حال الحول ودار الزمان، وها نحن نواري العام المنصرم، وتتوارى معه أحزاننا وأتراحنا وبعض أفراحنا ومآسينا، وها نحن نستقبل في ذات الوقت عاما جديدا ما زالت أيامه ولياليه في طيّ الكتمان والمجهول، سترى الوجوه وهي باشّة هاشّة ضاحكة، وترى القلوب وهي تخفق سعادة وهناءة وحبورا،وتلمع الأيدي وهي تمتدّ في شجون نحو أخرى لتصافحها مهنّئة إياها بانسياب حقبة من الزمان وزوالها وقدوم أخرى.كلّ المدن والحواضرالكبرى ستسبح في ثبج فضاء أثيري بهيج ، وأضواء النيّون ستنتشر في كل مكان، وسوف يستمرّ الظلام الدامس مطبقا في أماكن أخرى، الكثيرون منّا يجهلونها ، القليلون منا يعرفونها ..ستعاقر الكؤوس بعضها بعضا، ستنفرج الأشداق من القهقهات ، وتزيغ العيون ، وتتيه العقول، والكلّ ينتظر ساعة الصفر ، الكلّ يرقب منتصف الليل ، حيث تنطفئ الأضواء في كل مكان ،ويكون العناق تلو العناق الصادق الزائف.والدفء الزائد يتحوّل الى نار كاوية ، وتدور الصحون وتمتلئ البطون بالطعام المزّ، والشراب المرّ،والحديث ذو شجون،يفرحون ،يمرحون ،يصيحون ويهللون لهؤلاء الذين يلفهم البرد القارس الزمهرير ،ويغطيهم الثلج الصقيع المتكاثف،ويمزّق أوصالهم الطوى ، ويغلفهم البؤس، وتسكنهم الكآبة،هناك دائما فائض، هناك دائما زيادة ،هناك دائما تضخّم ،ولكن دائما ثمة بالمقابل عوز وخصاصة وفاقة واحتياج ، و قبض من ريح وهشيم ،و لفحة من برد لاسع،هناك كذلك شموع وقناديل على غرار شموع رأس السنة وقناديلها الخافتة،غير أنها تنقصها الزخارف والألوان فقط. قديما كانت الأسطورة تقول: إن البدائيين كانوا يبكون غياب الشمس ،وينتحبون سدول الليل،ذلك أن الليل يسرق منهم الضياء والدفء، ويطويهم تحت جبّته العملاقة الحالكة ، ويبتلع كل شئ..والآن ترى الناس يهللون لمقدم الليل، ويضجرون من النهار،ذلك أن الليل ساكن هادئ حالم سماوي لا قيظ فيه ولا حرّ ولا قرّ ، أين الحرّ والقرّ وهناك العديد من المدفآت والمراوح التى بمقدورهم التحكّم في حرارتها أو بردها حسبما شاؤو أوأرادوا،إنهم محقون في ذك لا ريب ،النهار ليس لهم، إنه للكادحين العسفاء الذين يعملون في الحقول، والمصانع، والمقالع، والمعادن، والمعامل، أما الليل فهو ملك لهم . أفرأيت إذن كيف انقلبت الآية.؟ أفرأيت الآن كيف أنّ الناس يتشاءمون من غياب النهار وأفول الشمس ويهللون لمقدم الليل؟،لقد كان» بودلير» يكره الليل،لأنه كان يشمّ فيه رائحة القبور وهو معذور على كل حال ، فهو فنان معنّى ومعذب لا يشاطر الناس شغفهم بالليل،إنه نقيضهم على آخر الخط، وهو يعي جيّدا ما يقوله ويعنيه. وهذا «طاغور»العظيم في « انتقام الطبيعة» نراه يؤكد أن انشطارالليل والنهار لا يهمّه،ولا انقسام الشهور والأعوام ،فعنده تيار الزمن قد توقف ، يرقص الزمن على أمواجه، والقش والأغصان،هو وحيد في هذا الكهف المظلم، منغمر في نفسه ، منهمك في ذاته،والليل الأبدي ساكن كبحيرة جبل تخاف عمقها نفسه ،الماء ينضح ويرشق ويقطر من الشقوق الناتئة، وفي البرك والترع تعوم الضفادع العتيقة ، هو حبيس ينشد ترتيلة اللاشئ...إنه حرّ. الكل يصيح ،ويرقص طربا ،ويضحك جذلا بفرحة العام الجديد،منتشيا ومغتسلا بغمرة( اقرأ بدل الغين خاء)انسياب الزمن وزواله واندثاره، فتنضح عنه أدران العام الآفل ومآسيه،ويستبشر بها خيرا في استقبال العهد القادم المهرول، ترى ماذا يحمل تحت جناحيه وأعطافه، وماذا يخفي في طيّاته وثناياه،الكل ينشد السعادة في عالم مشحون بالشقاء،البشرية ما زالت بخير ، قلّت الحروب وهدأت وخبا أوارها، ونمت واستشرت بالمقابل الفتن والقلاقل في مختلف أصقاع المعمور ،ما عدا في أماكن بعينها من العالم حيث لابد أن تظل فيها رحى الحرب الممقوتة تدور بثقالها وثفالها إلى أجل غير معلوم ..في تلك البقعة النائية من العالم حيث القوم الذين وهموا بالنصر يحتسون نخب العام الجديد في جماجم بشرية ، أنا وأنت وهو والآخرون يعرفون أين تقع هذه الأرض الطيبة ..إنها حيث يتسلل الصيادون بفخاخ البشر،وحشيتهم أحدّ من أنياب الذئاب،وكبرياؤهم أشدّ عمى من الآجام المظلمة، لننس أو لنتناسى قليلا ..هكذا يقولون كفانا تذمرا وتنطّعا وشكوى،فلنعانق،ولنعاقرولنحتف، ولنمح من ذاكرتنا كل شيء ولو إلى حين،ولنجعل بيننا وبين الأحزان والأشجان برزخا واسعا عميقا. الشاعر البدين (جسما) والرقيق (إحساسا) الذي عندما وضع يوما عماّمته وجبّته عن رأسه وبدنه وضع معهما كلّ همومه وأحزانه ،وأتته الجرأة، وجهر بحقيقة الموقف الفادح، فقد صاح ذات يوم والخلاّن يمرحون ويصيحون مهنّئين إياه : كلّ سنة وأنت طيّب يا سّى كامل ..صاح فيهم منشدا مغتمّا ،كئيبا حزينا : عدت يا يوم مولدي عدت يا أيّها الشقي الصّبا ضاع من يدي وغزا الشيب مفرقي كامل الشناوي كان صادقا مع نفسه ومع خلاّنه لحظة تقييمه ليوم مولده، فقد خالف الناس في عرفهم ،إّنه يتوجّس من هذا اليوم خيفة وهلعا ورهبة لأنه يعرف مدى فداحة الموقف بالنسبة له وللآخرين،فهو لم يخف وجهه في الرمال كما فعل غيره،بل إنه رفع رأسه واشرأبّ بعنقه عاليا ليدين الزمن الذى يدور ويدور حتى يصادف في دورانه يوم أن زجّ به في هذا العالم المشحون بشتّى ضروب العنف و العنت والشقاء والمعاناة . ولئن قرن الكلام هنا بعيد ميلاد شخص، فذلك لأن له ارتباطا وثيقا به ، وفيه معنى متقارب جدا بالنسبة لانقضاء عام وقدوم آخر ،هذا العام في الواقع هو بمثابة عيد ميلاد للبشر جميعا،ذلك أنهم يشتركون في الاحتفال والاحتفاء به جماعة في كل مكان، ففيه ترتفع الأهازيج وتعلو أصوات الشدو و الغناء، وكل هذه المعاني صلتها أقرب إلى الألم والحزن والأسى والشجن منها إلى الفرح والمرح والسعادة والحبور، ومع ذلك تراهم يتمادون في لامبالاتهم، ويتظاهرون بأنهم سعداء ...وقد يكون صنيعهم هذا من باب الانتقام واغتنام الفرص وعملا بنصيحة الخياّم في هذا القبيل :أن تمتّع بيومك قبل غدك،فمن أدراك أنك راء هذا الغد المجهول.أو من باب : الماضي فات والمؤمّل غيب ولك السّاعة التي أنت فيها إنه كلام يتناثر في الفضاء ،تماما كما تناثر في القديم كلام من بنى في أخيلته مدنا فاضلة ،وأقام فيها صروحا وقصورا ولكن ظلت العدالة فيها طائرا كسير الجناحين يحلق بالكاد حولها لا يشمّ سوى رائحة الظلم والعنت في كل مكان، واليوم لم يعد ثمة أناس من هذا النوع،فقد أصبحوا في عرف الآخرين شبيهين بالمجانين الذين يفنون أعمارهم في الأوهام والخيالات والترّهات التي لا طائل تحتها .بل ربما كان هؤلاء هم الذين يعانون أكثر من غيرهم مختلف ضروب البؤس والتعاسة والحرمان ،بعد ان كسدت أسواق الفكر الخلاّق، ونشطت حركات التقاليع الرخيصة في دنيا الفنون والجنون والمجون من كل ضرب،ربما كان هؤلاء أكثر حظا من أولئك في الحياة الرغدة. البشرية غزا الشيب مفرقها كذلك مثل شاعرنا المكلوم، وأضاعت عمرها في ويلات التقاتل والتطاحن والتشاكس والمواجهة والعداوة والبغضاء.لعل هذه الأمور تجعلنا نأسى ونتأسّى، و تبعث اللوعة والحزن والضنك في الأنفس،وظلم البشرية لا ينحصر في بني طينتها وحسب، بل إنه يطول الطبيعة ومختلف الكائنات الحيّة المحيطة به، فالإنسان هو الوحيد في عالم الأحياء الذي يقتل فقط للاستمتاع وإشباع رغبة الانتقام في نفسه الآمرة بالسوء، ومن ثمّ تلك المباريات المنظمة وغيرالمنظمة في عالم الصيد والقنص والطّرد ،ألا تراه في هذه الأيام مسرعا ومهرولا في الشوارع والأزقة والدروب، و فوق البسيطة وتحتها، وفي الفضاء والبحار والصحارى والقفار؟ ولعلّك سمعت عن حركات الطيران غير العادية والبواخر والسيارات والقطارات وسواها من وسائل النقل في جميع أنحاء المعمور في هذه التواريخ؟ فلو اطلعت على الأعداد الهائلة من المسافرين في هذه المناسبات لذهلت من الأرقام التي تنطق بها الإحصائيات في هذا القبيل .إنهم يتسارعون على غير عادتهم ،يقتنون الحاجيات والمأكولات والهدايا بشره ونهم وبدون حساب، ويجلبون شجيرات الصنوبروالأرز البريئة التي نحن في مسيس الحاجة إليها في هذا الطورالعصيب الذي تجتازه البلاد ، وتماشيا مع سياسة المحافظة على البيئة وصون الغابات والمحميّات الطبيعية، بل نحن في حاجة إليها لنستمتع بظلالها ،وبرونقها، وبهائها، وبساقتها، ونضارتها، وجمالها الخلاب . كم أنت قاس أيّها الإنسان، كيف تسمح لنفسك ؟ ويتمادى بك الغيّ والغرور لتتطاول وتتجنّى على الطبيعة أمّنا الأولى، وتقتل وتقتلع بغطرسة وتجبّر تلك الشجيرات اليانعة لتجعلها زينة وقتية في منزلك تغمرها بالباقات والبطاقات والأضواء والألوان ،لتطوف حولها وأنت ثمل عديم الإحساس بها وبما وبمن حولها في لحظات كان أجدر بك فيها تعميق فكرك فيما يدور حولك وحول العالم من رزايا وأهوال وويلات . الحضارة المعاصرة تحمل إلينا عشرات المفاجآت كل يوم ، فما كنّا نخاله بالأمس خرافة أضحى اليوم حقيقة ماثلة حيال أعيننا ،وهكذا لم نعد نفرق بين الأحداث حتى أصبحنا نؤرّخ لها بالأعوام ،فكما قال أجدادنا ذاك عام الطوفان،وعام الفيل ،وعام الهجرة، وعام المجاعة، وعام الفتح ،أصبحنا نقول نحن اليوم عام اندلاع الحرب الكونية، والعام الذي وضعت فيه الحرب أوزارها،وعام بلفور المشؤوم، وعام النكسة، وعام فضيحة واترغيت، وعام الصعود الى القمر، وعام مهازل ويكيليكس، وعام الربيع العربي... إلخ. فهناك من السنين ما تنطبع أحداثها في أذهاننا ووجداننا ولا نجد لها أو منها فكاكا،في حين أننا نمرّ بأعوام أو تمرّ بنا أعوام لا نقيم لها وزنا،وكأننا لم نعشها قط من أعمارنا ،قيمة هذه الأعمار أو الأعوام إذن تكمن فيما نقدمه فيها أو خلالها من أعمال،وما نؤتيه فيها أو تأتينا به من مفاجآت. ها نحن نقف على أعتاب عام جديد يحمل في طيّاته كثيرا من التوجّسات، والاستفسارات، والارهاصات، و الآمال والآلام معا،إنها لعبة الجدّ التي تبتسم في وجه هذا وتكشّر في محيّا ذاك، حتى تفضل فيه العين أختها، أو يكون فيه اليوم لليوم سيّدا. وأنت أيّها العام المنقضي ،لقد ودّعنا فيك ومعك بألم ممضّ صفوة من أصدقائنا وأحباّئنا وخلاننا ومعارفنا ممن كنّا نتعايش معهم ،ونقيم بينهم علائق حبّ ووشائج مودّة. فواحسرتاه عليك أيها العام النكد ... وتبّا لك أيتها الأيام،لقد تأسّى من قسوتك وفداحتك السابقون، وها أنت ما فتئت تنوئين بكاهلنا، وتثقلين بكلكلك علينا، و تتوالين منثالة مهرولة، تنهبين أعمارنا نهبا مخيفا،وتعصفين بحياواتنا عصفا مريعا، ومع ذلك نظلّ نأمل ونحدّق في السماء كأننا نستعطفها أمرا في كنه أنفسنا،وألسنة حالنا وأحوالنا تردّد في مطلع الحول الجديد مع «آغا ممنون» الخائب الرجاء: ليت هذا العام يأتي بالضياء ليت هذا اليأس يتلوه الرجاء *غرناطة الحمراء عند آخر رمق عام 2011 *سفير مغربي سابق