مكن اللقاء الدراسي الذي عقدته لجنة الشؤون الاجتماعية لحزب الاستقلال قبل أيام من التداول بعمق في آليات تعزيز البعد الاجتماعي في القانون المالي برسم السنة المالية 2011، وتجاوزت التحاليل التي قدمها المتدخلون والحاضرون في إطار المناقشة البعد الوطني، لتخضع القراءات المقدمة حول القانون المالي وتجلياته الاجتماعية السياق الاقليمي الذي يعرف توترات لم تتضح بعد رواسيها، واعتبرت بعض التدخلات أن ما شهدته بعض المناطق إقليميا هو من إرهاصات الأزمة الاقتصادية التي تولدت عن أزمة الغذاء منذ سنة 2007 بسبب التحول المهول في أسعار المواد الأساسية والمواد الطاقية، هذه المعطيات الرقمية تعاملت معها الدول باستراتيجيات مختلفة ولم تستطع دول التغلب عليها حينما كما هو الشأن بالنسبة لإسبانيا أو على المدى المتوسط كما هو شأن اليونان. أما بالنسبة للمغرب، فكان السياق الاقتصادي صعبا بحكم الفاتورة الطاقية التي تثقل كاهل الميزانية السنوية، وكما جاء على لسان عبداللطيف معزوز في إطار عرضه «التوازن الاجتماعي في القانون المالي، دعامة قوية لتحقيق العدالة الاجتماعية، كانت جل التحذيرات تصب حول الأزمات الاجتماعية والتي بدأت بوادرها في الصين حاليا. وكان من القرارات الحكومية الصائبة الاستمرار في دعم الأوراش الكبرى ودعم الاستثمارات العمومية التي كانت تتضاعف كل سنة لتصل في السنة الماضية إلى 168 مليار درهم، وذلك الوعي بدورها في توفير مناصب شغل تفوق 200 ألف - موازاة مع ذلك قررت الحكومة وشجاعة أن ترشد تفقات التسيير لتوجه المبالغ المتوفرة نحو دعامات أخرى فضلا عن بلورة مخططات واضحة رقميا وزمانيا تهم كل القطاعات بما في ذلك الطاقة والصيد البحري والسياحة والصناعة التقليدية والتجهيزات التحتية. واعتبر عبد اللطيف معزوز أن البعد الاجتماعي حاضر بقوة في كل القطاعات وفي كل قرار حكومي، لذلك فإن الجانب الاجتماعي في الميزانية يشغل 68 في المائة، ويمتد من دعم الصادرات إلى التخفيف الضريبي على الأشخاص والشركات والمقاولات الناشئة، وإلى إعفاءات السكن الاجتماعي والقطاع الفلاحي، البعد الاجتماعي ينعكس كذلك في مبادرات فك العزلة عن القرى، والربط بالشبكة المائية والكهربائية وتقريب الخدمات سواء على مستوى التعليم أو الصحة أو النقل. ولم ينف عبد اللطيف معزوز التأثر بالأزمة الاقتصادية على غرار باقي الدول، وهذا دفع الحكومة إلى بذل مجهود مالي كبير للإبقاء على التوازنات وامتصاص حجم الإرهاق الذي قد يصيب الأسر، فشكلت لجنة يقظة لمتابعة كل التطورات والتدخل في كل الميادين لتحقيق التوازن الاجتماعي والقطاعي والمجالي. وهكذا تم تسريع تأهيل المؤسسات الاستشفائية الجامعية خاصة في وجدة ومراكش وإقرار المساعدة الطبية وتحسين متابعة وضعية الأمهات والرضع، وذلك بفضل رفع ميزانية الصحة ب 48%. وفي قطاع السكن تم تنويع المنتوج السكني لضمان السكن اللائق للطبقات ذات الدخل المحدود والطبقات الوسطى ومحاربة السكن العشوائي والصفيحي وبالموازاة مع ذلك تم رصد صندوق القروض وضمان القروض لتسهيل العملية التمويلية بالنسبة لذوي الدخل المحدود. أما على مستوى التعليم فقد عرف معدل التمدرس ارتفاعا ملحوظا فاق 90 في المائة، بينما تقلص معدل الهدر المدرسي والأمية. وختم معزوز عرضه بالقول إن التقارير الدولية أكدت أن الناتج الداخلي الخام تضاعف مرتين خلال ست سنوات فيما يعرف الدخل الفردي السنوي للمغاربة ارتفاعا سنويا بمعدل 6.3 في المائة. وأكد نزار بركة في تدخله تحت عنوان «دور صندوق المقاصة في حماية القدرة الشرائية» أن هذا الموضوع كان في صلب البرنامج الانتخابي لحزب الاستقلال انطلاقا من قناعاته الاجتماعية والاقتصادية لذلك كان له الحضور والصدى الكبير في التصريح الحكومي وفي عمل الحكومة الائتلافية من أجل دعم إمكانيات المواطنين والتحكم في الأسعار. وانطلق نزار بركة في تقديم السياق التاريخي للصندوق ودواعي إنشائه، موضحا قائمة المواد المدعمة حاليا من طرف المقاصة حتى لا يكون خلط لدى المواطنين وهي غاز البوتان والسكر والدقيق فيما المواد الأخرى مثل الزيت والزبدة والحليب والقمح الصلب فهي محررة وغير مدعمة، مضيفا أن برميل البترول اليوم يساوي 116 دولار والغاز 900 دولار للطن وكان 400 دولار حين تولت الحكومة دواليب تدبير الشأن العام، أما السكر الخام فهو يبلغ 720 دولار كما في السابق، والقمح اللين 360 دولار عوض 180 دولار. ولمواجهة آثار هذه الزيادات تم ضخ 109 مليار درهم بين 2008 و 2011 وذلك حتى لا تباع المواد بكلفتها الحقيقية (السكر 12 درهم، والغازوال 10,30 درهم) وترهق الإنفاق الأسري، وأوضح أن الحكومة تعي هذه الضرورة لكون مثلا عددا من الخدمات مرتبطة بالمحروقات في مقدمتها نقل البضائع ونقل المسافرين والنقل الجماعي وسيارات الأجرة. كما اتخذت الحكومة قرار دعم الفيول الموجه للكهرباء بخفض كلفة الفاتورات وذلك بمقدار 3 مليار درهم، وبذلك فإن كل كيلواط من الكهرباء يستهلكه المواطن يؤدي عنه صندوق المقاصة 14 سنتيما. أما باحتساب سعر الغاز الدولي حالي فإن قنينة الغاز ستباع اليوم ب 132 درهم عوض 42 درهما، وتطبيق هذا السعر الحقيقي سيبلغ 13 في المائة من دخل الأسر. ولا بفضل هذه السياسة سجل المغرب معدل تضخم في الأسعار ب 2 في المائة في وقت سجلت تركيا 7 في المائة وإسبانيا 4 في المائة ومصر 18 في المائة وإيران 44 في المائة، فكان الضغط على مستوى الأسعار بالمغرب نسبيا. إلى ذلك تناول نزار بركة النقاش الذي دار حول صندوق المقاصة وموقعه، حيث كانت أصوات تنادي بحذفه متجاهلة تبعات هذا الإجراء على المستوى الاجتماعي، وحتى استدلالها باختلال في الاستهداف يتأكد اليوم أنه غير منطقي بحكم ما تعرفه بعض البلدان من اضطرابات اجتماعية، موضحا أن إلغاء صندوق المقاصة يعني إضعاف الطبقات الوسطى، وفضلا عن صعوبة تحديد معايير الفقر، وحتى إن نجحت العملية على حد تعبيره فإن عملية الدعم المباشر للفقراء ستشوبها ثغرات ولن يتوصل المعنيون بحقوقهم وأبانت دراسات أن إمكانيات مواجهة كلفة المعيشة ضعيفة ف 20 في المائة من الأسر تتقاضى أقل من 1930 درهم، و 40% تتقاضى أقل من 2892 درهم و 60 في المائة أقل من 4227 درهم بينما 2.5 في المائة من الأسر تتقاضى 20 ألف درهم. ووفق هذه المعطيات، وانسجاما مع الفكر التعادلي لحزب الاستقلال غلب منطق إصلاح اختلالات صندوق المقاصة وتحسين الاستهداف، والتحكم في الغلاف المالي. وعمدت الحكومة في إطار التحكم في الغلاف المالي للمقاصة إلى تقليص الدعم للفيول الصناعي من 50 في المائة إلى 25 في المائة (مليار درهم) وحذف معامل الملاءمة الخاص بمستوردي المحروقات (800 إلى مليار درهم). وعلى مستوى الدقيق المدعم اتضح أن حصة الثلثين توجه للمدن وثلث للبوادي، وفي إطار الإصلاح استفادت 443 جماعة لأول مرة من الدقيق المدعم، وتم تقليص الدعم لأرباب المطاحن ب 300 مليون درهم، فيما الإصلاح جارٍ مع وزارة الفلاحة والمكتب الوطني للحبوب لمسك سجلات بأسماء المتدخلين وإقرار دفاتر تحملات المجال وتفادي الزبونية والاحتكار والتلاعب في الدقيق المدعم. هذه الوفورات، مكنت من تمويل برنامج تيسير حيث تتقاضى الأسر 60 إلى 140 درهم لكل متمدرس حسب المستوى الدراسي، وحاليا تستفيد من هذا البرنامج 270 ألف أسرة تتقاضى في المتوسط 200 درهم شهريا. وحسب بحث أجراه معهد ماساتشوستس الدولي، فإن المؤسسات التعليمية التي يوجه إليها الدعم في إطار تيسير عرفت تقليصا في الهدر ب 60% بينما عرف معدل التسجيل 12 في المائة بدل 2 في المائة فضلا عن مساهمة هذا البرنامج في إنجاز بطائق التعريف الوطنية لأولياء أمور المستفيدين، ومن المنتظر أن يتم استهداف 400 ألف أسرة السنة المقبلة. وعلى مستوى الصحة، فسيتم تمويل تلقيحين جديدين ضد أمراض الصدر والبطن والمسؤولة عن 60 في المائة من وفيات المواليد، كما ستقوم الحكومة بتقديم دعم مالي للأمهات في البوادي قصد إجراء فحصين إلى ثلاثة فحوصات خلال فترة الحمل سيصل 600 درهم، إضافة إلى تقديم مبلغ 50 درهم كل شهر في حدود ثلاثة أطفال (150 درهم) لإجراء التلقيحات والتتبع الصحي والتغذية وذلك إلى حدود 15 سنة، وسيلغى من هذه الاستفادة مؤدو الضرائب على الدخل والموظفون والأجراء والمسجلون في صندوق الضمان الاجتماعي. واعتبر عبد السلام المصباحي كاتب الدولة في التنمية الترابية في مداخلته التوازن المجالي في القانون المالي أن المدخل المجالي أساسي لمعالجة أية تنمية سواء كانت مختلة أو متوازنة، مضيفا أن الميزانية ترجمة مالية مرقمة لسياسة الدولة في جميع القطاعات لبناء مشروع مجتمعي، وإحدى آليات هذا البناء هو التوازن المجالي، ومن منطلقه ينتفي المجال غير النافع، على اعتبار المؤهلات الطبيعية والبشرية التي تزخر بها كل المناطق المغربية والتي تستثمر بشكل سليم في وجود المشاريع والتجهيزات والإنصاف الاجتماعي. وتحدث بإسهاب عن أهمية التنافسية بين المجالات كمقوم أساسي لجلب الاستثمار والمساهمة في استفادتها من الدورة الاقتصادية مؤكدا الدور الهام للحكامة الترابية والحكامة المؤسساتية في إنجاح كل سياسة مجالية، إضافة إلى أهمية التعاقد بين الجهة (بمجالاتها المتعددة) والدولة لإنجاز مشاريع مندمجة وضمان الانتقال من منطق الوسائل إلى منطق حسن الأداء، وإعمال اللاتمركز في التخطيط وفي التسيير وفق المنهج الذي اختارته الدولة والمتمثل في الجهوية الموسعة. وقال إن الحكومة خصصت اعتمادات مالية مهمة للمخططات المعتمدة سواء في الماء (19 مليار درهم) أو الطاقة (27 مليار درهم) أو الصيد البحري (829 مليون درهم) أو الميثاق الوطني الصناعي (3 مليار درهم) أو الصناعة التقليدية (600 مليون درهم) أو المغرب الرقمي (ملياري درهم).. بينما رصد غلاف 70 مليار درهم منذ 2008 للعالم القروي، وسيتعزز هذا البرنامج بمخطط تنمية الواحات. وأكد أن التضامن المجالي تحققه برامج الطرق والطرق السيارة والسكك الحديدية والموانئ والأقطاب الصناعية، ليتطرق بعد ذلك إلى إكراهات دعا إلى ضرورة تجاوزها مثل مركزية إعداد الميزانية وغياب إجراءات تعزيز اللاتمركز وهيمنة التصور القطاعي في المالية بدل الأفقية والاندماجية. وفي سياق المناقشة عبر عدد من المتدخلين عن موقفهم الرافض لخطاب العدمية الذي تحاول بعض الجهات ترويجه سعيا إلى الحيلولة دون إدراك المواطنين بمختلف المنجزات والمبادرات الإصلاحية التي تنهجها الحكومة، مؤكدين في ظل جيوب المقاومة ضرورة أن يؤدي النجاح ضريبته فيما لم تؤد السياسات الفاشلة السابقة التي أورثت المغرب تراكما سلبيا لايزال يجتر إلى اليوم أي ثمن. وثمن المتدخلون المبادرة الحكومية لإدماج حاملي الشهادات داعين إلى ضرورة التفكير في صناديق لدعم المتضررين من البطالة والضغط على القطاع الخاص للالتزام بالقوانين المتعلقة بالأجور والتشغيل، ومنح الأراضي الفلاحية المسترجعة إلى مستحقيها وتحريك الأموال المودعة في الأبناك أو المجمدة لدعم الدينامية الاقتصادية، والرفع من مردودية التعليم والتعليم العالي بما يتناسب مع متطلبات الشغل في المستقبل. من جانبها أوضحت نعيمة خلدون رئيسة لجنة الشؤون الاجتماعية في ضوء هذه المعطيات أن هناك استهدافا جليا للشأن السياسي من زاوية القضايا الاجتماعية، وأن حزب الاستقلال ومن باب تعاقده مع المواطنين الذين منحوه الثقة في الاستحقاقات وبناء على المنهجية الديمقراطية سيظل يعمل على دعم جوانب الاستقرار الاجتماعي والتصدي لكل المناورات التي تسعى إلى الوقوف عند أخطاء الماضي التي لا يتحملها حزب الاستقلال لطمس المنجزات، مضيفة أن حزب الاستقلال لا تنقصه الشجاعة لممارسة نقد ذاتي حول التعثرات، وهو ما يمنحه مصداقية الخطاب الذي قدمه قبل تولي مسؤولية التدبير الحكومي وبعد تدبير شؤون المواطنين لمواصلة الإصلاحات الهيكلية وتوفير المناخ للمبادرة الخاصة. وأكدت في ظل المتغيرات الإقليمية الخصوصية الوطنية حيث لم يتوقف الحراك السياسي في المغرب بفعل الانفتاح والتعددية وبناء المؤسسات، ويبقى الرهان الحقيقي تمنيع المجتمع من محاولات الرجوع به إلى عهود الانتكاسات.