الموت حقّ عدل بل أقوى عدل.. لكل حي موته.. يأتيه حيث ومتى شاء قدره في موعده.. لا يقدم ولا يؤخر.. حقيقته عندنا في الأرض الفناء للأحياء.. وعند غيرنا إذا كان هناك غير في غير أرضنا فلا علم لنا.. والثابت في موت الناس جميع الناس أنه رحيل أبدي غير أنه لبعض الأفذاذ ولو كان فعلا رحيلا ففيه من بقاء المعنى والنور أكبر عزاء في الرحيل.. وقليل من حق من هم.. ونعم المصير لهذا العزيز القليل.. وسيدي عبد الجبار السحيمي من أعز الأقربين منهم الى شجيتي.. كنت في أول سنتي بكلية الحقوق بالرباط غرة السبعينيات شابا شاكسا غير منضبط لأي مقياس.. إلا أنه أحرص ضمن القليل الذي أحرص عليه الحضور في الكلية لمحاضرات العلامة سيدي علال الفاسي رغم أنها تحصل في الصباح وأنا في ذلك العمر لا أعرف وجبة الفطور ولا أحب الصباح ليلي هو انتعاشي ومعاشي والنهار مجرد استثناء قلما أبدأه إلا قبيل منتصفه. أقحمت في هامش نقاش لمحاضرة الأستاذ الزعيم حول مدونة الأحوال الشخصية كلاما لغادة السمان حول الزواج في آخر ما نشر لها إذ ذاك من حوار نزل إلى السوق... ثم أتممت بما لم أتذكره الآن كلاما نسبته للأستاذ عبد الجبار.. أجابني الأستاذ الكبير: أن رأي غادة السمان المنشور في آخر عدد من مجلة الشعر اللبنانية قد قرأته وهو رأي أديبة مبدعة وما نحن بصدده رأي الشريعة والقانون في الموضوع فقها وتقعيداً.. وليس في مجال الشعر والأدب.. أما نسبته لعزيزي عبد الجبار فلم تفصح عن المصدر هل في مقال أم في قصة.. ثم في نهاية المطاف فعبد الجبار أيضا أديب ومبدع.. ولكل المبدعين مني في المكان كل التقدير.. لا كننا في هذا المقام ندرس الشريعة والقانون.. ولك يا ولدي متسع في المكان والزمان أن تكون مثل عبد الجبار.. ثم أضاف مبتسما ولم لا؟ عاشقا لغادة.. فانفض المجلس العلمي لسيدي علال وودعناه على نغمات المرح من القلب والعقل والذوق الرفيع الذي ختم به.. ومنذ هذا الصباح كلما مررت في شارع علال بن عبد الله أتوقف أمام اللوحة الزجاجية للعلم أسفل البناية أقرأ ما تيسر.. ثم أسلم تلقائيا وجهاراً وبالإسم على سيدي عبد الجبار قبل الانصراف.. لم أصافح يدا بيد الأستاذ عبد الجبار إلا في الدرك الأسفل لعمارة بدرب متفرع عن شارع تمارة قريبا من دار آل المهدي بنبركة - سنة 1978 حين يهيء لتأسيس الجمعية المغربية لحقوق الانسان في مقر الكونفدرالية للشغل... قلت أجدد السلام الذي كنت أبلغه اللوحة المعلومة للعلم منذ كنت طالبا قبل أن أحضر إلى هذا الدرك في البناء ضحية للدرك الأسفل في الغباء... همس بصوت خافت: وله يقتات الاستبداد إلا من الغباء؟! في سنة 1984 وقع الاتفاق بين بلدية أكادير واتحاد كتاب المغرب بافتتاح النشاط الثقافي للبلدية بندوة علمية حول سيدي محمد المختار السوسي - الذاكرة المستعادة - وقد أثمرت هذه الندوة كتابا تحت نفس العنوان.. وكانت فكرة العمل قد انبثقت أساساً بيني كممثل للجنة الثقافية للبلدية وبين الأستاذ محمد برادة كممثل لاتحاد الكتاب في عهد الرئيس الأستاذ أحمد اليابوري كمجرد اقتراح جديد في أول تعاون في هذا المجال بين اتحاد كتاب المغرب وبين جماعة محلية، فلقي الاقتراح استحسانا من الطرفين ثم نفذ على أحسن وجه.. حرصت ضمن ما حرصت عليه أن يكون ضمن المدعوين لهذا الحدث سيدي عبد الجبار السحيمي بالحضور الشخصي بقطع النظر عن أية صفة يشاء... ورغم أن الأستاذ محمد برادة بلغني بأن الدعوة وصلت وكانت محل القبول المبدئي... إلا أنني آثرت قبيل افتتاح الندوة يوم 21 / 12 / 1984 بأيام أن ألح في الدعوة بالهاتف: - سيدي عبد الجبار من أكادير أناديك.. إن بحرنا المحيط قد استأنس بك في الشمال لكن قسمه الجنوبي عندنا يغار.. هلا قبلت دعو الحضور عندنا.. وحبنا لك كحب البحر لا يتجزأ.. ثم بعد أن قال... وقلت... وعد الرجل قطعا: - على رأسي وعيني... ثم أضاف بعد صمت وجيز: أعتز بالدعوة شخصيا لكني أعتز أكبر وأكثر بهذه المناسبة التي هي الأولى من نوعها بين بلدية واتحاد الكتاب.. أكيد سأحضر إن شاء الله.. فرحت أيما فرح بهذه الاستجابة... ثم سهرت جهد الإمكان لربط الصلة - حسب الأوقات والأماكن - ما بين عبد الجبار والبحر... ومستعينا بصديقين خبيرين في هواية حب البحر ذواقين لأنواع السمك وإبداع الضيف هما المرحوم إبراهيم الراضي - رئيس البلدية - والمرحوم سيدي عبد الله المسعودي محافظ الخزانة - فقبلا ما اقترحت بكل حبور.. بعد أربعة ليالي وثلاثة أيام وحين الوداع قي المطار قال سيدي عبد الجبار: يا ليت المقام بجانبكم وفي حضن بحركم استطال.. ثم همس في أذني: إن زمن اللذة والمتعة دائما قصير.. أعدك بأنني سأعود.. مرت أعوام.. ثم شاء قدر مكر التاريخ أن يتوافق جلالة الملك المرحوم الحسن الثاني سنة 1998 مع أحزاب الكتلة الوطنية ومن تبعها فيما جد بين الطرفين الأساسيين من مسار.. فلم أقرأ لقلم عبد الجبار أي وصف ولا تعيق... هاتفته... كاتبته بيني وبينه.. يرد السلام.. ويصوم على ما أروم من كلام... فهمت أولا أنه كان بلاغيا فترك النعت كترك الوصف يدل على العموم. ثم فهمت أن الرجل في طبعه مقل.. وليس مسرفا ولا مستعجلا في كل أحواله.. وحتى كثير من لمساته الفكرية والفنية في العلم قد يستبينها العارفون به.. ولكن موضوعيا بعمد منه عسيرة في إثبات النسب.. فقد علمه البحر أن الحكمة قد تأتي وقد تبطىء... وأن أي تسرع حين تبطىء لايفيد، في أوائل أبريل سنة 2000 كنت في الرباط ومازالت دار العلم في في مكانها المعهود... تسلقت الدرج لأسلم على الرجل غير أن حظي عاكسني كما كان مع كثير من الأحباء لأسباب مختلفة منها المعلوم ومنها المستور!.. والنتيجة واحدة!.. رجعت إلى مستقري في ثغر أكادير وبادرت بإرسال نصين إلى الأستاذ عبد الجبار ويوم 2000/04/07 وبعد أيامهاتفني المرحوم: إن انطباعاتك ستنشر يوم 2000/04/16 وبما أنك جعلتها غفلا من العنوان فإن لي اقتراح كعنوان ما بين: أشواق سوس أو أشواق أكدال مع رغبتي بالإذن بحذف ما يخصني في المقال لأنه حسب علمي ليس لي أي ديوان مع الشكر في جميع الأحوال.. قلت بلسان سرعة البديهة الصادقة.. يا لك ياسيدي من عظيم الأدب إيداعاً وسلوكاً.. أقصى مبتغاي في الرسالة رجاء القراءة ثم إسناد النظر بلغة مهنتي .. أما قد اخترت أجمل المبتغى فالعنوان المطابق للسياق وهو منكم أصلا.. أشواق أكدال.. أعدك ياسيدي.. أنني سأثني بأشواق سوس حين تأتي المناسبة .. ولم يخطر في بالي قط أن أشواق سوس ستأتي بعد رحيل صاحب العنوان.. وهذه سنوات لم أنس قط وعدي ولكن لم يضغط على خاطري وقلمي إلا بعد رحيل صاحبه المحب الوفي للوطن من قاع الرباط في نشأته الى شطآن بحره شمالا وجنوبا ورجالات تاريخه بكل الرموز العلامات من الزعيم علال الفاسي الى حمد المختار السوسي ومن يحف مسارهما من الأفذاذ.. صغيرا وكبيراً. أيها الرجل الجميل ترحل كجميع الناس يرحلون كما الهدهد والفراشات ورائحة العطر.. كما النغم العميق اسمعه من ناي بين الوديان من نبيّ وسْط الأعالي والغور الخفيض أحبّك جودُ القنع بالطبع منذ الصغر ولما بلغت أهداك سرّ حكمةِ المعاني وجميلَ الفعال.. حين يرحل عنا أحبائي الأتقياء أبكي ولا أبكي فبعض نفسي يُعزي بعضي أقول كما الدفن للجسد يقول: وداعاً للتراب في التراب أرفعُ عيني عن القبر وأقول: لسُمُوّ الروح إلى اللقاء.. شرح على متن.. قال الأستاذ مبارك ربيع: عبد الجبار.. كان واحدا قلت.. نعم، في صيغة الجمع السليم.. قال الشاعر محمد الميموني: «وجه ودودٌ سيد يقظ البديهة لايقاد ولا يقود» قلت: شكراً.. أيها الشاعر الكبير.. ولا عيب فيه سوى تعادلية الود بين كل الناس من يستحق.. وحتى من لايستحق.. استقلالي الرأي.. وحدوي التوافق ينقاد للحق.. ولو خالف هواه.. حين يقودُ وقد قاد فبالحكمة واللين.. وسيط صبور بامتياز لكل النيات الصادقة..