لا نعدِمُ من تاريخِ البشريّة محاولاتٍ صادقةً لاستنباتِ الخيرِ بين الناس تكفّل بإنجازِها بعضُ الفلاسفة والعلماء والأديان والأدباء، وقد ظلّت قليلةَ الحضورِ في ما وصلنا من أخبار، وأمّا أغلبُ هذا التاريخِ، فدماءٌ دماءٌ. كان العنفُ في بداياتِه ذاتيًّا تلقائيًّا يُنْجزُ خارج دائرة القيمِ، وينهضُ على ضرورةِ دفاعِ الإنسان البدائيّ عن نفسِه بجميع حاجاتها الحسيّة والمعنويّة ممّا يتهدّدها من مخاطر الحيوان وتوحّش أخيه الإنسان والتسارعِ إلى التفرُّدِ بالأشياء، ولعلّنا نُلفي في قتلِ قابيل لأخيه توصيفًا بديعًا لتلك البدايات العنيفة من تاريخنا الإنسانيّ ما يزال أثرُه العنيفُ متواصِلاً بين الناس إلى الآن في التسمّي بالقاتل والإعراضِ عن اسم القتيلِ. وخلال كلّ هذه المرحلة كان العنفُ يتزيّا أزياءَ الضرورةِ الوجوديّةِ، إذْ كان الأحياءُ الذين يمارسونَه يرَوْن فيه سبيلَهم إلى البقاءِ دون النظر إلى مَنْ سيموت جرّاء ذلك. *** في مرحلة تاليةٍ من تاريخ البشر صار العنفُ جماعيًّا مُتعمَّدًا يقوم على تكنولوجيا تقتيليّة مستهدفًا بسطَ نفوذِ شعبٍ على آخر وامتصاصَ دَمِه الحضاريِّ وثرواته الماديّةِ وإكراهَه على تبنّي أنماط فكريّة ومعيشيّة معيّنة واستعبادَه بل وتدجينَه تحت يافطاتٍ عديدة منها نشرُ العقائد والتحريرُ والحمايةُ والدّيمقراطيّةُ. وهي مرحلة عرفت فيها البشريّة فلسفاتٍ في التقتيلِ ومناهجَ في الإذلالِ متنوّعةً صار بمقتضاها العنفُ وسيلةَ التواصل الفُضلى بين الشعوب. وما يزال هذا النمط من العنف مستمرًّا إلى الآن تعاني بمقتضاه البشريّةُ ويلاتٍ وويلاتٍ تنقلها الفضائياتُ على المُباشرِ دون أن تسيلَ لمرآها دموعُ المُشاهدين لانصبابِها عليهم صباحَ مساءَ. *** والظاهر أنّ تطوّرَ مجلوبات العلمِ وسرعةَ حركةِ المعلوماتِ وتوفُّرَها لدى جميع ساكنات الأرضِ، ومجّانيتُها الظاهرةُ أحيانًا، كلّها أمورٌ عجّلتْ بظهور عُنفٍ جديدٍ تخييليٍّ، طريٍّ، وشامل يستثمر طاقاتِ الرمزِ الإيحائيّةَ التي تنضح بها مواردِ المعرفة النفسيّةِ ووسائل العيش وتقنيات الموضة وعلوم الصّورةِ وميكانيزمات التخييل والتمثيل لدى الإنسانِ لإصابته في جوهرِه وخلخلةِ يقينياتِه ودفعه إلى الجنونِ. وهو عنفٌ لا يدّعي أحدٌ من الناس عدمَ الوقوعِ تحت طائلته مهما نوّع من أسباب حصانته لأنّه منتشر في جميع الأفضية وجميع الأوقات، وقابل للتكاثُرِ في مدلولاته والتلوّن في أنماطِ تجلّيه.