خلص القسم الأول من «مسألة القيم» إلى أن ما أصبح يسمى ب»الحراك» إنما هو حركة تعكس بالأحرى انفصاما خاصا في الوعي، ما بين آليات نمط سوسيو-اقتصادي جديد، فيه للفرد المدني مكانُ الصدارة، ومضامين فلسفة تربوية تنتمي إلى مجتمع نمط سوسيو-اقتصادي آخر هو في طريق الانقراض، وكان فيه للجماعة (الأسرة، العشيرة) مكان الصدارة. أما القسم الثاني فقد بين أن الفلسفة البيداغوجية لتلك التربية في الوسط المغربي خاصة، قائمة تاريخيا، ولا تزال، على أساس حفظ الكلام و»الفرمولات» حفظا يجرده عن قيم المعاني التي يفيدها بمقتضى الوضع، والتي عليها تنبني قيم الحقيقية الواقعية والمنطقية والأخلاقية، التي تنبني عليها بدورها قيم التعامل والانخراط والالتزام والمحاسبة في المدينة. وتم بيان أن المقابل الفعلي لبيداغوجيا وثقافة الحفظ، هو ثقافة تنمية مهارات الإنشاء، التي تتمثل في التمرين على تدبيج الكلام بشكل منقطع عن الواقع وعن مسؤولية القول. وقد انعكست هذه الثقافة على الخطاب السياسي، وعلى حالة السياسة في نهاية الأمر، حيث أصبحت الكلمة هناك أيضا محض لغو مجرد عن المعنى، لا ارتباط فيه للمقال بالمقام وبمقتضى الحال، ولا يترتب عليه، بسبب ذلك، أيّ التزام أو تعاقد؛ فتشابهت تسميات الأحزاب، وتماثلت خطاباتها وبرامجها. وهو ما جرد السياسة في النهاية من فضائلها في باب التأطير في المدينة، بسبب أنه لا يترتب على عدم الوفاء بمضمون ورقة إنشائية معينة من «البرامج السياسية» لا استقالةُ مسؤولٍ ولا إقالته، ما دامت المسؤولية غائبة منطقيا وثقافيا- تربويا وأخلاقيا قبل أن تكون غائبة قانونيا من خلال معمارية دستور معين. وبفقدان السياسة لفضائل التأطير، برز ما يعرف اليوم ب»الحراك». كل هذا يفضي إلى إعادة طرح المسألة السياسية من أسسها الأخلاقية المرتبطة أساسا بدور فلسفة التربية في بناء الوعي. وفي هذا الباب يقول مانديلسون: ((... ولذلك فليس جديرا بالدولة أن تنصّب نفسها كهيئة ضميرية مفعِّلة وضامنة لكل الواجبات الأخلاقية للفرد، محوِّلةً هذه الواجبات الفردية جميعا من دائرة الوازع الداخلي إلى مجال صلاحيات حقّ عامّ [تضبطه الجزاءات المدنية للجماعة]. فالإنسان إنما يشعر بقيمته الخاصة حينما يقوم بفعل كثير من أوجه الصلاح (...) انطلاقا من وازعه وإرادته؛ أما عندما يفعل أي وجه من أوجه الصلاح العام أو يتجنب وجها من أوجه الفساد لمجرد أنه مجبَرٌ على ذلك، فإنما يشعر بما يشكله حصولُ ذلك الصلاح وتجنب ذلك الإفساد حينئذ من إكراه خارجي.)). ((فالقوانين والتشريعات لا تغيّر المعتقدات. والعقابُ والتوابُ التحكّميان لا يولّدان أي مبادئ، ولا يهذبان أي أخلاق. فالرهبة والرغبة ليستا مقياسا لحقيقةِ الحالةِ الأخلاقية لطوّية الإنسان. المعرفةُ وحْدَها، وإعمالُ النظر، والإقناع، يمكن أن تؤسس المبادئ، التي من شأنها - في تكامل مع دور السلطة ونماذج مُثُل الاقتداء - أن تتحول إلى قيم أخلاقية مستبطنة [لا تحتاج في تنزيلها في السلوك إلى قهرية سلطة خارجية، حسيةً كانت أم معنوية])). ذلك ما يسميه مانديلسون ب»التشبع بروح الحرية» حينما أشار في مكان آخر إلى اختلاف الاستعدادات التاريخية للأمم في بابه، حسب «مستويات التهذيب الثقافي» التي تبلغها كل أمة، عبر مضامين التربية العامة، في ما يتعلق بأنظمة الحكم الملائمة. وهو يستعمل ذلك المفهوم بالمعنى الحقيقي ل»التشبع»، أي الحالة التي تصبح فيها قيمُ مفهوم الحرية مقوّما من مقومات الوعي الفردي الذي يعطي للحياة معنى ويجعلها جديرة بأن تعاش، بما تتطلبه من سعي ونصَب وتدافع، وليس مجردَ شعار لفظي سياسي يُستعمل في لحظات ضعفِ دولةِ الاستبداد أو الحكم المطلق، حيث تُخاض باسم ذلك الشعار، وباسم كثير من ألفاظ المبادئ الأخرى، حربٌ تتنازع في الواقع وفي الحقيقة من خلالها نزوعاتُ الاستبداد المتمكنة في العمق من سائر الفرقاء، الذين يجرؤ كل فريق منهم، في مثل تلك الأحوال، على الحاكم المستبد، بِنيّة الحلولِ مكانَه، رافعا فيها مثلا شعار: «الشعب يريد إسقاط الاستبداد». وفي هذا الصدد، يردّ مانديلسون نظرية هوبز في فلسفة الحكم باعتبارها مجرد رد فعل فكري غير عقلاني. فهو يرى أن تلك «النظرية» صادرة لدى هوبز عن مجرد حيثيات ظرفية معينة عايشها هذا الأخير شخصيا، وليست صادرة عن تصور عقلاني مبدئي لأسس الحق الطبيعي، فقال مانديلسون: ((لقد عاش توامس هوبز (Thomas Hobbes) في فترة كان فيها التعصب المقرون بمفهوم مشوَّه للحرية لم يعد يعرف حدودا، وكان فيها ذلك التعصب مستعدا ليعرك السلطة الملَكية تحت الأقدام، وليقوّضَ مؤسسةَ المُلك برمتها. وإذ كان هوبز قد سئم من استشراء الفتنة المدنية، وهو الميّال بطبعه [كمفكر] إلى حياة تأملية هادئة، فقد اعتبر الهناء والسلامة [المدنيين] أعظم أوجه الخلاص والسعادة [في المدينة]، بقطع النظر عن كيفية حصولهما. وهو يرى أن هاتين المزيتين، لا يضمنهما إلا وحدةُ غير منقوصةٍ لأعْلى سلطةٍ في الدولة [أي سلطة الحاكم]. فهو يعتقد، إذن، بأن رفاه وسعادة الحياة العامة لن يكونا إلا أحسنَ حالا، وأكثر ضمانا حينما يصبح كل شيء، بما في ذلك أحكامُنا [الفكرية] حول الصواب والخطإ، خاضعا للقوة العليا للسلطة المدبّرة للشأن العام في المدينة. ولإضفاء المشروعية على ذلك، يفترِض هوبز أن الطبيعة قد جعلت الإنسانَ ميسَّرا ومستعدا لكل ما حبَتْه تلك الطبيعةُ القدرةَ على القيام به أو الحصول عليه [أي قانون القوة]. فحالُ الإنسان باستعداداته الطبيعية تلك، هي حالُ قلاقلَ وحروبِ الجميع ضد الجميع؛ حيث يمكن لكل واحد أن يفعل ما له القدرةُ على فِعله. وقد استمرت هذه الوضعيةُ غير السعيدة [حسب هوبز] إلى أن تواضعَ الناسُ على وضع حد لشقائهم بالتنازل عن الحق والقدرة [الفرديين] كلما تعلق الأمر بسلامة الحياة العامة، وبوضْعِ كِلا تينك الملَكتين في يد السلطة المؤسَّسة القائمة. وبناء على ذلك، يصبح كل ما تأمر به السلطة هو الحقّ وهو الصواب)). إن الوضع الذي وصفه مانديلسون بدقة في حديثه عن الظروف التاريخية الخاصة التي دفعت بهوبز إلى التنظير لأوجه الاستبداد، يكاد يتطابق مع بعض أوجه ما يسمي اليوم ب»الحراك» في أكثر من ساحة وميدان. فما هو موقع طبيعة الأخلاق عامة في تلك الأوساط، ما بين أخلاق الوازع الداخلي وأخلاق الخوف من قوة خارجية أو انفراط ذلك الخوف؟ تلك القوة الخارجية التي يمكن أن تفرض الوصاية والولاية على ضمير الفرد، فتنتهي بالحلول محله، هي سلطة الجماعة، متمثلة حسب الفضاءات، في سلطات الأسرة والمدرسة والدولة في المدينة، والدائم الديّان في نهاية الأمر كما تصوره نوعية التربية الدينية في فضاءات تلك السلطات الثلاث الأولى. إن الأخلاق المبنية على ثقافة يتم فيها تتفيه قيمة الكلمة والكلام في باب التعاهد والالتزام من جهة، وعلى مجرد مفعول الخوف والطمع في باب الانضباط من جهة، هي ما يترجمه المثل المغربي الستيني-السبعيني، الذي كان يقول في باب التجمع، تجمهرا كان أم «حراكا»، وفي ظل مفهوم السلطة في ذلك الوقت وبأساليبه في ممارستها: «كا يْجمْعها بْندير، وتفْرّقها زرواطة». وإذ يتأرجح ذلك النمط من الأخلاق، بالطبع دائما، ما بين سلوك المنافقين، وأخلاق العبيد، فإن كل حالة يتصور فيها الفرد غيابَ الرقيب، إنْ واقعياً وإنْ وهْما، مفضيةٌ بالطبع إلى انفكاك قيود نزعات الشر في غياب الوازع الداخلي؛ بحيث إن تخفيف مفهوم السلطة وأسلوب ممارستها، لسبب ما، أو لغاية ما، دون أن تواكب ذلك تقويةٌ ثقافيةٌ لمفهوم الأخلاق كشأن داخلي مقره الضمير، يُفضي بالضرورة إلى انبعاث ما عُرف في فترات من تاريخ المغرب مثلا بحالة «السايبة». فالسلطة، برموزها وبوسائلها القهرية، يمكن من الناحية المبدئية أن تختفي من فضاءات كثيرة؛ ولنمثل لها بفضاء تنظيم السير. فهذه الوظيفة السوسيو-اقتصادية يوكَل ضبطها وتنظيمها في بلدان كثيرة إلى مجرد نظام تشويري وإليكتروني من الإشارات المرئية؛ بينما يتطلب ذلك في بلدان أخرى وجودَ شرطة بهراواتها، تجلِد المخالِف في عين المكان، بدل أن تحرر له محضَرا. فكذلك الفعل المدني عامة والفعل السياسي؛ إذ لا تكفي النصوص والسلطة لضبطهما في اتجاه قيمة معينة؛ وإنما يساعد ذانك المقومان على صياغة ودعم ما رسخته مضامين فلسفة التربية من قيم أخلاقية. فإذا ما انتقلنا من مثال سلوك المرور والسير إلى مثال سلوك آلية الانتخابات، التي ظلت لحد الآن جوهر مفهوم العمل السياسي في المغرب، نلاحظ أن الخطاب السياسي يختصرها اليوم في معضلة «شراء الذمم» و»الحياد الإداري السلبي»، بعدما كانت تُختصر في «التزييف الإداري» من طرف «الحزب السري». فإذا كان هناك من يشتري الذمم، فلأن هناك من يعرضها للبيع؛ وكلا الفعلين وجه من أوجه عملة قيمة أخلاقية واحدة. وإذا كان «ميثاق الشرف لمنع المفسدين» الذي دعت إليه وزارة الداخلية الأحزاب يوم 10 فبراير 2011 يترجم وعيا بالأساس الأخلاقي، قبل الدستوري والقانوني والإداري، للمعضلة السياسية، فإن السؤال المطروح هو ما إذا كان بالإمكان إصلاح الأخلاق على مستوى السلوك السياسي بمعزل عن إصلاحها على مستوى مضامين القيم التربوية، المبنية لحد الآن على ثقافة الخوف والطمع وتتفيه الكلمة؟