"حين يلتقي أهل العلم والفكر في الظروف العادية من أجل بحث واقع الأمة، ومن أجل بناء تصورات متكاملة عن مستقبلها الراشد، فإن ذلك اللقاء لا يكون إلا مفيدا ونافعا بما يتيحه من تشخيص للواقع ومن كشف عن كافة الاختلالات والأخطاء التي من شانها أن تحول دون النهوض بتكاليف الشهود الحضاري ومتطلباته كما حدده الله للأمة سمة وجودية ووظيفة إنسانية تؤديها لغيرها من الأمم" د.مصطفى بنحمزة 3- غياب ثقافة إسلامية عميقة قادرة على التأصيل الشرعي للسلوك، وعلى تنزيل الأحكام على الواقع. مما لا شك فيه أن أنواع السلوك الفردي والجماعي هي نتاج نوعية الثقافة المجتمعية السائدة؛ فبقدر ما تكون المضامين الثقافية متحضرة ومتسامحة، تتوفر في المجتمع قدرة فائقة على امتصاص الاختلاف وعلى استيعاب المخالفين، وبقدر ما يكون المضمون الثقافي ضيق الأفق حسير الرؤية متشبعا بفكرة المؤامرة تكون السلوكات متشنجة وصدامية. وقد ظلت المجتمعات الإسلامية في فترات وعيها الحضاري على مستوى ثقافي تواصلي رفيع وشيق جعل غير المسلمين ينجذبون إلى نموذجه، ويختارون العيش في فضائه، فسمح لهم ذلك بترقية ملكاتهم ومواهبهم ومداركهم، فكان من غير المسلمين في دار الإسلام تراجمة وأطباء وصيادلة وأدباء وفلاسفة وغيرهم. وقد كان المسلمون قادرين على نسج علاقات تراحمية أوثق فيما بينهم بموجب الترشيد الإلهي الذي وصف المسلمين بأنهم رحماء بينهم ولم يكن التراحم مجرد شعار، وإنما كان أصلا تفرعت عنه أحكام فقهية للفعل الاجتماعي المحقق للرحمة. وقد مرت الأمة بعد الصفاء بمراحل من الاكفهرار والخصومة لدواع كثيرة، أهمها تدني المستوى المعرفي، وتدخل الأغيار في رسم العلاقات بين المسلمين وانخفاض درجة الأحساس بخطورة الأفكار التفكيكية التي قذفت بها الغنوصية والوثنية والشعوبية وكل التيارات الناقمة على الإسلام. وقد دب الاختلاف إلى صفوف المسلمين وتمزقت وحدتهم الفكرية بفعل التحيز السياسي وإن تبدى في مسوح دينية وفي صورة دفاع عن قضايا إسلامية. وفي خضم هذه المرحلة الحرجة ظل علماء الأمة متيقظين محذرين من إذكاء شرارة الاختلاف الذي يقدم نفسه للناس خلافا فكريا وثقافيا ليستقطب منهم أكبر عدد، لكنه سرعان ما يستحيل خلافا سياسيا. تتشظى به الأمة خدمة لمشاريع لا تعدل في مجموعها ما أضاعته الأمة من وحدتها وسلامتها. لقد أثر عن بعض علماء السلف تحذيرهم الشديد من الاشتغال بخلافات الفرق ومن إظهارها للمجتمع على نحو ما يؤثر عن الإمام أحمد أنه عتب على الحارث بن أسد على أنه اشتغل بمناقضة آراء الفرق بالرد عليها، لأن ذلك الاشتغال قد نبه إليها وفتح العيون عليها. تبعا لهذا التوجيه فقد ظلت مقولات كثير من الفرق والطوائف حبيسة كتب متخصصة، هي كتب تاريخ الفرق وكتب المناظرات والجدل، ومادتها لا تشكل جزءا من الثقافة العامة التي تؤطر ذهنية المجتمع. لقد أتقنت الأمة الإسلامية إدارة الاختلاف وأوجدت لنفسها مساحات كبيرة للالتقاء والتعاون، فتعايشت الطوائف متسالمة في الغالب، ومحافظة على آرائها وتصوراتها. إن الواقع الثقافي للأمة يثبت أن الناس كانوا يقرؤون لكثير من العلماء والأدباء المنتمين إلى طوائف كثيرة من غير أن يلقوا للانتماء بالا أو يولوه أهمية. وقد حفظ الناس أشعارا الشعراء الشيعة وتغنوا بها من أمثال الكميت الأسدي ودعبل الخزاعي، وكثير عزة، والشريف الرضي وغيرهم، وتغنى الناس بأشعار الشعراء الخوارج من أمثال قطري بن الفجاءة، وعمران بن حطان، وعيسى بن فاتك، والطرماح بن حكيم، وغيرهم... وفي كتب العلم تتردد روايات أفراد من الطوائف المأمونين على الرواية والمعروفين بعدم توظيف مروياتهم لخدمة مذاهبهم، وقد تتلمذ المسلمون على علم أبي الأسود الدؤلي وهو شيعي، وقرأ الناس كتب ابن جني والجاحظ وكتب الزمخشري وغيرها من مصادر المعرفة مع ان أصحابها منسوبون للاعتزال أو التشيع. ولم تعش الأمة حالات الاحتكاك والصدام إلا لمراحل معينة عجزت فيها عن تطويق الاختلاف ومغالبته، فعاشت آثارا سيئة لاصطدام الفرق، فتوقفت عن الابتكار والإضافة إلى حصيلة إنجازاتها في المعرفة والحضارة. إننا اليوم نلاحظ وجود توجه داعٍ إلى ابتعاث كل الأفكار التي سببت الخصومة وعمقت الهوة بين المسلمين وبروز هذا الاتجاه في هذه المرحلة من حياة الأمة ليس حدثا عارضا، وإنما هو نتيجة لدأب حثيث متواصل، وجهد كبير متلاحق بذلته جهات من خارج الدائرة الإسلامية، انتهت به إلى تشكيل ثقافة الكراهية البينية والخصومة الداخلية لتحقيق مبدئها في الصراع القائم على نظرية الحرب بصفر من الخسائر، وبإعمال قاعدة يقطع الشجرة فرع منها. ولمواجهة هذا الواقع المأزوم والقيام برسالة العلماء، فإنه يتعين تبني مشروع يقوم على إبراز كل مساحات الالتقاء بين المسلمين، وهي مساحات شاسعة تشمل مساحة وحدة العقيدة والكتاب والنبوة والقيم والمصير ووقوع الجميع في دائرة استهداف واحدة. ويكفينا من هذا كله أن نعلم الناس أن كثيرا من الصحابة عاشو وماتوا ولم يشغلوا عقولهم بأي شيء مما اختلفت فيه الأمة لاحقا، وما أفرزته التطورات السياسية من مقولات وآراء. إن المطلوب: تقوية الاتجاه التوحيدي للأمة بتأصيل التسامح فكرا وتصورا، ليتحقق عملا وإنجازا. ومن أجل بناء هذه الأرضية الفكرية التسامحية، فإنه يتعين تجميع كل القواعد والنظريات ذات الصلة منها: - قاعدة مشروعية الاختلاف في غير المعتقد، ومجالات ما يصح فيه وما لا يصح. - ومنها قاعدة التصويب الاجتهادي التي يقرر فيها الأصوليون أن على المجتهد أن يبذل الوسع في طلب الحقيقة، وأنه ليس مطلوبا منه إصابة واحدة بعينها في كل ما لم ينصب الله عليها آية أو شاهدا. وان المجتهد في جميع الأحوال مصيب بحسب الوسع البشري، كما يقول بذلك أبو الحسن الأشعري وأبو بكر الباقلاني، ومحمد بن الحسن، وأبو يوسف صاحبا أبي حنيفة وابن سريج. - ومنها قاعدة القول بالأشبه، وهي قاعدة ترجح أحد الاجتهادين وتجعله الأشبه بالصواب والأقرب إليه. - منها قاعدة تكافؤ الأدلة التي أوحت لأهل العلم بأن يكون لهم أكثر من قول في الموضوع الواحد. - ومنها قاعدة مراعاة الخلاف التي عبارة عن التفات إلى لازم دليل المخالف، وهذا اعتداد به واحترام لرأيه. - ومنها قاعدة الخروج من الخلاف وتطويقه عن طريق الجمع بين الأقوال واحترامها. هذه القواعد ونظائرها يمكن أن تشكل منها مادة علمية وتخصص دراسي بجميع مؤسساتنا التعلمية، لنؤسس به قاعدة علمية يرتكز عليها مشروعنا التوحيدي المرتقب. @@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@ الفتنة الراهنة الأسباب والخلاص - الجزء الأول حين يلتقي أهل العلم والفكر في الظروف العادية من أجل بحث واقع الأمة، ومن أجل بناء تصورات متكاملة عن مستقبلها الراشد، فإن ذلك اللقاء لا يكون إلا مفيدا ونافعا بما يتيحه من تشخيص للواقع ومن كشف عن كافة الاختلالات والأخطاء التي من شانها أن تحول دون النهوض بتكاليف الشهود الحضاري ومتطلباته كما حدده الله للأمة سمة وجودية ووظيفة إنسانية تؤديها لغيرها من الأمم، وحين يلتقي العلماء والمفكرون في ظرف عصيب، وفي منعطف فكري وسلوكي خطير يشكل تحولا جذريا وانقطاعا كاملا عن مسار حضارة أمة شهد لها الخصم قبل الصديق أنها أتقنت إدارة الاختلاف مع الأبعدين الذين لا يشاطرونها الدين والعقيدة والتوجه في الحياة، فوسعتهم رفقا ورحمة في الظروف العادية، كما وسعتهم عدلا وتحملا في حالات التوتر والاحتكاك. فإذا بأفراد من الأمة ينقلبون على مسارها بشكل مفاجئ وغير متوقع وعنيف أدى إلى الزج بها في احتراب داخلي، واقتتال بينيّ كان الإنسان المسلم فيه هو المنفذ، وهو الهدف والضحية في آن واحد، ليصير المشهد اليومي للأشلاء الممزقة المتطايرة والدم المسفوح في وسائل الإعلام هو العنوان على انتمائه إلى البلاد الإسلامية. حين يلتق العلماء في هذا الظرف الصاخب ويكون الداعي إلى اللقاء هو "المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة" التي تحتضن المسلمين على اختلاف مذاهبهم وطوائفهم وتتبنى همومهم وآلامهم، وتختزل طموحاتهم وآمالهم، فإن ذلك اللقاء لا يمكن إلا أن يكون مبادرة خيرة وبارقة أمل تعد باستعادة الوعي وباسترجاع الرشد. أيها السادة، إن خصوصية الظرف الذي نلتقي فيه، وحجم الانتظارات المعلقة على مثل هذا اللقاء هي التي يجب أن تعتبر محددا موضوعيا لأسلوب التعاطي مع قضية الفتنة التي عصفت بجهات من كيان الأمة الإسلامية، وهو أسلوب يتعين أن يركز على ما هو عملي وواقعي وتقريبي تأليفي، دونما حاجة إلى إطالة الوقوف عند تشخيص تفاصيل الواقع المؤلم الذي تعيشه الأمة، إلا بقدر ما يكون ذلك التوقف سبيلا إلى قراءة الأحداث واستجلائها، باعتماد قراءة شرعية واعية وقادرة على التغلغل في عمق المشكلة في أفق الوصول إلى توصيف كيفية الخروج من الأزمة، وإلى تحديد كل الشروط الثقافية والدينية الكفيلة بتحقيق العافية للأمة، بعيدا عن منطق المؤاخذة والعتاب وإلقاء التهم، وعن تقليب المواجع ونكء الجروح. إن بالإمكان أن نقول في تقويم المرحلة إجمالا، إن ما وقع فيها من تورط بعض أفراد الأمة في فتنة عمياء، تدع الحليم حيران سفكت فيها دماء بريئة طاهرة حتى سالت شلالات متدفقة وأنهارا مترعة، إن ذلك لم يكن إلا حصادا مراً لزرع سيئ لم تكن الاستهانة به والذهول عن نتائجه أو التحوط منه ليُنقذُ منه، لأن الحذِر يؤتى من مأمنه، ولأن لحظة الترويع تختار لنفسها أكثر فترات الأمن والاطمئنان والغفلة والنسيان على نحو ما يشير إليه قول الشاعر: يانائم الليل مسرورا بأوله إن الحوادث قد يطرقن أسحارا تماما كما ينبجس الدم النازف من الجسم من أوهى الأنسجة وأضعفها. إنه بالاستناد إلى طبيعة تكون الظواهر السلوكية المجتمعية وتطورها يمكن أن نقول: إن الخلل قد بدأ في حياتنا المعنوية مبكرا، وقد ساعد إهماله والاستخفاف به على أن يأخذ فسحة ضرورية من الزمن ليمتد خلالها في جميع أوصال حياتنا وفراغاتها، فامتزج بالفكر والتصور ثم بالشعور ثم بالممارسة والسلوك، ثم أعلن عن نفسه أخيرا ظاهرة دموية مروعة. إن أنفع ما يمكن أن ينتهي إليه هذا اللقاء هو أن يسعى إلى أن يساعد على تجاوز الأزمة ويشخص بدقة أسباب الخلل ويحددد طرق تفاديها. والأسباب فيما أرى كثيرة ومتعددة، ومن المؤمل أن تتظافر مداخلات السادة العلماء في هذا اللقاء على تجلية الكثير منها. وحسبي أن أشير في هذا العرض إلى ثلاثة منها أعتقد أنها عناوين كبرى تنضوي تحتها عناوين جزئية إذا رمنا التفصيل، ويمكن عرض هذه الأسباب التي هي: 1- سوء تقدير أهمية الدين في حياة الأفراد وفي صياغة المجتمعات وفي تثبيت منظومة القيم. 2- شغور مواقع التوجيه من الكفاءات العلمية الممثلة للنموذج المؤثر. 3- غياب ثقافة إسلامية عميقة قادرة على التأصيل الشرعي للسلوك وعلى تنزيل الأحكام على الواقع. -1 أما عن العامل الأول المتمثل في سوء تقدير الدين في حياة الأفراد وفي تشكيل المجتمعات وتثبيت منظومة القيم فإن الاستخفاف بأهمية الدين قد نشأ نشوءا طبيعيا ومتوقعا عن نوع التكوين العلمي الذي خضعت له بعض نخبنا الثقافية والسياسية التي أقنعتها مناهج التحليل المادي بأن الدين ليس أكثر من ظاهرة تاريخية رافقت مرحلة اتسمت بجهل الإنسان بقوى الطبيعة وبعجزه عن تفسير مظاهرها، من غير أن يكون الدين في ذاته ضرورة بشرية أو نزوعا فطريا في الإنسان، وقد أمعنت تلك المناهج في التضليل، حين استدعت لتأييد مشروعها التجربة الغربية في إقصاء الدين، وفي فك الارتباط مع الكنيسة وقدمتها على أنها النموذج الذي يمثل حتمية تاريخية وقانونا صارما، يحكم كل عملية للخروج من التخلف بصرف النظر عن الظروف التاريخية، وعن خصوصيات المجتمعات الأخرى وعلاقات أديانها الودية مع عالم المعرفة. إن الرؤية المادية المغلوطة للدين ولحركة التاريخ، هي التي أوحت إلى من استهوتهم ووقعوا في إسارها وسبحوا في مداراتها بأن التطور المنشود مرتهن بانحسار الدين جزئيا ثم كليا عن كل الجوانب المؤثرة من الحياة، وتحت تأثير هذا الاقتناع، توجهت هذه الفئة إلى تحجيم حضور الدين في كل ما أشرفت على إعداده من برامج تعليمية وتثقيفية وإعلامية واجتماعية. وقد رأت هذه الفئة أن التغييب الممنهج للدين، هو وأد بطيء له، يتم على المدى المتوسط والبعيد، وغاب عن إدراكها المعطى العلمي الأنتروبولوجي الذي أصبح يعلن جهارا بأن كل تغييب للدين هو عمل لا معرفي لا يؤدي إلا إلى مزيد بحيث عن الدين ولو في صور شائهة ومغلوطة. لقد حدث المحذور في دنيا المسلمين، إذ أفضى تفريغ كثير من جوانب الحياة من الدين إلى نتائج سلبية ووخيمة، تجلت في بروز مظهرين كبيرين متناقضين مظهريا وإن كانا متفقين غاية وأثرا، اولهما مظهر التفريط في الدين والتعالي عليه واستباحة مقدساته، ومظهر مناقض هو مظهر التشدد والتطرف القائم على خواء معرفي وجهل كبير بحقائق الدين، وبطرق تأسيس الأحكام الفقهية المستمدة من مصادرها الشرعية. إن سوء تقدير أهمية الدين، قد دفع إلى إهمال التأسيس العلمي للتدين ففتح الأمة على المجهول وسمح بإنتاج خطاب ديني غير منضبط بضوابطه الشرعية يصوغه أناس فاقدو الأهلية العلمية، ويقبل عليه أناس آخرون قد يستهويهم منه جانبه العاطفي الملتهب أكثر مما يستهويهم منه قوة حجته ودليله، وصحة انبثاقه عن مصادر التشريع المعتمدة. وحين يعدم الناس ما تدعو إليه ضروراتهم فلا غرابة في أن يقبلوا بالموجود ولا يبالون، ألا يكون هو الجيد المنشود، وقديما قال الشاعر: ولكن البلاد إذا اقشعرت وصوح نبتها رُعيَ الهشيم 2- شغور مواقع التوجيه من الكفاءات العلمية الممثلة للنموذج. لما كان اهتمام المجتمعات الإسلامية بالتدين على النحو الذي أسلفت الحديث عنه، فقد كان طبيعيا بل ومتوقعا أن ينعكس ذلك على حجم حضور العلماء في المجتمع وعلى إسهامهم في صياغة متوازنة تعصم من الوقوع في الأزمات والانحرافات التي وقعت فيها. ذلك بان وجود العالم في بيئته ومحيطه لم يكن وجودا صوريا هامشيا ولا كان وجودا تكميليا تأثيثيا، وإنما كان على الدوام وجودا مركزيا فاعلا، فكان العالم يمثل في الأمة قوة ضابطة لحركة المجتمع وفق هدي الشريعة، فكان بمثابة المرصد المتولي لتخليق الحياة وتسديد مسارها عند استشعار إشرافها على الانحراف. كما كان العالم يمثل قوة توثيق العلاقات والصلات الاجتماعية التراحمية بما يدعو إليه من التزام خصال التعاون والتآزر ونبذ كل الممارسات والتصرفات المفضية إلى تفكيك وحدة المجتمع. لقد مثل العالم في الأمة عقلها المفكر وضميرها البقظ المحافظ على القيم ووجدانها المفعم بأحاسيس الخير والرحمة، وحظي بثقة الأمة واحترامها ورجعت إليه في كل ما أهمها من أمور الدين والدنيا، ووثقت صلتها به ونزلت عند قوله ورضيت بحكومته وتدخله، وانصرفت عن كل الجواذب والصوارف والقواطع التي كان بالإمكان أن تستلفت إليها الأنظار، وتتعدد بذلك مصادر التوجيه ومراكز إنتاج الخطاب، فتختلف الكلمة وتشرذم الأمة. لقد كان حديث رسول الله هو الكاشف الأول عن أهمية حضور العلماء في المجتمع، وعن مأتى الخلل من فقدانهم، لما قال عليه السلام، كما في الحديث الذي أخرجه البخاري من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبضه بقض العلماء، حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا» (صحيح البخاري، كتاب العلم، باب كيف يقبض العلم). وقد علق الإمام الشاطبي على هذا الحديث تعليقا لطيفا جميلا قال فيه: "إن الأمة لا تؤتى من قبل علمائها. وقد كان من لطف الله بهذه الأمة ومن مشيئة الخير بها وإرداة بقائها أنه لا يخلي العصر من قائم لله بالحجة، وليس من قائم لله بالحجة غير العلماء. ومن التنصيصات النبوية على ربط كل الاختلالات والتشوهات المجتمعية بفشو الجهل وغياب العلماء أنه طالما تحدث عن انتشار الجهل ورفع العلم في سياق حديثه عن أشراط الساعة، وهو جهل يرافقه كثرة الهرج الذي هو القتل، لأن الإقدام على القتل وإزهاق الأرواح هو قمة السلوك المعبر عن الجهل الكلي بأحكام الشريعة في موضوع الدماء وفي حرمات المسلمين. لقد تفطن غير واحد من العلماء إلى خطورة احتلال غير العلماء محل العلماءن إما في محاولة يائسة لسد الفراغ، أو من أجل الاستفادة من الوضع الاعتباري والشفوف الاجتماعي الذي يسبغه العلم على المنتسب إليه، وقد شوهد أحدهم وهو يبكي فقيل له ما يبكيك! فقال: اليوم سئل من لا يعلم. فإذا كان من يعلم يتورع عن ان يجيب فيما لا يعلم ويستحضر دوما وصية مالك وهو يدعو العالم إلى أن يورث جلساءه قول لا أدري، فإن من لا يعلم لا يمتلك هذا الحس، ولا يقْدُر الموقف قدره، ولا يدرك خطورة الإفتاء بغير علم، ومن ثم لا يتحرج من أن يصدر فتاوى لا خطام لها ولا زمام، ولا تتقيد بأصل من الشريعة معروف، ولا تنْبَني على قراءة تقابلية للنصوص، فمن ثم يكثر شذوذه وإغرابه، ويوبق الأمة في فتاوى الدماء والأنفس فتحل بها الكارثة. إن المتابعة الجيدة تفيد أن جميع الذين أفتوا فتاوى دموية كانت لها الآثار الوخيمة على الحياة لم يكونوا من العلماء الأثبات الذين تثفنوا أمام العلماء وأخذوا العلم عنهم، وإنما كانوا أشخاصا اغتنموا الفراغ فتصدوا للإفتاء وغرهم أن غير أهل العلم تحلقوا حولهم وارتضوا أقوالهم فمنحوا فتاواهم قوة هي قوة الولاء والانحياز، لا قوة العلم والدليل. إن دراسة التاريخ الاجتماعي وتاريخ الفتن والحروب على الخصوص ترشد إلى أن الصغار في نفوسهم، وفي معناهم هم الذين يسارعون إلى دق طبول الحرب ثم إلى إيقادها وتأجيجها، ولأنهم صغار في مداركهم وهممهم فإنهم يستجيبون لكل نزغات نفوسهم، ولكل إيحاءات خصوم أمتهم ولا يَقْدرون دعواتهم قدرها، ولا يعبؤون بنتائجها وهم في الغالب ظانون أنهم بمنأى عن ويلاتها وكوارثها، لأن أكثر الناس دعوة إلى الحرب هم أقلهم حياء من الفرار منها كما يقال. وبمثل هذه السلوكات التي تبدأ هينة تصاب الأمة في وجودها وسلامتها، وقد قال الشاعر: كل الحوادث مبداها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر إن هؤلاء الذين اقتعدوا مقاعد التوجيه قد يقرؤون لكنهم يسيؤون القراءة، وقد يعودون إلى التراث لكن عيونهم لا تقع إلا على كل بذرة شقاق وخلاف سبق أن فرقت الكلمة واكتوت الأمة بنارها، فيختارونها ويعيدونها إلى الوجود ويتمحورون عليها، ويعلون من شانها إلى أن تصير لديهم جوهر الدين وثابتا من ثوابته ويؤسسون على ذلك مواقف متشنجة، ويحرضون أفراد الأمة تحريضا يرون أنهم يؤدون به جهادا مقدسا. إن الأكيد أن الفتنة التي وقعت فيها الأمة لم تنشأ عن اختلاف في قضايا جوهرية من المعتقد، او عن تفكير في قضايا مصيرية، وسبل خلاص أمة مأزومة إنما هي فتنة نشأت في مناخ الجهل والتعصب لقضايا تاريخية هامشية حدثت للناس بعد فترة طويلة من اكتمال الوحي ومن نهاية عصر النبوة، فكان ذلك الاختلاف إفرازا من إفرازات التاريخ، واجتهادا بشريا أصبح متجاوزا، وهو اجتهاد لا يمكن رفعه بحال لجعله شيئا من جوهر الدين ومن حقيقته، حتى يكون المدافع عنه شهيدا، والمناضل من أجله محقاً ومدافعا عن جوهر الدين.