تجسيد المشروع لا يمكن له أن يتحقق بدون ثقافة نهضوية لإخراجه من رؤية فوقية نخبوية إلى ثقافة جماهيرية طرح المشروع الجديد عن النهوض العربي قراءته إلى واقع الأمة وتاريخها، من منظور وقائع معينة لخصها في تجارب المشاريع النهضوية والسياقات الدولية والإقليمية التي أثرت عليها وعرقلت نهوض الأمة وعملت على تجزئتها وتفتيتها. وفي هذه الصفحات لم يتطرق المشروع إلى ضرورة المراجعة والنقد الذاتي للعوامل الذاتية، والقوى القومية أساسا التي انشغلت بمعارك أبعدتها عن الساحة والجماهير العربية وأضعفتها في مواجهة التدخلات الخارجية والإقليمية أولا، وتعارضها مع القوى والتيارات الأخرى التي لها آراءها هي الأخرى بحصيلة التجربة المرة السابقة والبيئة الحاضنة الجديدة للمشروع الجديد ثانيا. وثالثا التفتت داخل القوى القومية نفسها وغياب القيادة الواعية القادرة فعلا على لم الشمل وتجميع الطاقات بنظرة مستقبلية إستراتيجية تجابه مخططات القوى الخارجية التي لعبت على التمزقات والتشتت العربي وغذته وعمقت الفجوات داخل الأمة والوطن وفسحات الأمل المشروعة. هنا يتطلب مراجعة جدية ومخلصة لتجارب الماضي القريب وتشخيص الأخطاء التاريخية بدقة ومسؤولية ونقدها بشجاعة وبعقل مفتوح لرؤية علمية جديدة تنظر فعلا للمستقبل وتبني الحاضر حجرا حجرا ومن كل الألوان والتيارات والقوى الحية في الأمة. وهذه مسؤولية المشروع النهضوي العربي الجديد. فهل حمل المشروع في طبيعته الجديدة مثل هذه الهموم والتطلعات والرؤى الواقعية والنظرة الإستراتيجية الآفاق؟. إن الأهداف الأساسية التي وضعها المشروع وهي ستة تداخلت وترابطت في العمل السياسي والفكر السياسي منذ مشروع النهضة الأولى بظروفها وتنوعها وقدرة قواها على التفكير والعمل بها، والآن قد لا يختلف على مسمياتها كثيرا ولكن السؤال يكمن دائما في تنفيذها وسبل تيسيرها ودعم خطواتها ومتابعة تطوراتها وتجنب عثراتها السابقة والمتوقعة. ورغم ذلك تظل مثار استفهام عملي لابد من إدراكه وتحليل بواعثه ومبرراته. إذ لا يكفي القول بان هذه الأهداف هي ردود على التحديات التي واجهتها الأمة وتواجهها اليوم، وهي كل لا يتجزأ ولا يقبل المقايضة والوقوع بأخطاء المشاريع السابقة التي ميزت بينها وقبلت النظر إليها بمنطق الأولويات، الذي رأى المشروع الجديد ان هذا المنطق – بالذات – الذي كان مسؤولا، فيما مضى، عن اعتماد هدف معين أو أهداف بعينها على حساب أخرى. ومن ثم يقبل التمرحل الموضوعي له، مخرجا من انسداد أو استعصاء التطبيقات ضمن الظروف الموضوعية لكل هدف ومرحلة وقوى حاملة له وتحديات الواقع الصلد. ورغم ذلك نظر المشروع الجديد بموضوعية للقوى الحية الفاعلة في الأمة ووضع أمامها مسؤولية النهوض وتحمل جهوده والتزاماته، بعد ان جمع عناوينها النضالية حسب تصوره لها، وان كانت هذه العناوين ذاتها موضع الصراع بين تياراتها، وهو الموضوع الذي ينبغي فهمه وتجاوز أخطاءه السابقة وعدم التوقف عندها وتكرار التفكير بصراعات المفتاح الوحيد للجواب على معضلات الواقع العربي وإنكار المسؤولية عن الأسباب الواقعية وظروفها. ولعل عودة المشروع إلى فكرة الدعوة للنضال في إطار حلف عريض (كتلة تاريخية) يكون المشروع النهضوي برنامجها ومرجعها، (وهنا تساؤلات ووقفات!)، هي فكرة سليمة وخلاصة ايجابية من التجربة التاريخية ولكنها أيضا بحاجة إلى عقل عربي نهضوي استراتيجي، يستوعب الرؤية ويعمل مخلصا للنهضة بعزيمة على قدر مستوى التحدي. بعد تأكيد المشروع النهضوي العربي على الأهداف الستة التي أشار إلى أنها ردود على المعضلات التي فرضت نفسها على الواقع العربي وعلى العقل العربي منذ قرنين، وضرورة العمل من اجلها للنهوض العربي بعد طور التراجع عل الصعد المختلفة، السياسية والاقتصادية والثقافية والأمنية وغيرها، لابد ان يخرج منها إلى آلية التنفيذ لهذا المشروع النهضوي الجديد. وكما ذكرت ان هذه الأهداف بعموميتها لا اختلاف عليها بين التيارات الفكرية والسياسية، التي دعا المشروع إلى تحملها المسؤولية في إطار تحالف تاريخي عريض لابد منه بعد تجارب ماضية ودروس وعبر تاريخية كافية للنظر إلى المستقبل بثقة وصدق وأمانة مسؤولة. وإذا حصل اختلاف أو تباين فسيكون حول الوسائل إليها أو تسلسلها في التطبيق العملي ضمن ذهنية البرامج وجداول عمل كل تيار، سواء في العناوين الرئيسية له أو في تجربته الواقعية. ومهما كانت هذه الخطوات في هذا الاتجاه وربما التباينات في بعض من المراحل أو الفهم لها أو التحليل الصائب لعوائق أو معرقلات موضوعية أو ذاتية أمامها فان المشروع يبقى حاجة ضرورية فرضته طبيعة المرحلة والبيئة التي تعيشها الأمة العربية حاليا. وإذ تتوجه المسؤولية لمن يبادر ويعمل جاهدا من اجل خطوات أولى وباتجاه السير قدما في التصدي للتحديات التي تواجه الجميع فان إعلانه يتطلب استمراريته وصولا إلى المؤمل منه. ولهذا كله رأى المشروع في أوراقه المعطيات التالية كآلية تحقيق له: أولا: القوى الاجتماعية والسياسية والوسائل النضالية. وثانيا: نحو تجسيد المشروع. وفي عشر صفحات من 128 صفحة قدم المشروع تصوره عن آلية تحقيقه. فهل هذه التصورات كافية وقادرة فعلا وكيف يتم الانطلاق والتجاوز والانجاز، والى متى أو كيف يمكن التأكد من صحة سبيل أو سبل تحقق المشروع؟. ومن المعطيات من هي القوى الحاملة للمشروع وما هي الوسائل النضالية وكيف ينجز تجسيده عبر الآلية والظروف العربية والإقليمية والدولية الحالية؟. وهل هي التي تتحمل كل تبعاته وتجسده لتطلع الأمة في مرآة مستقبلها ووحدة عروتها ومشاركتها في التاريخ؟. أسئلة كثيرة لابد من طرحها والإجابة عليها رغم ان المشروع شدد على الموضوعات النظرية والسياسية لها، بحيث يمكن القول انه حاول الإجابة عليها في هذين المجالين نظريا والحاجة تكمن في انتظارها عمليا. ومن جهة أخرى تراجع الموضوعات ما سبق للمشروع ان طرحه للأهداف كحزمة واحدة لا مقايضة فيها في منطق الأولويات بينما يعود فيها إلى أنها سلسلة من المسارات المختلفة والمتفاوتة وسلسلة من التراكمات المحكومة بقانون التفاوت في التطور. ويتصارع المشروع في تحديد القوى التي ستحمله. فمن التعيين الافتراضي المستمد من التجارب السابقة إلى ملاحظة حالة الحراك الشديد وسيولة في وقائع التحول، وصولا إلى ان أهداف المشروع النهضوي وقضاياه ستظل تنتج قواها الاجتماعية التي تحملها حين تجد مصلحة فيها. وانطلاقا من ذلك يتعين على منظري المشروع النهضوي، كما سجل المشروع، ان يلحظوا مكانة كل فئات الشعب العربي وقواه، بما فيها تلك التي قد يضر المشروع بمصالحها في مراحله الأولى. وهذه جزء من رؤية واقعية للمتغيرات الاجتماعية والتركيب الطبقي ، مع بقاء مساحة تنظيرية عامة. وحدد المشروع بصواب هنا المسؤولية التاريخية للفصائل القومية العربية تجاهه ودعوته لها للخروج من حالة التشرذم والانقسام التي تعانيها، قناعة منه بأولوية حملته، وهنا يرد على نفسه من انه مشروع جماعي توافقي سهرت عليه تيارات الأمة الفكرية والسياسية، ومع ذلك واصل في قراءته للتحولات في التركيب الاجتماعي الطبقي ونشوء قوى سياسية مع نمو تناقضات الأنظمة العربية إضافة إلى المعطى سلفا. من بين المعطيات الجديدة الاستفادة من الأخطاء التي انطوت عليها تجارب الأحزاب التي بنيت على المستوى القومي ولم تنجز مهماتها القومية، والنظر في تطوير فكرة الترابط الجدلي بين النضال الوطني والقومي والتحولات والتغيرات الجديدة على مختلف المستويات. ومراجعة هذه الظاهرة وتجاوزها بمنطق موضوعي عقلاني وفتح صفحة جديدة في العلاقات والحوارات الفكرية والنضالية بين التيارات ستكون لها أهمية كبيرة وربما عاملا مفيدا لانجاز خطوة في المشروع النهضوي العربي. كما ان الاستفادة من التطورات التقنية والفضائية لأجهزة الإعلام ودورها في تكوين الرأي العام والتأثير علية مهمة عاجلة ومطلوبة لانتقال المشروع من الحيزين الشفوي والكتابي إلى الحيز الإعلامي: المرئي والمسموع مع الاستفادة من إمكانات وسائل الاتصال الالكترونية الحديثة. خطوة مهمة أخرى بادر المشروع إلى التأكيد عليها ضمن أهدافه وآليات تطبيقها هي التفكير بصوت عال في العلاقة بينه وبين جماهير الأمة، إذ ان «جدوى أي مشروع مجتمعي وفاعليته هو تبني الرأي العام له، معبرا عنه بواسطة الاستفتاءات أو الانتخابات أو الوسائل الأخرى لرصد اتجاهات الرأي العام. ولما كان تحقيق المشروع النهضوي يفترض تغييرات جذرية في المجتمع والسلطة والعلاقة بين الدول العربية ذاتها والأمة العربية والعالم، فان أهمية ايلاء الأولوية في التغيير للتغيير الديمقراطي السلمي تتزايد باطراد». خلاصة الأمر ان تجسيد المشروع لا يمكن له ان يتحقق بدون ثقافة نهضوية، لإخراج مشروع النهضة من رؤية فوقية نخبوية إلى ثقافة جماهيرية. تتبناها كل المؤسسات القائمة، من العائلة والمدرسة والجامعة إلى المؤسسات الاجتماعية الجديدة. وهذه نقطة وضعها المشروع في حسابه مركزا عليها بعد تأكيده على ثقافة المقاومة كوسيلة بناءة في تحقيق الإرادة والمشروع. «ومهما كانت إرادة النهضة قوية، وثقافة النهضة متسعة، فان نهوض الأمم لا يتحقق بمجرد الرغبة في تحقيقه، بل بواسطة عمل عقلاني دؤوب في إطار مؤسسات تحمل المشروع النهضوي وتجسده». أما كيفية تجسيده فقد وضع المشروع صورة واسعة له، وحمل المسؤولية كل الأفراد والمؤسسات أعباء النهوض وتحقيق الأهداف وتحويل النهضة كهاجس وجعلها موضوعا للتفكير والدراسة وليتسع نطاق رؤيته وتغذيته بمعطيات فكرية جديدة. المشروع النهضوي العربي طموح ومهم وقد صدر وتوزع وخرج من حيز الأفكار والكتابة إلى الحيز الأوسع والأكبر.. وهنا المسؤولية عنه وعن فكرة النهوض عموما.