أعرف تضاريس القاهرة أكثر مما أعرف طبوغرافيا الرباط، وأقل مما أعرف تطوان في الفترة ما قبل السبعينيات. أعرف ميدان التحرير كما أعرف ساحة الفدان. عاشرت خمس حالات على الأقل عرفها ميدان التحرير في القاهرة، على مدى أكثر من أربعة عقود، فقد كانت معرفتي الأولى به عندما كان محطة مبعثرة للحافلات التي تسير في كل الاتجاهات، تعجّ بجمهور من الركاب، وتختلط فيها الحافلات بالسيارات وبعربات اليد وبالراجلين، قبل أن يعاد تخطيط الميدان لتعزل محطة الحافلات في زاوية محصورة، وقبل أن تزرع في قلبه النباتات في تنسيق جميل، وتقام الحواجز الحديدية التي تمنع الراجلين من العبور بشكل فوضوي. وقليل هم من كان يلتزم بهذا النظام المروري. ثم عرفت الميدان لما بدأت فيه أعمال حفر الأنفاق لمرور المترو، وكان يبدو يومها وكأنه ساحة حرب، حيث كان الركام والغبار وآلات الحفر الضخمة تجعل المرور في أرجائه الواسعة صعباً للغاية. ثم استقرت الأوضاع في الميدان، بعد الانتهاء من أعمال الحفر، وأصبح المترو جاهزاً للاستخدام. عندئذ أطلق على محطة مترو الأنفاق التي تنطلق من قلب الميدان، اسم (محطة أنور السادات)، في حين اختير اسم (محطة حسني مبارك)، لتلك التي تنطلق من ميدان رمسيس المحاذي لمحطة القطار التي تحمل عنوان (باب الحديد)، بينما اختير اسم (محطة جمال عبد الناصر) لتلك التي تنطلق من وسط شارع 26 يوليو الذي كان يحمل اسم شارع فؤاد. ولمن لا يعرف دلالة هذه الأسماء، أقول إن يوم 26 يوليو 1952، هو التاريخ الذي غادر فيه الملك فاروق ميناء الإسكندرية مطروداً، على باخرة تحمل اسم (المحروسة) في الاتجاه نحو إيطاليا، بعد قيام الانقلاب العسكري بثلاثة أيام. ولذلك كان الحرص على أن تنطلق (محطة جمال عبد الناصر) للمترو من الشارع الذي كان يحمل في العهد الملكي اسم شارع فؤاد، والد الملك فاروق، وهو من أكبر الشوارع وأجملها وأكثرها رواجاً وامتلاءًا بالمحلات التجارية الأنيقة وبالعمارات الجميلة، وفيه يقع مبنى (دار القضاء العالي) المهيب، الذي يضم محكمة النقض. أما اختيار اسم حسني مبارك لمحطة رمسيس، أكبر محطة للقطارات في مصر، فلأن رمسيس كان أحد كبار فراعنة مصر، وكان في وسط الميدان تمثال ضخم له، نقل قبل سنوات قليلة، في موكب احتفالي رسمي (نعم موكب رسمي)، من الميدان إلى المتحف الجديد الذي يقام حاليًا في الطريق الصحراوي الرابط بين القاهرةوالإسكندرية. وكان الرمز هنا واضحاً للغاية؛ فحسني مبارك هو حاكم مصر، ولذلك كان لابد من أن يختار اسمه للمكان الذي تنطلق منه محطة المترو التي تبدأ من ميدان رمسيس. أما اختيار اسم أنور السادات لمحطة ميدان التحرير، فله دلالة أعمق حسب رأيي. ذلك أن الرئيس محمد أنور السادات، هو أول حاكم مصري ينتصر في الحرب ضد العدو الأجنبي. فقد حقق في حرب أكتوبر/رمضان سنة 1973، أعظم نصر عرفته مصر في تاريخها، بل عرفه العرب في تاريخهم المعاصر. ولذلك اقترن اسم السادات بتحرير الأرض المصرية من الاحتلال. ومن هذا التحرير جاءت شرعية تعيين الفريق أول (الجنرال) محمد حسني مبارك، قائد القوات الجوية في حرب أكتوبر، نائباً لرئيس الجمهورية في سنة 1976، لأنه كان بطل تلك الحرب إلى جانب السادات، وهو المنصب الذي فتح له الباب لتولي منصب رئيس الجمهورية، بعد اغتيال السادات في 6 أكتوبر سنة 1981. لهذا اختار الرئيس حسني مبارك هو الذي اختار وليس غيره أن يطلق اسم (أنور السادات) على محطة مترو الأنفاق في وسط ميدان التحرير قلب العاصمة المصرية. وهذا الوصف ليس مجازاً؛ لأن أهم مرافق الدولة المصرية تقع بالقرب من هذا الميدان. تسير أقل من مائتي متر في شارع القصر العيني، فيواجهك مجلس الشورى الغرفة الثانية، ثم مجلس الشعب البرلمان، وتنحرف عن يسارك، فتجد وزارة الداخلية أمامك. وفي أقصى الميدان من الجنوب، يوجد (مجمع التحرير)، وهو أضخم مرفق حكومي في مصر، تتجمع فيه المكاتب الحكومية لمختلف الوزارات الخدماتية، ومنها وثائق السفر والهجرة والجوازات، وكأنه القلب النابض للوطن. أما في وسط الميدان، على اليمين، فيوجد المتحف المصري، الذي هو ذاكرة الوطن ومستودع التاريخ الحضاري لمصر، ويقع في مبنى ضخم مهيب. وعلى جهة الغرب، يطالعك فندق (النيل هيلتون) الذي شيد في منتصف الستينيات ليعقد فيه مؤتمر القمة العربي الأول، كما شيد (فندق فلسطين) في وسط حدائق قصر المنتزه في الإسكندرية، لعقد مؤتمر القمة العربي الثاني الذي يفصله عن الأول شهور معدودة. تطل الجامعة الأمريكية على ميدان التحرير، التي كان جزء منها في الأصل، مقراً لجامعة القاهرة التي كانت قد تأسست في سنة 1908، بمبادرة شعبية، وبتبرع كريم من الأميرة فاطمة ابنة الخديوي إسماعيل، وعرفت عهدئذ باسم الجامعة الأهلية، ثم تحولت إلى جامعة فؤاد الأول سنة 1923، لما أصبحت تابعة للحكومة المصرية، وانتقلت إلى موقعها الحالي في الجيزة غرب النيل. جامعة الدول العربية ليست ببعيدة، فهى تطل مباشرة على ميدان التحرير. وليس هذا هو المبنى الأول لها، لأن هذه المنطقة كانت مقراً لثكنات الجيش البريطاني التي كانت تمتد إلى حيث يوجد اليوم المقر الفخم العريض للحزب الوطني الديمقراطي (هل أقول الحاكم؟). الجدير بالذكر أن هذا المقر هو نفسه الذي كان مقراً للاتحاد الاشتراكي الذي حكم مصر في عهد جمال عبد الناصر، وفي المرحلة الأولى من عهد أنور السادات. في الجهة الغربية من ميدان التحرير، في مقابل جامعة الدول العربية، يقع المبنى القديم لوزارة الخارجية، في قصر ضخم رائع البنيان جميل المظهر، وإن كان ينطبق عليه المثل الذي يقول (يذهب الزين ويبقى حروفه). في هذا المبنى الذي يكاد يكون مهجوراً، بعد انتقال وزارة الخارجية إلى البناية الضخمة الفخمة الجميلة على كورنيش النيل، قريباً من مبنى الإذاعة والتلفزيون، زرت منذ سنوات، الدكتور أسامة الباز، المستشار السياسى للرئيس حسني مبارك ورئيس مكتبه منذ أن كان نائباً للرئيس السادات. كان الدكتور أسامة الباز (وهو شقيق العالم الكبير الدكتور فاروق الباز، مدرب رواد الفضاء الأمريكيين، وابن أحد مدرسي الأزهر الشريف)، منعزلاً بنفسه في هذا المبنى العتيق، ولكنه كان ممتلئاً حيوية ونشاطاً ومتفتح الذهن إلى أقصى حد، ومتواضعاً لدرجة لافتة تبعث على عظيم الاحترام. وبدا لي عند التأمل، وكأنه لم يكن راضياً عن الأحوال في بلده، في تلك الفترة من منتصف التسعينيات. السفارة الأمريكية والسفارة البريطانية ليستا بعيدتين من ميدان التحرير، فأنت إذا سرت جنوباً مئات الأمتار، لقيت أمامك في حي (جاردن سيتي) الذي كان أحد أرقى الأحياء في أرقى عواصم العالم السفارة الأمريكية أولاً، ثم تليها السفارة البريطانية، وهما قريبتان من كورنيش النيل. ويوجد قريباً من المنطقة على كورنيش النيل أيضاً، وبالقرب من كوبري (الجسر القنطرة) قصر النيل، فندق سميراميس، وفندق شبرد الذي كان قد احترق في سنة 1952 يوم احتراق القاهرة الذي صادف حفل عقيقة الأمير أحمد فؤاد، الابن الوحيد للملك فاروق (25 يناير 1952) وارث عرش أسرة محمد علي باشا بعد أن تنازل له والده عن العرش. وبجوار فندق شبرد، يوجد مبنى وزارة التجارة الخارجية. وليس بعيداً من هذه المنطقة، يوجد جامع عمر مكرم المطل على الميدان، والذي عادة ما تقام فيه جلسات العزاء. كما يوجد في الميدان كراج عمر مكرم المكون من أربعة طوابق تحت الأرض، وفي وسطه حديقة عامة يتوسطها تمثال عمر مكرم الذي كان قائداً شعبياً في الحرب ضد جيش نابليون الذي احتل مصر في سنة 1798، وضد المماليك، وهو الذي وطد الحكم لمحمد علي باشا الذي أساء إليه فيما بعد، حتى مات مغضوباً عليه. ويتفرع عن ميدان التحرير أهم شوارع القاهرة، منها شارع طلعت حرب، الذي كان يعرف عند تأسيس شوارع وسط البلد في القرن التاسع عشر في عهد الخديوي إسماعيل، على يد المهندس الفرنسي الذي خطط باريس الجديدة، بشارع سليمان باشا (الضابط الفرنسي الذي عمل مع محمد علي باشا وأسلم، وهو الجد الأعلى للملكة نازلي والدة الملك فاروق التي تنصرت أثناء إقامتها في الولاياتالمتحدةالأمريكية في سنة 1950). ويؤدي هذا الشارع إلى ميدان طلعت حرب، وينتهي عند شارع 26 يوليو، وفي وسطه تتقاطع شوارع قصر النيل، ومحمد محمود البسيوني، والقصر العيني، ورمسيس، والتحرير. ومن شارع طلعت حرب تتقاطع شوارع محمد فريد، والفلكي، والبستان، وعبد الخالق ثروت الذي يوجد في نهايته، عند ميدان الأوبرا حيث تمثال إبراهيم باشا ممتطياً جواده، المقر السابق لمكتب المغرب العربي، يوم كان للمغرب العربي مكتب في القاهرة. ويوجد عند مدخل ميدان التحرير من الشمال، ميدان الشهيد عبد المنعم رياض، الذي يقام في وسطه تمثال لهذه الشخصية التي استشهدت في حرب الاستنزاف سنة 1969، وكان صاحبها رئيساً لأركان الجيش المصري. وهذا الميدان الذي يمر من فوقه كوبري سادس أكتوبر الذي يعبر النيل في الاتجاه إلى الزمالك والجيزة، وبجواره توجد الجهة الخلفية الشمالية للمتحف المصري، يفضي إلى فندق هيلتون رمسيس القريب جداً من مبنى ماسبيرو، الذي يطلق على مقر الإذاعة والتلفزيون الذي يقع في شارع يحمل اسم ماسبيرو عالم الآثار الإنجليزي الذي أسس المتحف المصري في سنة 1902. وهذا الشارع الطويل يمتد على كورنيش النيل، وتظلله الأشجار العالية، مما يضفي على المكان جمالا ً أخاذًا، خصوصًا في المساء وعند هبوط ظلام الليل. فمقر الإذاعة والتلفزيون يبعد عن ميدان التحرير بأقل من مائتي متر. وهي المسافة نفسها تقريباً، التي تفصل بين الميدان وبين مجلس الشعب ومجلس الشورى ووزارة الداخلية. ومن هنا تأتي الأهمية القصوى لميدان التحرير. بل تأتي خطورة ما يجري الآن في هذا الميدان، على حاضر مصر وعلى مستقبلها، إن لم أقل على مستقبل العالم العربي. وكان ميدان التحرير يعرف في العهد الملكي بميدان الإسماعيلية، ليس نسبة إلى مدينة الإسماعيلية، بل نسبة إلى من سميت هذه المدينة باسمه، الخديوي إسماعيل حفيد محمد علي باشا مؤسس المملكة المصرية في سنة 1805. لأن في القاهرة أحياء تحمل أسماء (العباسية)، نسبة إلى الخديوي عباس حلمي، و(التوفيقية)، نسبة إلى الخديوي توفيق. فلما جاء العسكر إلى حكم مصر، غيروا اسم (ميدان الإسماعيلية)، إلى (ميدان التحرير), وكانت عبارة (التحرير) من المفردات الأثيرة التي جاء بها الانقلاب العسكري، بحيث أطلق على أول تنظيم سياسي للانقلاب اسم (هيئة التحرير)، ثم جاء بعدها تنظيم (الاتحاد القومي)، فحزب (الاتحاد الاشتراكي) الذي منه انبثق الحزب الوطني الديمقراطي. وهذه الأسماء تعبر عن التحولات السياسية التي عرفها نظام 23 يوليو. ثم أطلق على محافظة (عمالة) جديدة اسم (مديرية التحرير). وكانت عبارة (مديرية) هي التي استبدلت بها فيما بعد عبارة (محافظة). وأنشأ العسكر مجلة تنطق باسم النظام الجديد بعنوان (التحرير). هنا تتداخل الجغرافيا بالتاريخ. ولكن ماذا عن الواقع الحالي في مصر؟. ماذا عن هذا العالم الصاخب الهائج المائج المثير للدهشة والاستغراب (وللحيرة وللرعب أيضاً) الذي يتجسد الآن في ميدان التحرير؟. أشهد صادقاً، أن فهم ما يجري هناك متعذر؛ لأن الحالة تستعصي عن الفهم. شاهدت أمس العالم المصري الأمريكي الدكتور أحمد زويل، يتحدث في مقابلة أجراها معه مبعوث قناة (البي.بي.سي) العربية في القاهرة. كان الرجل الذي حصل على جائزة نوبل في الكيمياء، والذي يشغل منصباً رفيعاً (بالمعنى الفصيح، لا بالعامية المصرية) في إحدى أرقى الجامعات في الولاياتالمتحدةالأمريكية، يتحدث بهدوء وبثقة بالنفس، وبعبارات موزونة رصينة، تختلف إلى أبعد الحدود، عن العبارات التي يتحدث بها مدمنو الظهور في الفضائيات على كثرتها، خصوصاً في الفضائية إيّاها. قال إن الرئيس حسني مبارك قدم خدمات كبيرة لبلده لا تنكر، وأن المطالبة بأن يتنحى عن الحكم فوراً، ليست مسألة شخصية، بل هي قضية وطنية، لأن الوطن أكبر من أي قائد، ولأن المصلحة العليا للوطن تقتضي أن يتنحى، وأن يعامل عند التنحي بشرف، وأن ساعة واحدة يتأخر فيها عن اتخاذ القرار الجريء المناسب، تزيد من تعقيد الموقف ومن خطورة الحالة. أثق في الدكتور أحمد زويل، فهو رجل حكيم. وقليل هم الرجال الحكماء في هذه المرحلة. هامش لا بد منه : كتبت هذا زوال يوم الخميس الماضي ، قبل الإعلان عن تنحي الرئيس حسني مبارك بثلاثين ساعة . وكان ينتابني رعب مما يحدث في ميدان التحرير . و الآن و قد وقع الزلزال العاصف ، أخشى من التوابع و التداعيات ... ومن الغد . لن أطمئن على مصير مصر ، إلا بعد سقوط شرعية 23 يوليو . لا بد من البدء من 25 يناير ليصبح هو العيد الوطني المصري .