الرجل لا يحتاج إلى أن تكتب عنه أو يكتب عنك فهو قد تجاوز منطق الكشف والاستكشاف.. مؤسس حقيقي للمقالة الصحافية ذات النفحة الإبداعية بدون منازع ، وكاتب قصة لا يشق له غبار ومما حرك فيه رغبة القصة مدينة الرباط ، هذه المدينة التي كانت ترعبنا في زمن ما. من يقدر على الرباط آنذاك .. ؟ سوى من كانت له مرتع المولد والمنشأ أو كان من أصحاب الوظائف المحترمة أو طلبة العلم أو خريجي « ليسي كورو» أو مدارس «محمد الخامس». أو الذين شاءت الأقدار أن ترمي بهم في هذه المدينة الأنيقة التي تتوفر على فضاءات؛ «مسرح محمد الخامس» «الفصول الأربعة» «باليما»، «جور نيوي»، حانة «الساتيام»، « بغداد»، «رونيسونس» وغيرها من الأماكن،التي كانت في رأي البعض ترقى إلى مستوى الإدمان والتقديس.. الأشياء الأخرى لم تكن تهمني بصفتي كشمالي زائر،كان يتردد على الرباط من أجل قضاء بعض الأغراض،أو شراء الكتب والمجلات التي لم تكن تصل إلينا في المدن الأخرى. عرفت القاص والإعلامي الكبير عبد الجبار السحيمي، من خلال محطات .. وهنا لا أريد أن تفوتني فرصة البوح، حيث إن التعرف على عبد الجبار لم يكن تعارفا حزبيا أو إبداعيا صرفا. بل تعرفي عليه كان يتم دوما من خلال الآخر. أي من خلال أصدقائه ورفاقه ومريديه. في مقهى «كولمبو» بمدينة وجدة. جالست الرجل، مع مجموعة من الأصدقاء وكانت المناسبة مجيئه مع الزعيم الراحل علال الفاسي،ربما من أجل مناقشة قضايا الحزب، أو إلقاء محاضرة عن النقد الذاتي أو قضايا أخرى، الحقيقة حسب ما علمت فيما بعد أن العلاقة بين الزعيم وعبد الجبار السحيمي علاقة خاصة. ربما ترقى إلى مستوى علاقة الابن بالأب .. إذا لم تخني العبارة. كنا نتحلق حول عبد الجبار.. لأنه كان يثير بعض الأسئلة التي تشدك إليه. لا شك كانت أسئلة تتعلق بالآني ..الى أن تأتي مرحلة أخرى أو لقاء آخر حين كان بمدينة أصيلة مع الكاتب الراحل عبد السلام الطريبق صديق عبد الجبار، الذي رثاه بكلمة جد رقيقة وقتئذ في مقهى pipi أيام «كارنا» أخت pipi قبل أن يتردد على المقهى بعض الكتاب ويسجلون يومياتهم ومذكراتهم عن هذا المقهى - الحانة . الذي كان يتميز بأكلة البايا الأكلة التي كان pipi يجيد إعدادها وطبخها. هذه المرة كان النقاش حول الصحافة، حول جريدة العلم والكتابة الإبداعية والكتابة بصفة عامة، وكالعادة، كان عبد الجبار يبتسم ويعلق بلغة دقيقة وراقية تصل حد بَدْل المزيد من الإنصات والتأمل.. والغريب في هذه الجلسة الحميمية لم يتطرق أي أحد أو يحاول النبش في ذاكرة وخيال الآخرين. تقدير المبدعين أمر لا جدال فيه، ولولا هذا الاحترام للإبداع والمبدعين، لما استمر العلم الثقافي قي الوجود. هذا الوجود الذي يثير أكثر من سؤال أو تساءل.. و جاء لقاء ثالث عندما نزل عبد الجبار السحيمي ذات مساء في فندق وادي المخازن بأصيلة ، مع مجموعة من الأصدقاء، كانت جلسة خاصة. اختلط فيها الكبير والصغير وكانت عبارة عن جلسة الأسئلة الشبيهة بالأسئلة الشفوية العابرة، حيث تطرق البعض إلى اتحاد كتاب المغرب والنقد وقصيدة النثر والكتابة النسائية وظاهرة السيرة الذاتية وأزمة النشر والقراءة وأخيرا البحر وسحر المدينة القديمة، التي تغازل بخصرها ماء المحيط وتسمح للزائرين بغسل عيونهم وضمائرهم المتعبة . في موسم 2001 ? 2002 حضرت مجموعة من الفعاليات وعلى رأسها اتحاد كتاب المغرب فرع أصيلة، لتنظيم لقاء خصص للكاتب والقاص المتميز إدريس الخوري.. أتذكر أنني كنت سعيدا جدا بهذا الحدث. من منا لا يحب هذا الكاتب، فهو متعدد المواهب إذا لم تحب فيه مرحه أو مزاجه، فقد تحب فيه ضحكته وقصصه، التي كتبها عن النماذج، التي كان يحب الكتابة عنها، خصوصا رواد المقاهي من المومسات البدينات، الكتاب النرجسيين، الشوارع الضيقة، الحانات وقت المطر، العلاقات الإنسانية ذات الحمولة السيكولوجية،التي تحتاج إلى قراءة خاصة تتعلق بذات الكاتب وتربيته ونشأته. فرحت عندما اعتلى الباحث الناقد يحيى بن الوليد المنصة،مرحبا باسم فرع أصيلة لاتحاد الكتاب، وببعض الفاعلين ببا ادريس الخوري،الذي يشكل إلى جانب المرحومين زفزاف وشكري، ثالوثا قدم خدمة جليلة إلى الأدب المغربي.. وأشار الناقد إلى إسمي. كان الكاتب عبد الجبار السحيمي ضمن الكتاب المشاركين في التكريم، عندما جاء دوره قام من مقعده قاصدا المنصة بخطوات بطيئة جدا وقال: لا يمكن أن أضيف شيئا، قبَلَ رَأسَ إدريس وَعَادَ إلى مَقعَدِهِ مَعَ الحُضُور. مساء وكعادة المسؤولين عن اتحاد فرع أصيلة، تم الاحتفاء بالكاتب المكرم على الطريقة الزيلاشية.. واختار الأصدقاء أن يكون فضاء القصبة.. الفضاء المناسب لهذا الاحتفال.. و أتذكرعن الحضور، بهاء الدين الطود، إدريس علوش، يحيى بن الوليد ، حسن بحراوي، سمير شوقي، مصطفى النحال، عبد اللطيف الطود، عبد اللطيف شهبون. وبعد الانصراف بدقائق معدودة، التحق بنا عبد الجبار السحيمي، كنت أتمنى أن تحضر بعض الأسماء لكنها كانت غائبة أو مغيبة إما عن حسن أو سوء نية . أنواع من السلاطة و من الأسماك، تختلف من حيث التحضير، ومن حيث الزمن، فلا يمكن أن يكون طبق السردين، سابقا على طبق الكامبا أو الميرلا .. المشروبات الحمراء و البيضاء، وكان النادل الظريف، يعرف كيف يضع الأطباق تلو الأطباق وكيف يختار الكؤوس، ومنفضة السجائر.. غنى علوش مارسيل خليفة وغنى إدريس «الصينية» وغنى بهاء أغنية من الطقوطوقة الجبلية وغنى بحراوي أغنية ل لطيفة رأفت.. طلبت من الجميع أن أقول كلمة في حق عبد الجبار ، قلت: إن ما يكتبه عبد الجبار في جريدة العلم يعتبر بمثابة التاريخ، إنه يكتب التاريخ الحقيقي، للمجتمع المغربي، وإن عموده بخط اليد.. محاولة فريدة لعقلنة المقال السياسي في المغرب . في آخر الجلسة أو وسطها أتذكر بالضبط أن الباحثُ الناقد حسن بحراوي طلب من الأستاذ عبد الجبار السحيمي أن يتحفنا بكلمة .. بالتأكيد لقد كان بحراوي يدري، أن الختام سوف يكون مسكا وهو كذلك.. تحدث عبد الجبار عن إدريس الخوري الذي لا نعرفه، كيف جاء إلى جريدة العلم، كيف كان يأتي إلى بيت عبد الجبار. كيف جحد بعض الإخوة مجهوداته الصحافية.. وقال: إن صيغة با ادريس، ليست صفة أو نعتا، بل يجب أن يرتبط بشخصه. نحن كنا نقول با ادريس، على سبيل التفكه لا غير... لهذا لا ينبغي أن يصبح اسما مضافا لاسم إدريس الخوري القاص والمبدع. وسكت عبد الجبار.. الذي أصبح يتردد على مدينة أصيلة ، حيث اختار الإقامة جنب المحيط. يقتعد هو وزوجته أمينة في مقهى منعزل بشارع الفيلسوف ابن رشد ليشرب الشاي أو الماء المعدني لابسا نظارته ذات اللون الأسود، يقرأ صحف الصباح، ويستمتع بزقزقة الطيور. في كتاب « أسئلة القصة القصيرة بالمغرب» ص 47 يقول الناقد المتميز محمد رمصيص في قراءته للمجموعة القصصية « المُمْكِن مِنَ المُسْتحِيل»: »إن الدارس لِمُتونِ القصة القصِيرة في هذه الحِقبَة يُصَادِفُ وَاقِعِيَات بصِيغَة الجَمْع تبْدَأ مِن الواقعية التسْجيلية وتمتد إلى حُدُودِ الواقعية السِّحْرية وبين هذين الحدين نُصَادِفُ وَاقعِيَة «المُمْكِن من المُسْتحِيل» واقعية مُرَكبَة: فهي بقدر ما تقدم الواقعَ رَمَادِيا وتعري جُرُوحَه تبشر بتغييره الوشيك أو لنقل بقدر ما ترْصُدُ مَعَالم البُؤس وتلتقطُ أعْطابَ المجتمع الحَّادَة تحتفظ لها بالهامش الانفِتاح على المستقبل والإفصاح عَنْ طاقات الذات الجَمْعِيَّةِ الكامِنة قصد إيجاد مَخْرَج لحالة الأزمة. وهي بكل هذا واقعية نقدِية جَامِعَة بين الملاحظة النقدية وطاقة المِخيَال الحلمية قصد الالتحامِ العَمِيق بالحياة..« ويخامرني إحساس، لا يمكن التستر عليه، هو أنني دوما، كنت أفكر أن اكتب عن عبد الجبار.. فهو خارج دائرة الكتاب المرضى بالكتابة، هو كاتب حقيقي. وربما .. وبدون تردد ، فان ما جاء في قراءة محمد رمصيص للمكن من المستحيل .. يعكس بصدق، إحساسنا أمام هذا الرجل، الذي يحتاج إلى كتابة لاحقة، تأخذ بعين الاعتبار.. الاختلاف والتعدد في كتابة القصة القصيرة عنده.. وكيف انتهى إلى التصوف لا كمُوضة أو كسلوك لاهُوتي بل كحَالة صَفاء وتأمل في قِيَّم الخَيْر. 25 نونبر 2009