عادة ما يمتد ليل "الجمعة" حتى الفجر. تقرأ وتكتب، وفي بعض الأحيان تتأمل. اليوم هو "السبت". هناك موعد في وسط المدينة. ثمة أمسية تأبين. في العادة لا تغريك أمسيات التأبين، إذ يتبارى المتحدثون في الكلام عن مناقب "الراحل". يقولون الكثير عن شخص لم يعد في دنيا الناس هذه. حديث لن يسمعه قط. لكن، بينك وبين "عبد الجبار السحيمي" حيوات. إذ الرجل هو استاذك في المهنة، وفي بعض الأحيان حتى "الحياة". سيتطرقون قطعاً الى "السحيمي" الكاتب والصحافي والأديب والإنسان والسياسي. تمنيت لو كنت بين المتحدثين لتحكي لهم عن "السحيمي" الذي علمك المهنة. لكنك لم تتلق حتى دعوة للحضور. قبل موعد الأمسية، تأتي مكالمة هاتفية من "محمد الحنتي". هذا صديق من أصدقاء ذلك الزمن الجميل. لا تغيب عن ذاكرته. يذكرك بأمسيات التسكع والليالي الطوال. كان الوقت جميلاً وتقاسمنا حلاوة الزمان. لعله شرخ الشباب وهدوء البال وانفتاح الشهية للحياة. يقول الحنتي نحن في انتظارك. تذهب الى هناك لتسمع وتتذكر. تحدث كثيرون. بعض الكلمات كانت صادقة من القلب الى حد تولد لديك إنطباع بان أصحابها يرثون زمانهم. بعضها كانت مدهشة. نصوص جميلة وتحليل عميق، أخرى كانت جافة. ثمة كلمات سكبت بين أسطرها مشاعر تشككت في صدقها. لكن لم يقل أحد لماذا غضب "السحيمي" غضبته النبيلة، واعتكف في دارته، ثم راح يعاني في صمت. وواجه قدره في بسالة نادرة. الناس تتحدث وانت تتذكر. تتذكر كيف قرأ لك "السحيمي" نصاً كتبته في الصحيفة التي إندثرت. نص قلت فيه إنك لا تهتم بليلة رأس السنة، إذ لا أحد ستحتفي معه بتلك الليلة. قلت بانك ستعود الى شقتك الباردة التي تأكلها الرطوبة في "حي المحيط" متلفعاً بالليل والصمت. طلب منك "السحيمي" أن تأتي عنده. ذهبت اليه مرات، وكان لا يحضر. في مرة انتظرت حتى جاء. كان يمشي متمهلاً في مشيته، يحمل حقيبة جلدية صغيرة. دخلت مكتبه. ركام من الأوراق والكتب والصحف والمنشورات والقصاصات والجذاذات. طرح عليك سؤالاً واحداً: هل تنضم الى "العلم". أجبته بكلمة واحدة "نعم". جلست يومين في مكتب صغير الى جانب محرر الصفحة الرياضية. يومان لم تفعل فيهما شيئاً. أعتقدت أن "السحيمي" تراجع عن عرضه، وكدت ان تنسحب. في اليوم الثالث رمى امامك فوق ذلك المكتب الخشبي المتواضع بكومة من الأوراق والقصاصات تتحدث جميعها عن رحيل "شارلي شابلن". عكفت على كتابة المطلوب، وانت في حيرة من أمرك. إذ كنت تعتقد بانك ربما تكون مفيداً في" قسم الأخبار" لكن "السحيمي" كان يحبذ ان تعمل في "القسم الثقافي". قال جازماً " ستعمل في "الأخيرة" وفي "الملحق الثقافي" وفي يوم صدور "الملحق" تكتب مادة ليست سياسية لكنها قريبة من السياسة . كنت تكتب وتكتب. تعيد صياغة القصاصات. تترجم. تجري حوارات. تذهب الى المسرح والمعارض التشكيلية والندوات. تقرأ الكتب وتقدم خلاصاتها. تكتب خواطر وانطباعات. تراقب حياة ثقافية مستيقظة. توقع أحياناً "طلحة" وتارة "طاجيم" وفي بعض الأحيان "واحد". كان " السحيمي" يراجع ما تكتبه، ويعيد لك ما كتبت لتعرف أين أخطأت. كانت الكتابة في تلك الفترة على أوراق طباعة الصحف. عندما تجد أن قلم "البيك" الأزرق الذي يستعمله "السحيمي" ضغط عليه الى حد أنه ثقب تلك الوريقات الرهيفة، تعرف أنك نرفزته باخطائك. عندما كان تروقه المادة يقول لك تحبباً" ممتاز يا ولد". او " هائل يا طلحة بيه". كنت تتعلم منه كل يوم. ليس فقط من الوريقات التي صححها بقلم "البيك"، بل كان يقول لك " لا تكتب مرة أخرى يعاني من مرض، بل أكتب" يعاني مرضاً" او "أرجوك ليس أكد على ضرورة، بل أكد ضرورة". تذكرت الكثير من التفاصيل، والمتحدثون يتحدثون. تذكرت مواضيع لملمها خيط الذاكرة المتشعب مثل غصن، وانت تسمع أحياناً وتعود الى ذلك الزمن أحيان كثيرة. أنتهى لقاء التأبين. حرصت ان تبقى الى حين خروج اثنين من اساتذتك، لتلقي عليهما التحية مودة واحتراماً وتقديراً. محمد العربي المساري، الذي سيتلقفك من السحيمي وتتحول معه الى "محرر سياسي". والدكتور مبارك ربيع الذي درسته عليه علم النفس في كلية الآداب. قال لك المساري "اين أنت؟ أنت اختفيت" سألت نفسك سؤالاً منطقياً. "هل صحيح انا اختفيت؟ وإذا كنت اختفيت فعلاً ترى أين". قال لك مبارك ربيع، الذي أدار لقاء التأبين" لو كنت أعرف أنك في القاعة لطلبت منك أن تتحدث". تواعدت مع عمر الدركولي ومحمد الحنتي على اللقاء في "مقهى مبروكة" ، ذلك المقهى المفضل لجميع من عمل في "العلم" قبل أن تغادر الصحيفة " شارع علال بن عبدالله" . جاء عندك إبراهيم نادل المقهى ولا احد سواه ، وهو يقول لك بلكنته السوسية المحببة" كالعادة شاي نغرو". كنت أقتنيت كتابين عرضا خارج قاعة التأبين كتبهما "عبد الجبار السحيمي". الأول " الممكن من المستحيل" والثاني " بخط اليد". قرأت كلمات"السحيمي" كما كتبها في زمن مضى. "إذا أوغل المساء في ظلام الليل، ولم اعد الى البيت، أيتها البنت الصغيرة الواقفة على الشرفة، بكتاب المطالعة الرشيدة والنحو الواضح باسئلتهما الملتبسة،لا تظني، أنني تعثرت في درج البارات، فأنا لا أحب أن أهرب همومي الى الأقبية، ولا أن اصادر محنة الوعي بإغراقها في متاهات النسيان المؤقت، وحبات الفاليوم المسكنة لندب الروح. فكي طلاسم أسئلتك بشجاعة. ...وأبحثي عني في مكان آخر". قرأت النص. قفزت دمعة الى المآقي.