إن سُنة الوفاء والعرفان تحتم علينا المساهمة في الحفاوة بأصحاب المواهب الفريدة، وذوي العطاء المرموق، ممن يعدون علامات بارزة على طريق المعرفة والإبداع في الأدب ومختلف الفنون، حتى يدركوا أن لهم مكانة متميزة وحقا خاصا عندنا. من هنا جاء الاحتفاء بأخينا الأعز أحمد بلحاج آية وارهام، الإنسان الرائع، والمبدع الكبير صاحب الموهبة المتوقدة، والعطاء الوفير الجميل، والثقافة الأصيلة الرفيعة، وأحد الرموز المشعة في ثقافتنا المغربية المعاصرة. إن الحديث عن أحمد بلحاج آية وارهام ، هذا الاسم الإبريزي، حديث محبب إلى النفس والقلب. فمنذ عرفته عن قرب، بداية السبعينيات من القرن الماضي، عرفت فيه الإنسان المنطوي على تواضع وأدب جمين، وعلى قلب محب للحياة والبشر. فهو آية في الوداعة والدماثة منذ صباح وجوده. كلما أطل عليك، أحسستَ أنه آت للتو من لقاء كان بينه وبين سيِّدي محيي الدين بن عربي. لم يتزلف صاحبنا، أبدا، لأي مؤسسة حزبية أو إعلامية لتتبنى مشروعه الإبداعي والفكري، كما اعتصم بها غيره عندنا، بشكل مفضوح، طمعاً في التكريس والشهرة الزائفة وأضوائها المختالة. لقد آثر، هذا الصوفي النبيل، أن يقيم في عزلته الذهبية المبصرة التأملية الذوقية، منشغلا باحتراقات الكتابة المبهجة ومكابداتها اللصيقة بالذات المبدعة الأصيلة. كانت عزلة ثمينة اختارها مبدعنا من أجل التزود المثمر العميق من التراث الإنساني قديمه وحديثه، إبداعيا وفكريا. من ثمَّ جاءت تلك النماذج العليا المدهشة التي حفرت لنفسها وبنفسها مجرى متميزا عميقا في شعرنا المغربي/العربي المعاصر. جعلتنا نفخر به مبدعا فذاً، ونفخر بها منجزات إبداعية أصيلة متفردة. كما كان من نتائج ذلك الاعتزال الخلاق، تلك الأبحاث البالغة العمق والثراء والإفادة، في مجالات الفكر الصوفي والمعمار والتشكيل ، بالإضافة إلى كتاباته المتألقة المفتوحة على متون رموز شعرية مغربية وعربية. لقد استطاع بالكفاءة العالية، والخبرة الطويلة، والمعرفة الواسعة المتنوعة، أن يجرب الكتابة في أكثر من مجال، وكان فيها مجيدا؛ بحيث لا يستطيع منصف أن يتجاهلها، أو يُقلل من قيمتها، هي الجديرة بالقراءة والتأمل والدراسة والاستقراء. منذ سبعينيات القرن العشرين وإلى الآن، قدم الشاعر المبدع أحمد بلحاج آية وارهام لديوان الشعر المغربي والعربي مجموعة من الأعمال الشعرية اتسمت بالصدق والعمق والخصوصية والجماليات الفنية، هي التي احتلت مكانا خاصا في وجدان محب الشعر الجيد الأصيل، وعند الباحث المختص النزيه، ووضعت شاعرنا، بكل المقاييس، في مصاف أهم شعراء الوطن العربي. لقد جاءت متونه الشعرية الباذخة لتؤكد على أهمية وقيمة الإضافة إلى الشعر لا استهلاكه، وعلى ضرورة البحث عن جوهر الشعري قبل المسارعة في منح وصف الشعرية بحكم الأقدمية أو التاريخية . فلا أحد يمتلك توكيل الشعر، كما أنه لا يفض مكنوناته سوى العارفين بخبيئته والواصلين إلى جوهره. لقد أكد شاعرنا الفذ على جدية مشروعه الشعري، ودأبه الإبداعي الخلاق وتمايزه وتميزه . هو الذي سعى، منذ البدايات، إلى نفض الشعر من تهافته الكاسح الذي نراه في تشابه الأعمال، واعتيادية الأداء ونمطيته، وفي المغامرات الشكلية المبتذلة التي لا تمنحك شيئا. وبهذا المسعى، وغيره كثير، خرج شاعرنا عن سرب الجموع المتشابهة ، وصنع قصيدته/ قصائده بحرقة وإخلاص وحذق وتفرد. إن قراءة جادة لمتونه الشعرية الفاتنة تستطيع، حتما، أن تكشف عن الكثير من أسرارها ومزاياها. فهي حافلة بالشعر الحقيقي المتوهج بالأصالة والخصوبة والمقدرة، مثقلة بالإيحاءات والإشارات المفتوحة على روافد متعددة من التراث الإنساني. ولأن الشعر الحقيقي تعبير عن ذات ، فقد كانت الذات المبدعة حاضرة بقوة في هذه المتون، غير أنها لم تحاصر أو تقيد نفسها، بل كانت منفتحة على الآخر الإنساني بكل تجلياته. لقد حرص شاعرنا أحمد بلحاج على تصفية قصائده من كل ما ينغص أجواءها من غموض مصطنع وألغاز، وتداع لا يخدم حركتها، واعتنى أصلا بما هو شعري، وبما هو جوهري في شعريتها. تعد الصوفية منبعا من منابع الإبداع الإنساني، وذلك بسبب الغنى الفكري الذي يرتكز عليه الصوفي في تقصي المعاني العميقة والفريدة للكون والإنسان، وهي من ملامح التفكير الإبداعي الإنساني الأولى. إن الصوفي يلجأ إلى الكتابة لتحقيق الوجود، والتعبير عنه، وللإشارة إلى ما يمر به من حالات، وهذه الحالات تضيق اللغة العادية البلاغية عن استيعابها، من هنا كانت المحاولة دائما إما بالرمز ، وإما بلطائف الإشارات. الكتابة الصوفية تعبير عن الذات، عن دروبها العميقة ، التي تعجز الكتابة العادية، كما قلنا، عن تناولها أو التعبير عنها أو إدراكها. الكتابة الصوفية، كذلك، ذروة التعبير عن التجربة الإنسانية بصدق، ولأنها قمة الصدق فقد كانت صادمة لمن لا يفهم، ولمن يتمسك بالقشور، ولا يسعى للمغامرة بالغوص إلى الأعماق ، واقتحام لجة الشوق والتمكن. في التعبير الصوفي تحد للأشكال المستقرة، واقتحام لآفاق الخيال التي لا تحد ، وهو أيضا عين الجرأة والنفاذ إلى لب الحقيقة. التصوف كانت له اليد الطولى في إنقاذ القصيدة العربية المعاصرة، مما بلغته على يد أدعياء الالتزام والوقائعيين ، من مألوفية لغتها وآلياتها الجامدة وأفكارها المعروفة مسبقا. كان له الفضل، أيضا، في أنه فتح آفاق الماضي على المستقبل وأعطاها إمكانية التعبير عن إحساس الشاعر المعاصر ب « وحدة الوجود» ، ورعشة اللغة البكر ومعالم النفس المنفتحة على الغامض والغريب والمستعصي على المنطق والمضاد للنثر. وكان للتصوف بوحدة التجربة فيه بين الانفعال والسلوك والتصور وبين اللغة العالية بمقوماتها الجمالية وحساسيتها المتوترة وجرأتها الفريدة ، دور هائل التأثير في هذا الشعر، دون أن ننسى، كذلك، توظيفه للشخصيات الصوفية التي أصبحت أقنعة مهمة في شعر صلاح عبد الصبور وأدونيس والبياتي ومحمد عفيفي مطر، وغيرهم. لقد كانت التجربة الصوفية في شعرنا المعاصر جرأة واقتحاما ومراهنة. إن ما سبق ذكره هنا، لا يمنعنا من الإشارة إلى أن العديد من الكتابات الشعرية المعاصرة التي تضمنت المصطلح الصوفي، كثيرا ما قدمت شعراء متطفلين على جلال معناه دون الفهم لمغزاه . فليس كل من قرأ كتابا من كتب المتصوفة أو مقالا عن أحدهم، أو حفظ بعض مقولاتهم ، أغنته عباراتهم عن إشاراتهم. غير أننا ، وللإنصاف ، نقول ليس على كل من استخدم المصطلح الصوفي في بعض قصائده، ممارسة التصوف، إنما نقصد أن التصوف لا يفهم فهما كليا عن طريق البصر دون الغوص بعين البصيرة ، كما أنه ليس من حق هؤلاء المتطفلين ادعاء ما ليس لهم به علاقة عشق. عنّت لي هذه الخواطر، وأنا بصدد قراءة مجموعة من القصائد/الإشراقات المبهجة لشاعرنا أحمد بلحاج آية وارهام، الذي يعتبر التصوف من مكوناته ومكنوناته، بل يمكن القول بأنه استغرقه استغراقا كاملا، فاتخذه ممارسة حياتية وإبداعا وبحثا، مما بوَّأه لأن يعتبر أحد الشعراء الرائعين والباحثين اللامعين في هذا المجال. لذا سيكون من العسير، حتما، في هذه الشهادة، الشديدة الإيجاز، التطرق إلى معظم مظاهر الصوفية التي تزخر بها مدونته الشعرية. لكن هذا لا يمنعنا من الإشارة فقط، إلى بعض الجوانب منها تلك المتمثلة في الآتي: أولا : استخدامه للغة حافلة بالإشارات والرموز ، لغة ثمينة شديدة الولوج في عالم الإيحاء، كثيرا ما نأت عن المستهلك والمبتذل والسائد من التراكيب ، لتشتغل بمهارة وحذق كبيرين، على صياغة عالم شعري مثقل بالرؤى والدلالات والأخيلة. ثانيا : استفادته من كشوفات شيخه الجليل ابن عربي، في عالم الحروف ، لما لها من دلالات وخواص وأسرار عند تركيبها وانفرادها. ثالثا : اشتغاله على تعددية دلالة المصطلح الصوفي الذي هو انعكاس للتناقض الإنساني. فزيادة على ما لها من قيمة فنية وجمالية، فإن فيها روحا وجودية لها علاقة بالماورائية. من هنا كان للشعر الصوفي دلالته الثرية ، لأن هذه الدلالة تقوم أساسا على التأويل. من دونِ صَوْتٍ أو إشارَهْ أُكلِّمُ الأشياءْ تلكَ التي أمواجُها مِرآتي، عن حَجَرٍ أنشقُّ ضَوءاً أو رذاذاً أو فَرَاشاً. أستميح هذا الحجر النفيس الكريم عذراً، وأنا أقف بخشوع أمام هذا المقبوس الشعري المشع المدهش الذي اخترته اعتباطا من بين عشرات مثله. أستميحه عذراً لأقول، هذه واحدة من اللحظات القليلة في شعرنا المغربي التي أشعر فيها بشرارة الشعر تخترقني. هذا غاية ما يمكن أن يصنعه بنا الشعر الأصيل المتوهج بحرارة المعاناة الحقيقية ونبض القلب الإنساني النبيل، لذلك أهرع لأعلن أنه لا يزال بيننا في هذا الوطن، شعراء رائعون مثل شاعرنا الكبير أحمد بلحاج آية وارهام، المنتمي إلى ذلك القليل الثمين الذي أغرقته الكثرة الزائفة مما يسمى (قصائد)، تطل علينا بها الجرائد والمجلات والدواوين، ويحتفى بأصحابها، ويحصل بعضهم وبعضهن، بدون وجه حق ولا مُساءلة ، على جائزة الشعر سنويا عندنا. إنني أشفق على هؤلاء جميعا، أشفق عليهم وعليهن أمام هيبة وجلال هذه النصوص المدهشة التي يظل عنصر السحر هو القاسم المشترك الأعظم بينها. إن هذه الكرامات الشعرية الخلاقة، هي التي تحرضني وأمثالي، على التأمل والإصغاء والتساؤل ، وهي تقذفنا في أتون الدهشة الآسرة، فمعها يستعيد الكلام الشعري الحقيقي ما فاته عند غيره، وهم كثر. لقد حافظت عندي العديد من متون شاعرنا الأعز، على توهج دهشة قراءتي الأولى لها، نفس التوهج بقي متصاعدا بعد كل قراءة جديدة ، هي التي أدامت تحريضها لي واستدراجي لقراءتها وتأملها مرات عدة، وهذا الاستدراج لا يحدث لي عادة إلا مع التجارب الشعرية المتميزة بعوالمها الإبداعية البالغة الثراء والخصوصية، ومقاماتها المدهشة.