللغة الأكثر شيوعا. فإن اللغة بصفة عامة ستعجز عن مواكبتها لتطور الإنسانية. مما سيحتم ابتكار لغة هندسية. ربما تخضع لمنطق المجموعات كما هو الحال في الرياضيات.
لديك الوقت الكافي لكتابة رسائل من هذا النوع. ولديك الوقت الكافي لممارسة هواياتك المفضلة : النميمة والغيبة والترويج للإشاعة!. وتحويل الحدث من حدث ممكن الوقوع. إلى حدث كاد أن يقع. وأخيرا إلى حدث قد وقع. والترويج له. وبناؤه على ضمير الغائب الوهمي "قيل". تصنع الحدث والخبر. تحتكر براءة إنتاج الباطل وحق نشره. فكلما نقل عنك شخص خبر ما، إلى شخص آخر. إلا وفاجأه بأنك نقلته إليه قبله!.
وبالإضافة إلى يوم الأحد فجميع أيامك الأخرى عطل. تعمر المقهى حتى يبدأ مالكه في التضايق منك. ومن أنك أصبحت تريد بعض الكؤوس المجانية. تعتقد أن تقادمك كزبون قد خول إليك بعض الحقوق والامتيازات. حيث بدأت تعتقد أن تقادمك كزبون قد خول إليك بعض الحقوق والامتيازات. حيث بدأت تعتبر أن الكرسي الموجود على حافة الرصيف قد أصبح ملكا لك. ورغم أنك لا تغادر المقهى إلا ناذرا. فكلما علمت عن موعد مباراة في كرة القدم إلا وطلبت من النادل أن يحتفظ لك بمقعد عنده. وبعض المقاعد الأخرى لأصدقائك. عندما تجلس ويتأخر جلساؤك، تضع جريدة فوق الكرسي الثاني. ومنديلا فوق الكرسي الثالث. وعلبة سيجارة فوق الكرسي الرابع وهكذا دواليك... وكلما اقترب أحد من كرسي ما، إلا وحدجته بعينيك. وقلت له إن ذلك الكرسي محجوز وأن محتجزه قد ذهب فقط للمرحاض!.
لن يأتي اليوم أحد من جلسائك. فقد سئموا من الطريقة التي كنت تتهرب بها عن الأداء. تارة تتذرع بأنه لديك ورقة مالية من العيار الثقيل!. وتارة أخرى يقف أمامك النادل فتبدأ في البحث في جيبك الأيمن والأيسر وفي السراويل... حتى يتدخل أحدهم ويؤدي عنكم أجمعين. في اليوم الذي نسي فيه النادل أن يحتفظ لك بمقعد خاص. أقمت الدنيا وأقعدتها. هل تحب البارصا إلى هذه الدرجة؟ ربما تعتقد أن تظاهرك بحب كرة القدم قد يجعل الآخرين ينظرون إليك على أنك إنسان مثقف أو حداثي!. من وجهة نظر البارصا أنت طفيلي زائد. ومن وجهة نظري "الطز عليك وعلى ثقافتك!". ألا تعلم أن رونالدينو مثلا قد صرح بكل جرأة أنه يكره أن يرتدي قميصه أي مسلم أو عربي. وأنت كلما انهزمت البارصا، إلا وكسرت كؤوس المقهى وصحونها. وعندما يغضب صاحب المقهى تشهر فيه عبارتك الشهيرة : "إن الزجاج لا يغرم، وأن تغريمه يجلب البلاء والبأس". أهذا كل مل ما تعرفه؟!. إذا كان الزجاج لا يغرم فما ذنب الطاولات والكراسي. التي كنت دائما تهمل فوقها سجائرك المشتعلة على الدوام. لتترك عليها بقعا سويداء. مع العلم أنك لا تحتاج عود الثقاب فأنت تشعل السيجارة اللاحقة من عقب السيجارة السابقة.
هاجرت بعدما أحسست أن الأرض ضيقة، والدنيا مظلمة، وقبضتك خانقة. لذلك خرجت طالبا للحرية. نحو أرض الأمل. نحو الجنة، أو على الأقل الجحيم التي كنت أعتقد أنه جنة. آبقا نحو التحقيق الذاتي لذاتي. ومهما كنت تعتقد أنني مختف. فليس هناك ما يثبت اختفائي. فأنا بهذا المكان الذي أنا فيه. حيث يمكنني أن أطفو على سطح تلك الروابط التي يمكنها أن تكون كذلك بالنسبة إليك. وبطبيعة الحال لا يمكنني أن أكون مرتين في آن واحد. أو مرة واحدة في آنين أو مكانين. لذلك فالفكرة التي لذي في الموضوع. هو أنني هذا الذي أنا. هذا الذي الآن بهذا المكان. التفاعلات الدقيقة والعميقة لا تجعلني أكون مرتين.
بخلافك أنت... فأنا ليس لذي وقت لأضيعه. فأنا أشتغل طيلة أيام الأسبوع. ولحسن حظي من دون معظم أصدقائي. فمقر العمل يبتعد عن مقر سكناي بمائة كيلومتر فقط. معظم جرائدي المفضلة أقرأها في الحافلة. أحيانا أقرأ فقط العناوين وأراكم المواضيع ليوم الأحد. للأسف الشديد الضغط المفروض على يوم الأحد جعله أشق من الأيام الأخرى. إذا لم ترتب أوراقك هنا بعناية، ستتبعثر. وتدروها الرياح. أو تلتهمها نار خرافية. فالسرعة التي يسير بها قطار هذا المجتمع، تجعلك ترى الأشجار المحاذية للطريق، تجري في الاتجاه المعاكس التي اعتدت رؤيتها تجري نحوه، في حافلة عادية . الفكرة الوحيدة التي لدي حول السرعة.
في كل يوم تحدث لي قصة حب. حيث أراقب تلك الفتاة التي تراقبني بدورها من الكرسي المقابل. نتبادل نظرات مليئة بالشفقة والرحمة وبالحب. فنحن نشترك هنا هما واحدا هو أن الحافلة تتجه بنا إلى الأمام. وأنه لا يستطيع أي منا أن يوقف الحافلة في مكان لا يمكنها أن تقف فيه... قد تنزل هذه الفتاة في الطريق. أشيع هامتها المختفية بين الركاب. وقد تقعد مكانها فتاة أخرى. إذا حدث هذا قد أنجز قصتي حب في حافلة واحدة. وإذا حدث ونزلنا معا فقد ننجز قصة حب واحدة في حافلتين. قد تمر الأيام وتجلس في الكرسي فتاة سبق أن بادلتها تلك النظرات. غير أن التمادي في تبادل النظرات، دون التقدم في الموضوع قد يبعدنا أكثر مما قد يقربنا. فتلك الفتاة غالبا ما تتأفف وتغير المقعد. أو تدير وجهها. بعدما تكتشف ألا شيء أستطيع أن أفعله سوى النظر إلى وجهها كأنه شاشتي المفضلة. فأنا خجول أكثر من اللازم. في مثل هذه الحالات التيارات كلها تسبح ضدي، تيار بشر، تيار هواء، تيار ماء، تيار نار. مع العلم أن النار في ذهني غالبا لا تشير إلى ذلك اللهيب المعروف!.
بعض الإسبانيات الشقراوات كن تنظرن إلي بنظرة أقرأ فيها الحيطة والحذر، أقرأ فيها الاحتقار والمهانة، في تلك الأيام كانت أمريكا قد سلطت أضواءها على موضوع الإرهاب، حيث حشدت جميع جنودها الإعلاميين والنفسيين لدراسة الظاهرة. لتجعل من كل ذي شعر أسود كائن إرهابي. هكذا بدأت أتصور أن شبح الإرهاب يطاردني. في إذلال أضيف إلى إذلال التخلف. تلكن الفتيات ربما كن تعتقدن أنه يمكنني أن أنفجر هنا وهناك. إلى درجة أنني أكاد أصرخ بقوة : "أنا لست إرهابي.. أنا لست إرهابي..". هذا الشعور المتبادل ربما زاد من تعميق الهوة بيني وبين الشقراوات وكسر حلمي في الزواج من فتاة أوربية تحب الأفارقة وتحترم المسلمين. وتعرف شيئا عن الثقافة الأمازيغية والعربية. الحرب الإعلامية تلك كان لها أشد تأثيرا على نفسيتي. أكثر حتى من تأثير تلك المدافع التي كانت دائما تقصف أبرياء غزة. ومن أولئك الجنود الذين لا يكادون يصرحون أنهم سيخرجون من غزة. حتى يدخلون أريحا. في لعبة شبيهة بحمل صخرة سيزيف الأبدية. أيها الله مالك الأكوان، هل تسامح الفلسطينيين. إنهم يقاومون شعبك المختار؟!!!.
في الموضوع نفسه أنقل إليك قصة الشاب الإفريقي، الذي قدم من إفريقيا جنوب الصحراء. في المغرب استقر هذا المهاجر شهورا طويلة. يتسول أمام المساجد والمحلات... الفتاة المحسنة التي كانت كل صباح تنزل إليه ببراد من الشاي وقطعة من الخبز وسلطانية من زيت الزيتون. والتي خفق إليها قلبه، في الوقت الذي كان شعورها نحوه ممزوج بالسذاجة والرحمة. في أحد الأيام اختفت الفتاة المحسنة. حيث كانت تعمل كخادمة لدى تلك العائلة... الإفريقي اعتبر الأمر عارض بسيط من عوارض طريقه. حيث اعتاد فؤاده مثل هذه الهزات. الإفريقي تابع هجرته نحو أوربا. في إسبانيا، تعرف على شابة أخرى من أصل بولوني لكنها تحمل جنسية كندية. بنت لأب جزائري وأم من الشيلي. بعد سنين من زواجه بها، اكتشف أنها بنت لتلك الأسرة بالتبني فقط. فهي لأم فرنسية وأب مغربي، أول مولود لذلك الإفريقي مع زوجته سمياه الطفل العالمي. اعتقد أنه سيكون طفلا بلا هوية، بلا ديانة، بلا وطنية. سيشكل مع أطفال آخرين يشبهونه شعوبا بلا أوطان. ومع ذلك فإنهم أبناء هذا العالم. يفتخرون من بين ما يفتخرون به أنهم أكثر موضوعية من تلك الانتماءات التضليلية. والتشيعات العنصرية. ويفتخرون كذلك أنهم لا ينتمون إلى نظام فاسد ولا صالح. لقد أصبح طموحهم هو أن يكونون أبناء الكون!.
ربما هذا المثل البسيط / المركب يمكن أن يغير مواقفك حيث كنت تعتقد أنني نسيت وطني وبلدتي. ويمكن أن يزعزع أمن أفكارك الجامدة. أفكار الحومة والحارة والدرب والدوار... ألم تكن أرض الله واسعة فأهاجر فيها؟!. إن الروابط التي تربطك بحومتك، وبجميع مقدساتك أصبحت تربط الإنسان العالمي بكوكب الأرض. فقد عبر لي ذات يوم أنه لو كان قد كتب إليه أن يكون أول من وضع قدميه على سطح القمر، لنظر إلى كوكبنا نظرة احتقار وسخرية مشيرا بإصبعه إلى هذا الكوكب قائلا بهدوء رزين وسخرية حزينة : "فوق تلك الكرية الصغيرة، هناك ملايير من البشر يتصارعون، يتقاتلون"...
ليس العيب هو أن تحب حومتك أو قريتك، العيب هو أن تلوم الآخرين عن حبهم لمقدساتهم. أن تفرض عليهم معتقداتك. المبدأ الأساسي والفرضية الأولى التي يمكن أن ينبني عليها أي حوار حضاري بناء ومسؤول.
الطبيب الذي شخص إليك حالة أمي لا يملك الوسائل التي يمكن أن يثبت بها أقواله. حيث أنه لا يعرف سوى البنسيلين. وأن معرفته لا تتجاوز معرفة تلميذ نابغة يتابع بعض المجلات الطبية. من جراء ذلك قمت بإضراب عن زيارة الطبيب طيلة حياتي. حتى ولو أصبحت سجلا للأمراض.
رسمت لأمي في خيالي صورا كثيرة. رسمت لها صورا وهي في عقدها الرابع والخامس والسادس. رسمت صورا لكل سنة من سنوات حياتها. وتحت صورة كل سنة صويرات الشهور. استحضرت لها صورا لكل دقيقة من دقائق عمرها. صورا لكل ثانية. أخذت نلك الصور بواسطة المجهودات الجبارة لتطور تكنولوجيا النانو. لم تكن صورها وصويراتها تفارقني على الدوام. تصورت دموعها تختلط بابتسامتها الساذجة. تخيلتها واقفة، جالسة، ضاحكة، باكية،... استحضرتها تدندن ببعض الأغاني المحلية. ينخفض أحيانا صوتها وهي تغني. لا لشيء إلا لأنها لا تحفظ المقطع بكامله، وأنها تعتبر الغناء وصمة عار في جبينها، خاصة وأنها في خريف عمرها.
ردا على تهم الابتزاز التي ألصقتها بي. فإني أحيطك علما بأن السباب العنيف الذي وجهته لبائع جافيل كان مرده إلى أنني شاهدته بأم عيني وهو يسرق لعبة الطفل الصغير ابن سعيدة الجارة المجاورة. اللعبة كانت تمثالا اسمه "تمثال الحرية والصمود". التمثال كان أفضل هدية من الأم المسكينة إلى ولدها... لكن بائع جافيل، ذلك السارق، قد باعه في سوق الخردة بثمن بخس دراهم معدودة. وبالتالي فالسارق من بين ما يجب أن يعاقب عليه هو تبخيسه لقيمة المسروق. هذا إن كنت أنت تعطي قيمة للأشياء. فأنت تبخس حتى الإنسان. أما الحداد فقد دمر الغابة المجاورة...
استيقظ من نومك فشمس الحرية قد سطعت وبزغت. ودخاخين الظلام قد تلاشت في الفضاء الرحب ثم اختفت واندثرت. وبقيتَ أنت وحدك ترعى الظلام، الظلم، التجبر، القمع والغلت. حتى اعتقدت أنه لا أحد من قبضتك انفلت. وأن أفكارك ومعتقداتك هي الصائبة وأن الآخرين يسبحون في بحر الخطيئة، الوهم والغلط.
هل سأعود أم لا؟ ماشي شغلك.

الإمضاء : ربيبك الحقيقة التي أخفيتها عني وعن الناس.
إدارة "السلحفانون"(*)
حكاية رمزية "أقدار الآلهة هندسية" أفلاطون

كانت المناسبة احتفاء باليوم العالمي لحقوق الثعبان!. وكان المشهد عجيبا ومثاليا جدا أكثر من أي مشهد في كل زمان ومكان. إذ حضرت جميع الحيوانات بصغيرها وكبيرها، بطائرها وزاحفها من الحشرات ذبابها ونحلها. ومن المثل الأسمى للحقوق انه لم يتم تناسي الديدان. واقتضت العدالة الاجتماعية كذلك أن تم ترتيب هذه الحيوانات في صفوف هندسية جميلة ابتداء من الأصغر إلى الأكبر ومن الأعمى إلى المتبصر، وكان هنا التنظيم أحكم من تنظيم تجمع نازي عظيم. ولوحظت البكتريا النافعة تحلق ذات اليمين حاملة السنابل والزعفران في الوقت الذي كانت فيه الفيروسات محلقة ذات الشمال وتحمل الأسهم والقطران، فحظيت بدورها بكل احترام. وشوهدت لأول مرة في تاريخ الحرية القطط تصفق إلى جانب الفئران والأسود ترقص معية الغزلان. فصعد المنصة غيلم حكيم. إذ كان رئيسا لهذا الحشد الكبير ومنظما لهذا الجمهور الغفير. وقد قيل انه تم اختياره من دون الأسد لدرايته بالبر والبحر، وقيل لطول عمره ولقوة حنكته وعمق تجربته وحسن تبصره ويقظة بصيرته، وقيل شيء آخر لا نعلمه حتى الآن، ولا ندري أأريد باختياره شرا أم أريد به رشدا. وتسلق المنصة رويدا رويدا وكان الوقت كافيا لانتظاره سنين وأعوام، ومن شيمه وحسن خلقه أنه لم يهتم بكسوته ولا بهندامه، ولا من أي درجة يطلق عنان لسانه، ولا حتى بجلوسه خطيبا أو وقوفه. المهم بالنسبة إليه أن يفرق عليهم صوته بالتساوي آخذا بعين الاعتبار بعيدهم منه ومن كان قريب المكان، قوي السمع فيهم وضعيفة ومنعدم الأدنين، وعدل بصره حتى يراهم متساوون في الإحجام والأبعاد سواء كانوا أسودا، فيلة، أو ديدان. ثم ضم يده إلى جيده فخرجت معها ورقة منسوجة بدموع الفئران وصهيل الفرسان. فطرح عليهم سؤالا عظيما مفاده : لماذا يضطهدنا الإنسان؟. فرفع الأسد أصبعه للإجابة عن هذا السؤال المفاجئ الغريب لكن سعادة الغيلم لم يبال به، فقيل انه كان يكرهه لأنه نافسه في الانتخابات عقودا وأعواما... لكن اعتقد أن السلحفاة كان متبصرا جدا فقد خشي أن يقال استهل هذا الاجتماع بالأسد لأنه قوي وفي ذلك إخلال بالمساواة وحقوق الحيوان. فصده عن الكلمة الآن، لكنه احتج عليه قائلا: "ولماذا تحرمني من شيء كان لي منذ قديم الزمان".( صمت طويل).
لم تمر سوى سنوات معدودة ليرفع الحمار رأسه هذه المرة، وليس أصبعه! زامعا الإجابة عن هذا السؤال فبدا الموقف حرجا جدا فقد بدأت بعض الحيوانات توشوش فيما بينها، وأخرى تتغامز وتقهقه وتسخر من هذا الدحش الصغير الذي يريد الإجابة عن سؤال كبير، في حين كانت بعض الحيوانات الرقيقة الطبع تنظر إليه خلسة وتتساءل خفية من أي حظيرة جاء هذا الحمار الشجاع؟ فارتأى الغيلم الحكيم استغلال هذه المناسبة للتعبير عن أسمى نماذج المساواة والديمقراطية الحيوانية .فتقدم سيادة الحمار ونزع عمامته وأعطاها لقرد كان بجانبه ( اعتقد انه جاره) ورفع رأسه إلى السماء وجلس على مؤخرته فقلب شفتيه معريا عن أسنانه التي كانت بشكل البرد ولون الذهب الأسود تم اخذ ورقة أعدت له من ذي قبل وابتدأ مداخلته قائلا" حضرات السادة الحيوانات الأحياء منكم والأموات! الزاحفين والقافزات السيد "السلحفانون" الذائع الصيت الجليل المكانة، الحبر العلامة الفاهم الفهامة، يعرف الإنسان انه على حيوان عاقل وهذا ما قيل عنه منذ قديم الزمان وهي صفة لا تختلف فيها حضارات الشرق عن اليونان، وقد يحد كذلك على انه يتميز بالفكر واليد، ويقال هو ذات واعية بذاتها. أما نحن فنعتبر ذات واعية فقط ويحلو لبعضهم أن يميزه عنا بالعمل والإدارة المتوترة والمستمرة، في حين يحلو للبعض الآخر أن ينعته بأنه حيوان رامز ومهما يقال فقد بلغوا مبلغا هاما في الحضارة واثروا التنظيم في ملابسهم ومشاربهم فأسفارهم وأنكحتهم. (لوحظت الغزالة تضحك وتنظر صوب الحمار) وقننوا الأمور تقنينا بالغا دقيقا ومعقدا، وبرعوا كذلك في بناء العمارات وشق الحفر والطرقات، في بطون الجبال ومتاهات المحيطات، وقاموا برعاية الأديان وحماية الفن وحقوق الإنسان ولم يفتهم احترام حقوق الحيوان والشجرة والحجرة فالحشرة وهلم جرا... !وأنهم بهذا كله لأحق بقيادتنا واستغلالنا. ونحن طائعين لهم على مر الزمان. ( شرعت الغزالة تمسح العرق الذي يتفصد من جبين الحمار).
انتهت كلمة الحمار بتصفيقات حارة، فقد استطاع من خلالها التعريف بكفاءته وهو الذي ظل محتقرا لسنين طويلة. وإذا كانت قد أثارت في نفوس البعض استفزازات بالغة، فقد أثارت في نفوس الآخرين الرغبة في إحماء وطيس النقاش. وعلى العموم قوبلت بتصفيقات حارة أحدثت ريحا كادت أن تزعزع استقرار الفيروسات التي كانت بدورها مستعدة في كل لحطة وحين لزعزعة امن واستقرار هذا الاجتماع ولو بطقطقات في إدارة "السلحفانون" أو على الأقل تهديدات على شبكة العنكبوت / نيت أو تفجيرات على مستوى التنينة الجليدية.
أما سعادة "السلحفانون" الحاذق المتبصر فقد تدارك صعوبة الموقف دون أن يشعر أحد. فانتابه شعور بالسعادة والشقاء في نفس الوقت، حيث أراد إتمام هذا الاجتماع بهدوء وأناة. فمرر الكلمة من جديد لكن هذه المرة الكل أراد الاستئثار بها. فثمة حيوانات هزت أصابعها وأخرى أرجلها وثالثة ذيولها (الغزالة الآن تقهقه بإسهاب). فوضع في مأزق حرج وهو الذي يرى الأشياء متساوية، يرى المجهريات بحجم الفيلة والتنينات، يحب هذه الرؤية بل يقدسها فأصبح لها تأثير بالغ على نفسيته، حيث يتصور الأمور أخطر مما هي عليه في الواقع، وتلكم خطيئته.
المعضلة عويصة، الموقف حرج، وتحقيق العدالة أمر مكلف ووقت اتخاذ القرار ضيق، والحق يقال كان كل حيوان يفكر لو وضع مكان السلحفانون الآن ماذا كان سيفعل؟ لكن سيادته تفطن إلى طريقة مثلى وذكية فقال لهم مستدركا : يمكنكم كتابة تعليقاتكم على الأوراق وسوف نأخذ منها ما تيسر بالاقتراع، ونناقشها جميعا ونترك ما تبقى منها لمناسبة أخرى. فاندهشوا جميعا قائلين بصوت واحد : - وبما ستعرف أوراقنا ونحن لا نملك أسماء ولا "ماتريكولات" مثل بني الإنسان؟ وقد قيل أنهم برعوا في اللغة والتعبير حتى أن لديهم بون بين قام زيد وزيد قائم؟. فسكت قليلا واستطرد قائلا : اعلموا أنه رغم كثرتكم وتشابهكم في بعض الأشياء العامة فبينكم اختلافات في الدماء والبصمات والاحمضة و النويدات والعقا... (فسكت) وإني لأستطيع من قراءة كل مقال أن استخرج البريء والمجرم، الغني والفقير/ الأنثى والذكر المتلبس والارها..(فصمت) واستطيع أن اعرف عن زيد النائم أيحلم نفسه يبكي أم يبتسم أم ينفج... (فسكت).
وبيمنا هو في عد العدة والعتاد للإجابة عن جميع الطروحات والتعقيب على كل التساؤلات، جاءته عطسة مفاجئه حتى لا يزعج البكتريا والفيروسات لقد أصبح حريصا كل الحرص على حقوق الحيوانات لكي يستمر استقرار عالمه. لقد تذكر وتدارك أن بعض الحيوانات لا ترى الألوان، وأخرى لا تبصر بالمرة ولا تريد أن تبصر وأخرى لا تسمع الصوت إلا إذا كان عبارة عن موجات أو ذبذبات، عفوا عصيات أو ذبابات وان أخرى تنصت ولا تبالي وسادسة سميعة بصيرة لكن قدراتها قاصرة وسابعة عاطفية الرد والانفعال... واحتراما منه لكل هذه الاعتبارات فقد ارتدى فستانا مزركشا بالألوان التحت- مرئية وقبعة لا شكل ولا لون لها تسر العميان وتسيء للناظرين. لكنها مكلفة جدا حيث كانت منسوجة من أنياب الفيلة وأظافر الحمير، وروي أن تصميمها وضع منذ سنين وأعوام لكن اكتمالها لم يتم حتى الآن!.
وبعد هده الترتيبات استهل سيادته خطبته الشهيرة قائلا : "أما بعد فباستثناء العنكبوت آثرت الصمت وفضلت السكوت. فان جميع مداخلاتكم كانت تتأرجح بين موقف الحمار الذي يمجد الإنسان ويبرر استغلاله لنا بالتقدم والعقل وبين موقف الأسد الذي جاء فيه بصريح العبارة : (الإنسان حيوان إرهابي إذا اتخنته هان وإذا أحكمته لان، وإذا استأمنته خان وإذا حررته ثار ولعن!). واني لمبتدأ بمناقشة الأطروحة الحمارية احتراما مني للترتيب وعدالة التعقيب فقولك عزيزي الحمار الإنسان حيوان عاقل فيه اخذ ورد فخلف نير العقل ترزح ظلمات الغريزة وإذا كان للأول دور فللثانية ادوار. أما النضج فهو الاستفادة من مرور الزمان. ثم تحت الأبنية والعمارات الشامخة قنابل موقوتة هدامة ومدمرة. الإنسان يرقص رغما عن أنفه فوق فحيح الذرة وزئير النواة وطقطقات النويدات، لقد أصبح عبدا لضيعته وهو بذلك لم ينجح سوى في رسم نفسه كاريكاتيريا يوهم نفسه بقيادة الكون .
إن مقولة العقل ليست سوى إيديولوجيا اخترعها الإنسان لتبرير جوره على الحيوانات وإقناع ضميره وأنني من هذا المنبر "السلحفاتوي" المتواضع أناشدكم ماذا لو كانت ثمة مملكة حيوانية تستطيع مجاراة الإنسان ومبادلته الانتصارات والانهزامات عبر تطاول الأحقاب ومرور الأجيال، ألن يتم في الأخير التوصل معها إلى حل إلى المساواة... وعلى أي مقياس أعلى العقل الذي يعتبر مكسبا لطرف واحد؟! سيتم إذا التوصل إلى هذا الاتفاق على أساس تفاكؤ القدرات أو تقاربها. فالناس متساوون فيما بينهم ماداموا متساوون في القدرات وكلما شال ميزان هذه القدرات إلا وشالت معه موارين تلك المساواة. وثمة ليست إيديولوجية العقل وحدها التي تظهر بل تظهر إيديولوجيات أخرى، فثمة جهاد وتبشير صهيونية ونازية وعلى الضفة الأخرى قرصنة وتضليل وكونية وحرية غير أن ما يميز إيديولوجية العقل هو قدمها قدم الوعي الإنساني. قطيعة (تصفيقات حارة وشعارات تمجد "السحلفانون").
الإنسان لم يبن حضارة بل بنيت له، هذه الأشياء أصبحت خارجة عن إرادته فهو لا يبني ولا يشيد بل يبنى له ويبنى به. لقد أصبح بيدقا صغيرا ضمن لعبة الشطرنج المعقدة يفعل به، ويعمل به ضمن حدود صلاحياته فهناك الأمير والفرس والجنود... لكن كل واحد يتحرك ضمن حدود حدوده. دون أن يعرف ما يترتب عن هذه الحركة وانه لو خير في هذه الحالة بين الحركة والسكون لفضل أن يبقى ساكنا إلى ابد الآبدين. قوانين اللعبة محفوظة لكن الصلاحيات محدودة، قوانين اللعبة تتغير، تتفاعل، تتجدد باستمرار، فلا يعني إتقانك لها اليوم أنك ستتقنها غدا. كان الإنسان مغتربا في العمل (الاستلاب) واليوم أصبح مغتربا حتى في التسيير لقد اخل التقسيم الدقيق بمسؤولية الإنسان وافسد قدرته. بدأ الإنسان يتعامل مع أرقام في الهاتف، في البريد، السوق الممتازة، التحليلات الطبية... الرأسمال بدوره لم يعد ملموسا تحول إلى أرقام تتحول من حساب إلى آخر انه عصر الرقم (Numéro) والشفرة (code). ولذلك فقد أصبح جديرا بالإنسان أن يقارن نفسه مع الحاسوب وليس معنا نحن .
اغتراب الرأسمال أدى إلى اغتراب مالكيه الاغتراب عن التسيير الاغتراب عن الإشراف ومباشرة الأعمال. لقد تعولمت طبقة البورجوازية. تعولم كل شيء، فبقيت طبقة واحدة لم تتعولم هي البروليتاريا، وعندما تتعولم هذه الطبقة فان ذلك يعني نهاية بني الإنسان. وقد قلت كذلك سيدي الحمار أن الإنسان راعي الديانة فأي ديانة تقصد الإلحاد أم الاعتقاد وبين هذا وذاك ملل ونحل، ملل تدعي موت الديانة فيحدث أن تموت هي وتبقى الديانة حية، يموت القاتل قبل المقتول. وسيموت القاتل قبل المقتول لا لشيء إلا لتجدد الحياة. واعتقد البعض كذلك أن الفرق بيننا وبينهم شاسع فلا مجال للمقارنة وهذا خطأ فادح فالفرق بيننا وبينهم اقل من الفرق بين متقدميهم ومتخلفيهم.الآن أنصتوا إلى كلام أحد السورياليين يسمي نفسه "لوتر يامون" : "العيون البشرية هي أشبه بأعين خنزير البحر، مستديرة مثل عيون البومة، صلعته كأنها صدفة سلحفاة"، أي صدفتي أنا رغم أن صدفتي أعلى منها وأحسن بكثير لأنها قابلة للتجدد؟.
- إني لأرى من منظوري "السلحفانوني" أن الإنسان ليس سوى حيوان تعس/ محظوظ تعس لأنه قذف به مملكة الشمس دون اختياره، محظوظ لأنه رزق أعضاء متوازنة. فليس وعيه هو الذي يحدد وجوده ولا وجوده هو الذي يحدد وعيه. بل ووعيه ووجوده يتفاعلان بتزامن وتزمن ليحددان وجودا واعيا بدرجة أعلى. وإلا ما عساه (الإنسان) أن يفعل بدماغه لو كان في جسم دودة؟! تدارك تواجد الدودة وغضبها فاستدرك خطأه قائلا : "لو كان عقل الإنسان في جسم دودة لامتلأت الدنيا حريرا دون أن نرى هذا الضجيج الذي لا يوافق إلا بنية الإنسان. وأسر إلى نفسه لو كان ذلك كذلك لتقبت الأرض بالهبش والنبش!!".
ما إن اختتم سيادته خطابه هذا، حتى تعالت أصوات تمجد ثقافته الكونية التي تحترم كل شيء وأصوات أخرى تدعوه للاسترسال في الخطاب لكنه أبى إلا أن يتم تأجيل ذلك إلى مناسبة أخرى، ولتكن مثلا اليوم الكوني لحقوق الضفادع وقد نجح في استدراجهم لهذا اليوم والتي ستناقش فيه بعض حقوق الضفادع. كحق الترشح والتصويت.
وإذا كانت العنكبوت قد تعجبت وتحيرت كثيرا كيف علم "السلحفانون" عدم مشاركاتها. وإذا كانت الوحيدة التي تعلم إلى حد الآن مدى عمق وأصالة التجربة "السلحفانونية"، فان الأسد أظهر غضبا وحزنا شديدين وذلك لأن موقفه لم يناقش، والحق يقال أن موقفه الوحيد الذي لم يناقش لكن حكمة سيدنا "السلحفانون" تكمن في كونه تجنب مناقشة هذا الموقف لما فيه من تشدد وإثارة للفتنة. وحنكته تكمن في استطاعته احتواء غضب الأسد، إذ أمر له بجائزة النمر للكرامة. في الوقت الذي أمر فيه للحمار بجائزة جدجد للسذاجة. فنودي عن الثعبان لتوزيع هذه الجوائز لان المناسبة مناسبته. لكن وللأسف الشديد فقد وجد غائبا. أما السيدة الغزالة - المكلفة بالتنمية الاجتماعية ورعاية البيئة الحيوانية - فقالت مبررة هذا الغياب : "ربما لأنه لا يملك ثعبانه". وجاء رد سريع من الثعبان يقول فيه : "ببالغ الأسى والأسف أكتب إليكم اعتذاري عن هذا الغياب سيدي "السلحفانون" لان الأسد الذي كلف بتوزيع الاستدعاءات وصل إلى مسكني فأصابه نوع من الكبرياء فمزق الاستدعاء وتبول على المسكن - وهو القائل الإنسان حيوان إرهابي - فكيف بهذا السلوك المشين والعمل اللعين ألا يحول حتى الحيوانات والجمادات إلى كائنات إرهابية".
استاء الجميع، أثيرت الفوضى، وانتشرت القلاقل وعم البلاء وبدأ الأسد يتلقى الضربات من كل حدب وصوب. فألقى "السلحفانون" بنفسه في الماء، ليبتلعه تمساح كبير التمساح يمضغ يلوك ويبتلع. و"السلحفانون" يتمتم : "أنا الذي تنازلت عن ملة آبائي في سبيل الحرية والعدالة والمساواة، والغاب لا حرية فيه بل حريته أن لا حرية له فقد قال أجدادي قديما "كن ما لخواض ما يعيش الفكرون".
لم يكن ابتلاع التمساح "للسلحفانون" سلوكا من قبيل الصدفة والبخت، ولا هو فعل تعسفي أو جوري، فعندما نعود القهقرى شيئا ما نجد أن ابتلاعه له كان بموجب اجتماع عقدته الحيوانات البحرية تقرر فيه أن : "الفكرون فضل الحيوانات البرية على البحرية ولأنها لن تتنازل عن حقها فيه .وبناء عليه فدمه مهدور!". الفكرون المسكين كان قد أخذ على عاتقه جميع التدابير والاحتياطات الخاصة بالمساواة والديمقراطية وتحاشى مناقشة بعض الموافق اجتنابا للفتنة وحرص على وعلى... الفكرون يختفي وفي نفسه الكثير من حتى...
لم تمر سوى بعض دقائق ليطفو فوق سطح البحر كناش صغير عنوانه : "مذكرات فكرون"، جاء في الصفحة الأولى منه : "كنت أعذبهم عذابا "بروكسيت" حيث أوهم قويهم بالضعف وضعيفهم بالقوة وكنت خير الماكرين. وكانت لي علاقات وطيدة مع الأسد". فغضب البحر لهذا السر العجيب الذي اكتشفه عن حيوان كان يكن له كامل الاحترام كان يعتقد انه سيرى، في يوم من الأيام الحيتان الصغيرة تلعب فوق أسنان التماسيح الكبيرة. ويظن أن الأمن والسلام سيشملان حتى الطحالب، وان هذا الخلاص سيأتي على يد السلحفانون الحكيم / الفكرون اللعين، فأبى إلا أن يغضب غضبة "بروكسيت" بدوره، فتحول من مكانه إلى اليابسة لتعذيب البحريين باليبوسة والبريين بالرطوبة، فأضحى المشهد غريبا جدا حيث كانت الحيوانات البرية تتخاطف الأوراق المتناثرة من "مذكرات فكرون". وهي تصارع الموت محاولة تركيب بعضها ببعض للحصول على بعض الحقائق ولأول مرة لعب القرد دورا هاما من أجل الحقيقة حيث صار يجمع ويلصق ويحمض. يستنطق الحيوانات التي أوشكت على الموت يشرح جثث تلك التي وافتها المنية ويلصق شظايا ما ابتلعته من أوراق حتى توصل إلى الحقيقة التالية : "لم تكن تهمني حقوق الثعبان ولا حقوق الذبان أو الجرذان. كان المهم بالنسبة إلي أن تخرج الضفدعة والذبابة والثعبانة للسوق، أن تحشر أنفها، بطنها أو ذيلها حتى لا تكسد البضاعة. والمشروع اسمه "حق الضفدعة في التبضع" أي الحصول على بضاعة أو التحول إلى بضاعة. وكنت أضرب بالحرية، المساواة، الخصوصية، الأسرة والقومية وتلكم وصية من وصايا اعتقادي وأجدادي".
لم ينه القرد عمله الشاق هذا، حتى بدت تطفو فوق سطح البحر بعض الجثث المتعفنة، فرأى جثة الغزالة فدنا منها ووضع فوقها عمامة الحمار بعدما اكتشف ضمن "مذكرة فكرون" قسم الاستخبارات العامة، أن الغزالة كانت تكره الحمار مبدئيا وأن همها الوحيد هو الحصول على العمامة، ثم وضع الكاميرا فوق جثة الحمار ليحقق له أمنية التسامي والرياء، كانت الأمواج المتلاطمة وحدها تقرب الجثتين من بعضهما البعض فتظهر بعدسة الكاميرا عمامة ممزقة الأطراف. الشمس إلى الغروب كل شيء يختفي تدريجيا، استدركت الإمضاء من القرد فكتب : أقرد القردة / أمواج البرية / رسالة حي بين ميتان.
أما باليابسة الجديدة، فلم تكن الوضعية أحسن حالا. حيث امتلأت هذه الأخيرة بالجثث المتفاوتة الحجم والضخامة، وسطعت شمس الربيع بحزن دافئ، سطعت فوق مكان يابس لبحر غاضب راحل، وفي هذا الكون الشمس وحدها لا تغضب، ألقت بأنوارها على الجثث المترامية والهادئة، لم يكن ها هنا شيء يبشر بالحياة، حتى النتانة أو الرائحة الكريهة، لا وميض أمل أبدا في هذه الحياة. الهدوء والركوض سيدا الموقف، رياح خفيفة فقط تحرك شظايا الحيوانات المتناثرة وبعض الإطراف المتقطعة من الرفات، تزحزحها غير بعيد، غالبا ما تقبلها في مكانها الأصلي، قطعة صغيرة تتحرك ببطء وهدوء شديد، كأن نسيما عليلا يململها، تتفتق كما يتفتق الزهر عن أكمامه، انتبهوا إنها قطعة من جثة تمساح كبير، وأخيرا خرج من تحتها الفكرون اللعين لقد قضى التمساح قبل أن يهضم الفكرون، فالسلاحف كما نعلم جميعا لا تهضم بسهولة، لقد عجل سلوك البحر بموت القاتل قبل المقتول ليس فقط لتجدد الحياة، بل لأن الفكرون يملك ثقافة برمائية / كونية.
وقيل البرمأة، رغم تواجد الوحدة التي سيعيش عليها إلى الأبد، رغم أنه الآن يستطيع امتلاك البسيطة ببحرها وترابها، بيابسها ورطبها، فقد اكتشف - ولأول مرة - أن صراعاته الأزلية لم تكن أبدا من اجل التملك بل من أجل السيطرة، وحب الإخضاع وغريزة التسلط، فهل استكنه جوابا لسؤاله الآنف لماذا يضطهده الإنسان؟.
أعتقد خلاف ذلك، فرغم تواجد الوفرة كما قلت، فقد بدأ يعد عدته لغزو الفضاء. وسمى مشروعه الجديد هذا" جوبرمائيات" الثقافة وهي مرحلة أعلى من البرمأة. سعادة الكائن تكمن في تعاسته.
الأصفاد الخالدة
"كل شقاء الناس يأتي من أنهم لا يعيشون في العالم، بل في عالمهم".
هيراقليتس
في كل ليلة كنا نجتمع حوله فيها. يحكي لنا أحداثا واقعية. وقصصا أو حكايات. نعرف أنه يبالغ كثيرا. حيث يمطط جزئيات صغيرة. ويسهب في سرد تفاصيل لا تفيد في البناء العام لقصصه في شيء. لكن لم يكن لنا بد من الإنصات إليه. فلا يوجد بديل عنه. إذ لم يكن ثمة تلفاز ولا مذياع. لم تكن ثمة جرائد ولا مجلات. السماء - وحدها - كانت الشاشة الواسعة العريضة التي ننظر إليها. نعد نجومها ونستمتع بضياء قمرها.
يحكي لنا حكايات سبق أن سمعناها منه. يضيف إليها ما يشاء، وينقص ما يشاء. يقاطعه أحدنا مصححا بعض أخطائه. لكنه يحدجه بعينيه. وربما يمتنع عن إتمام تلك الحكاية. ويأمر هذا الذي قاطعه بأن يتمها نيابة عنه. لكننا نستعطفه ونعنف ذلك المتطفل بشدة. وبعد ذلك يشترط علينا التزام الصمت. فهذه الليلة سيحكي لنا حكايات عظيمة، حيث خيرنا بين : "جنة الأرض"، "أسطورة الحرية"، "السيرة الذهنية لقرد"، "غابة الأحلام"، وأخيرا "حكاية الحضارات"...
خجلت من نفسي فصاحبنا لا يعرف معنى الحضارة ولا البداوة. يعيش البداوة دون أن يعرفها. اعترتني رغبة في الضحك. كتمت أنفاسي، مخافة أن أغضبه، فيمتنع عن السرد مرة أخرى. بدأت بيننا نقاشات. إذ اختار كل منا حكاية. تدخلت بصوت مرتفع : - احك ما أنت حاك فإنما هدفنا الاستئناس حتى ينضج نومنا – كما يقال -!. نظر إلى السماء كأنه يريد رؤية المريخ. استوى على الصخرة التي كان يجلس عليها. أوف أوف .. وأخيرا بدأت الحكاية :
كانت تلكم الغابة فريدة من نوعها. متناسقة في أشكالها ومتناغمة في ألوانها وحركاتها. لم تكن لها صلة بزمن "إنشتاين" ولا "نيوتن". ولا حتى بزمن "أرسطو" أو "برجسون". كانت تملك زمنها بقدر ما كان يملكها. أشجار الصفصاف فيها ترقص مستجيبة لنسيم كان عطره الريحان. والعصافير تعزف سمفونيات الرحمة والحنان. أغصان الدالية تحييك بدون كلل على الدوام. وأزهار الرمان تبتسم في وجهك في كل لحظة وآن. الحيوانات تتمتع بالعدالة والسلام.وتغني أناشيد الحرية المطلقة مثل هذا الزمان. لم تكن ثمة حاجة للمها رشة ولا للمنا بزة. مادام كل شيء توفره هذه الغابة. غابة الأحلام.
وبين قوسين - في يوم من الأيام طل على الغابة حداد شعر لحيته وعنفقته يصل إلى سرته. عيناه ضيقتان وحمراوان. وجبينه منكمش على الدوام، وحاجباه متقاربان من جراء الاكتئاب وعدم الاطمئنان. فتعجب الأهالي لوصوله غابتهم هذه المحاطة بأسوار من الشهب والنيران. أيكون في حاجة إلى أماليذ يابسة. شيء كهذا يعتبر من السهولة بمكان. حيث ما عليه إلا أن ينادي عنها، فتسلل نحوه رويدا رويدا. ويأخذ منها ما فيه الكفاية والتمام. لكن الحداد أجاب متمتما : - أريد من يساعدني على الحدادة ويجيد الضرب على السندان. (صمت طويل).
بعد استغرابهم الشديد لهذا الطلب الشنيع. استطرد قائلا : - أما عن طريق وصولي غابتكم، فكنت قد رجعت ذات يوم إلى مسكني، بعد قضاء حاجة لي. فوجدت أبي قد ولد من بعدي!. فقيل لي اذهب لتأتي لأبيك بشيء يأكله فقد ولد بأسنانه!. فخرجت من قريتي أترقب سواء حاجتي فاستغرقت في ذلك قرونا وأعواما. وبعد عودتي وجدت قريتي خالية من الأهالي والسكان. ولم أعرف أرجعت بسرعة فهم نيام أم أبطأت كثيرا فرحلوا عن الديار والمكان. لكنهم قد تركوا إلي رسالة قائلين لي فيها : - ارحل في صحاري الأماني والأحلام. لم أفعل ذلك بل فضلت الالتحاق بقرية أخرى، طالبا منهم حق اللجوء و


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.