بدأت فكرة المشروع النهضوي العربي في التبلور منذ عام 1988 في أعقاب انتهاء مركز دراسات الوحدة العربية من إنجاز مشروعه العلمي الكبير الذي حمل اسم: مشروع استشراف مستقبل الوطن العربي (الذي أصدر المركز دراساته الجزئية والتركيبية) وطرحت توصياته - في جملة ما طرحت - الحاجة الى مشروع نهضوي (1). وقد أدرج المركز ضمن مخططه العلمي الموضوعات والقضايا التي تمثل مادة المشروع النهضوي كمسائل فكرية ذات أولوية في برامج النشر والندوات من أجل توفير مادة علمية يبنى عليها لبلورة رؤية نهضوية. في هذه الاثناء، كلف المركز بعض اصدقائه الباحثين بتقديم مقترحات حول تصور المشروع ومخططه، وتوصل الى مجموعة منها عرضت على مناقشات داخلية في عام 1996 وفي ماي 1997 عقد المركز حلقة نقاشية في القاهرة حضرها عدد من الباحثين العرب تدارست على مدى يومين مخطط المشروع الأولي، وادخلت عليه تعديلات، كما وضعت المخطط الاولي لندوة المشروع الحضاري النهضوي العربي. وقد عقد المركز هذه الندوة في فاس في عام 2001، وشارك فيها ما يزيد عن المئة باحث من التيارات الفكرية كافة، تناولت بحوثها ومناقشاتها - على مدار اربعة ايام - القضايا النهضوية الست التي تشكل اهداف المشروع وهي: الوحدة العربية، والديمقراطية، والتنمية المستقلة والعدالة الاجتماعية، والاستقلال الوطني والقومي، والتجدد الحضاري، ونشر المركز الوقائع الكاملة للندوة ضمن كتاب صدر عنه في نهاية العام نفسه (2)، وشكل المركز، عقب الندوة مباشرة، لجنة صياغة مخطط المشروع في ضوء بحوث الندوة ومناقشاتها، وقد عقدت اجتماعها التمهيدي التشاوري في فاس. وكلف المركز باحثين بإعداد مقترحات لمخطط المشروع لعرضه على اللجنة في اجتماع قادم. وقد عقد الاجتماع هذا في لبنان في يوليوز 2001، وتناول خلال يومين من المداولات - مواد المخطط الأولي بالدرس والتدقيق، منتهيا الى اقرار صيغة شبه نهائية له، ما لبث المركز أن أقرها في صيغة نهائية في غشت 2001 مشكلا فريقا لتحرير فصوله من اعضاء لجنة الصياغة. وقد أعدت اللجنة الأوراق الثماني الخلفية لنص المشروع، في ضوء حصيلة ندوة فاس ومرفقات أخرى من مواد مرجعية للاستعانة بها لهذا الغرض. ثم سمي المركز أحد اعضاء لجنة الصياغة منسقا، وكلفه في صيف عام 2004 بتحرير المسودة الاولى لنص المشروع اعتمادا الى اوراق وبحوثه الخلفية ومادة ندوة فاس. و بعد انجاز المسودة الاولى، دعا المركز الى عقد اجتماع للجنة الصياغة في القاهرة (يوليوز 2005) لمناقشة المسودة حضره خمسة عشر عضوا من اعضائها الثمانية عشر، وبعد يومين من المناقشة أحيلت الملاحظات الى منسق التحرير قصد ادخال التعديلات اللازمة على النص. ثم دعيت لجنة الصياغة الى الاجتماع ثانية في القاهرة في يوليوز 2006 لمناقشة المسودة الثانية. غير ان العدوان الصهيوني على لبنان في حرب يوليوز 2006 واغلاق المطار والحصار الذي ضرب على لبنان حال دون سفر خمسة من اعضائها الى القاهرة، مما اضطر الى تأجيله لينعقد في شكل ندوة موسعة في بيروت في نونبر 2006، دعي الى المشاركة فيها باحثون من خارج لجنة الصياغة. ثم ادخل منسق التحرير ثانية التعديلات على مسودة النص لتعرض المسودة الثالثة بعد ذلك باشهر على المؤتمر القومي العربي (2007) وترسل الى عدد كبير من الشخصيات الفكرية والسياسية العربية لإبداء الرأي فيها، وتنشر على الموقع الالكتروني للمركز لعموم القراء العرب، للغاية نفسها. وبعد أن تجمعت حصيلة وفيرة من تعليقات لجان المؤتمر القومي العربي، وآراء المفكرين والباحثين والخبراء، كلف احد اعضاء لجنة الصياغة بإدخال التعديلات الواجبة على المشروع ليصير إلى مسودته الرابعة، وعقب ذلك عقدت لجنة الصياغة اجتماعا نهائيا في بيروت في 2009 لإبداء الرأي في المسودة لإدخال آخر تعديلات عليها. لقد حرص مركز دراسات الوحدة العربية، منذ بداية عمله في هذا المشروع، على مشاركة التيارات الفكرية كافة في انجازه (من قوميين واسلاميين ويساريين وليبراليين) حتى يأتي ممثلا نظرة الاطياف الفكرية والسياسية كافة بحسبانه مشروعا للأمة جمعاء لا لفريق منها دون آخر. ولقد كان الجميع مشاركا في المراحل كافة: من اعداد المقترحات والتصورات، الى فرق العمل التي ناقشت المخطط واقرته، الى الباحثين والمشاركين في ندوة فاس، الى اعضاء لجنة الصياغة وفريق التحرير. وهاهو المركز يطرح المشروع النهضوي العربي في صورته النهائية على الامة، واثقا من انه سوف يكون دافعا قويا لنضالها من أجل تجسيد اهدافه الستة في الواقع العربي، وناظما فعالا لهذا النضال. الفصل السادس العدالة الاجتماعية العدالة الاجتماعية من القيم الانسانية الكبرى، وشددت عليها الثقافة العربية الاسلامية في العهد الوسيط، وهي ايضا من اهداف النهضة ومن مقوماتها. فليس لمجتمع ان ينهض من دون ان تكون العدالة الاجتماعية أساسا للنظام الاجتماعي فيه. وهي كناية عن تكافؤ الفرص في توزيع الدخل والثروة، ومقاومة كافة اشكال التفاوت الطبقي والاستغلال والفقر والتهميش، وتنمية علاقات التضامن والتكافل بين ابناء الوطن. وقد توارت العدالة الاجتماعية مؤخرا في ظل تطبيق النموذج الاقتصادي الليبرالي، واصبحت مطروحة لمجرد تصحيح اخطائه، فتصبح بذلك حامية لليبرالية ومسكنا للتمرد عليه، ولذلك فمن الاهمية بمكان أن نتعمق في خصائص النظم التي تفضي الى تراجع العدالة الاجتماعية والممارسات المجتمعية التي تعزز هذا التراجع كي لا تكون نظرتنا الى مسألة العدالة الاجتماعية نظرة مثالية. وفي النظر إلى العدالة الاجتماعية من منظور المشروع النهضوي لابد من بنية ملائمة لملكية وسائل الانتاج، ومنظومة سياسات يتعين اتباعها، والتفكير في آليات تسهيل تجسيد العدالة الاجتماعية في الواقع العربي وتعززه. أولا: ملكية وسائل الانتاج في منظومة العدالة الاجتماعية لا يمكن للعدالة الاجتماعية، من منظور نهضوي،أن تتحقق الا اذا اعيد للدولة اعتبارها في الميدان الاقتصادي والاجتماعي، وتدخلها الحاسم في وضع سقوف لملكية وسائل وادوات الانتاج لاتصال ذلك بالعدالة في تلبية الحقوق الاجتماعية. وفي هذا الصدد اكد ميثاق العمل الوطني في مصر 1961 «ان سيطرة الشعب على كل ادوات الانتاج لا تستلزم تأميم كل وسائل الانتاج، ولا تلغي الملكية الخاصة، و لا تمس حق الارث الشرعي المترتب عليها، ويمكن الوصول إلى ذلك بطريقتين اولاهما: خلق قطاع عام قوي وقادر يقود التقدم والتحديث في جميع المجالات، ويتحمل المسؤولية الرئيسية في خطة التنمية وثانيتهما: وجود قطاع خاص وطني يشارك في عملية التنمية في اطار الخطة الشاملة للدولة دون استغلال للعاملين والمستهلكين. كذلك يجب ان تكون المرافق الرئيسية المساندة لعملية الانتاج، كالسكك الحديدية والطرق والموانئ والمطارات وطاقات القوى المحركة والسدود، وغيرها من المرافق العامة، في نطاق الملكية العامة للشعب (اي القطاع العام). ولذا ينبغي ان توضع سقوف للملكيات الزراعية و العقارية، وحد اقصى لتمركز رؤوس الاموال الصناعية والتجارية والخدمية الخاصة، وذلك منعا لتكون مراكز احتكارية في الاقتصاد العربي. على ان يطبق هذا المبدأ بقدر عال من المرونة، ووفق نوعية النشاط الاقتصادي وطبيعته، دون المساس بالملكية الخاصة للمشروعات الصغيرة ومتوسطة الحجم. كما ينبغي تحريك تلك السقوف مع مرور الزمن وكلما دعت الحاجة والتطورات الاقتصادية الى ذلك. وقد ادى النكوص عن هذه الرؤية في ظل سياسات التكيف الهيكلي التي طبقت في معظم الاقطار العربية منذ بداية التسعينات الى سلب الشعب حقوقه التي رعتها الملكية العامة، وتقليص الموارد المخصصة لاغراض الانفاق على الخدمات الاساسية الذي تستلزمه العدالة الاجتماعية. كما افضى اللهث وراء الاستثمار الاجنبي المباشر الى تصاعد نسبة الملكية الأجنبية على النحو الذي اضاف الى قضية العدالة الاجتماعية بعدا وطنيا وقوميا. ثانيا: منظومة سياسات العدالة الاجتماعية اذا كان وجود بنية معينة لملكية وسائل الانتاج على النحو السابق بيانه يعد متطلبا اساسيا للعدالة الاجتماعية، فإن تجسيدها على أرض الواقع غير ممكن بدون منظومة سياسات، يأتي على رأسها ما يلي: 1 - سياسات الانتاج السلعي الرأسمالي والاستهلاكي بما فيه المنتجات الثقافية وتسعيرها. وتشمل تحديد دائرة السلع العامة المطلوبة، وذلك بهدف امداد الجمهور بالسلع والخدمات الاساس، وعلى وجه التحديد: الاحتياجات الغذائية الاساس والخدمات التعليمية، والخدمات الصحية، والاسكان اللائق، والمواصلات العامة، و الثقافة والترفيه. 2 - سياسات الاجور والأسعار. وتقوم اساسا على تأمين حق العيش الكريم على مقتضى مبدأ الخبز مع الكرامة«، ومنه الحق في الحصول على عمل منتج، والحق في أجر عادل لقوة العمل بما يمنع استغلالها، ويضمن حدا ادنى للاجور يدفع عنها على الاقل غائلة التضخم. وبالمقابل لابد من سياسات للاسعار في مجال الاستهلاك الضروري تحقق التناسب في منظومة الاجور والاسعار، وبصفة خاصة لدى ذوي الدخل المحدود، وتضمن منع استغلال المستهلكين، وتضع حدا لممارسات التسعير الاحتكاري في فروع النشاط الاقتصادي كافة. و لابد في هذا السياق من تقوية المالية العامة للدولة بحيث تصبح قادرة على توفير جانب كبير من السلع الاساسية للطبقات الوسطى ومحدودة الدخل باسعار تتناسب وقدرتها الشرائية. 3 - إعادة توزيع الدخول في المجتمع العربي من خلال السياسات المالية والاجتماعية المناسبة بما يحد من الاستقطاب الطبقي فيه. والواقع ان الفجوة في الدخول في الاقطار العربية قد تفاقمت الى حد بات يهدد الاستقرار الاجتماعي ومن ثم السياسي، وذلك نتيجة الولوج غير الرشيد في نهج ما يسمى بسياسات التحرير الاقتصادي والمخصخصة، واستباحة المال العام في غياب الرقابة الديمقراطية وشيوع الفساد. ويتطلب العمل على إعادة توزيع الدخل عددا من الإجراءات من أهمها: أ- إعادة هيكلة النفقات العامة، حيث تقوم هذه بدور هام في اعادة توزيع الدخل، ولا سيما النفقات التحويلية التي تستمد اهميتها من تأثيرها في إعادة توزيع الدخل القومي. ويقع في قلب النفقات العامة المطلوبة دعم الدولة للسلع والخدمات، وخاصة تلك التي يستهلكها السواد الاعظم من المواطنين. ب - التدخل لتنظيم العلاقات الايجارية بين الملاك والمستأجرين في الريف والمدينة بما يضمن تأمين حق السكن في اطار من العدالة والأمان للمستأجرين. ج - توفير الحقوق التأمينية ضد البطالة، وحوادث العمل، والعجز الكلي او الجزئي بحسبانها من حقوق الانسان الاساس. وتقوم صناديق التأمين والضمان الاجتماعي بدور هام في تأمين الانسان ضد مخاطر الحياة والخوف من المستقبل. ولذا، فان شمول التغطية التأمينية لكافة المخاطر المرتبطة بمجريات الحياة اليومية من ناحية، ومخاطر المستقبل من ناحية أخرى، يعتبر من اهم عناصر منظومة العدالة الاجتماعية، التي تشكل الاساس المادي والمعنوي لمفهوم الأمان الاجتماعي و الانساني. د - اعادة تكييف السياسات الضريبية بحيث تتجه الى تقليص الفوارق بين الدخول والثروات في المجتمع العربي، وإلى الحد من الفوارق الطبقية. ه - احياء دور الحركة التعاونية التي لعبت بشقيها الانتاجي والاستهلاكي دورا كبيرا في الماضي خاصة في بداية القرن العشرين. (و) التشديد على ضرورة التزام السياسات التعليمية بضمانة عدالة الفرص امام المواطنين في مجال التعليم والتوظيف على اختلاف أوضاعهم الاجتماعية ومواقعهم الطبقية، باعتبار ذلك الالتزام ضرورة لا غنى عنها لضمان الحراك الاجتماعي على أساس عادل. (ز) امتداد مفهوم العدالة الاجتماعية لتشمل العدالة على أساس «النوع»، وذلك بوضع استراتيجية قومية للنهوض بالمرأة العربية في جميع المجالات، والعمل على تطوير قانون عربي للأسرة يضمن الحقوق الكاملة لكل مكوناتها. وكذلك امتداد مفهوم العدالة الاجتماعية لتشمل العدالة الاجتماعية لتشمل العدالة بين أقاليم الدولة، قطرية كانت أم قومية، بما في ذلك «التجمعات الاقليمية» على النحو الذي يوفر قاعدة للتماسك الاجتماعي والعدالة الاقليمية. ثالثا: بعض الآليات لتعزيز العدالة الاجتماعية لاشك ان البنية المؤاتية لملكية وسائل الانتاج ومنظومة السياسات المتكاملة التي أشير إليها سلفا سوف تضمن توفير المقومات الاساسية لتحقيق العدالة الاجتماعية على النحو الذي نبتغيه في المشروع النهضوي العربي. وثمة آليات تعزيزية يمكن اللجوء إليها في هذا الصدد، منها: ا- احداث صناديق لمكافحة الفقر على الصعيدين الوطني والقومي، وذلك لمنع إعادة انتاج الفقر بين الفئات والطبقات والمناطق الفقيرة. 2- تفعيل دور «صناديق الزكاة» و«مؤسسة الوقف»، في إطار المجتمع الاهلي، في ضوء ما أكدته الخبرة العربية الاسلامية بما يحقق درجة أكبر من الرعاية والتكافل بين المواطنين، ويعزز دورهما في مواجهة غائلة الحاجة. الفصل السابع الاستقلال الوطني والقومي يعد الوطن العربي أكثر مناطق العالم احتكاكا بالعالم الخارجي، وتأثرا بالعوامل الخارجية، لعدة أسباب، منها موقعه الجغرافي الذي يتوسط العالم، ويتحكم في أهم خطوط مواصلاته، ومكانته الثقافية والحضارية باعتباره مهدا للديانات السماوية الثلاث، ولعدد من أهم الحضارات القديمة، كما لأهميته الاستراتيجية والاقتصادية كمستودع لأكبر مخزون لاحتياطيات النفط المؤكدة في العالم. ولقد كانت هذه العوامل والمعطيات تضيف عناصر قوة الى الوطن العربي، في مراحل صعوده، وتدعم مكانته على المسرح الدولي. لكنها كانت تشكل ايضا عبئا ثقيلا عليه في مراحل التراجع والانكسار، بمقدار ما تغري القوى الخارجية بالتدخل فيه او بسط السيطرة عليه وافقاده استقلاله. لقد كان الاستقلال الوطني والقومي - ومازال - شرطا بديهيا من شروط النهضة، وركيزة أساسا من ركائزها، اذ لايمكن لأي شعب أن ينهض ويتقدم اذا كان فاقدا لإرادته، او كانت إرادته مقيدة، كما لايمكنه ان يحمي استقلالية إرادته وقراره وان لم ينجح في حماية أمنه الوطني او القومي. ولأن أي مشروع للنهضة هو، في جوهره، مشروع للاستقلال والامن في آن معا، فمن الطبيعي ان يصبح الامن أحد أهم أهداف المشروع النهضوي العربي. وللوطن العربي اليوم خصوصية يتعذر في إطارها إحداث فصل كامل بين البعد الوطني والبعد القومي لقضيتي الاستقلال والامن. ومع ان مفهوم الاستقلال الوطني يبدو أقرب الى واقع الحالة العربية الراهنة من مفهوم الاستقلال القومي - لأن الموجود فعلا دول وطنية «مستقلة» او معترف لها بالاستقلالية من منظور القانون الدولي وليس دولة عربية قومية جامعة ومستقلة - إلا أن الاستقلال الوطني نفسه مازلا يعاني النقص والانتقاص الشديدين. فإلى جانب ان مفهوم الاستقلال الوطني يشمل استقلالية القرار الوطني، ويفترض الامن الاقتصادي والغذائي من مقوماته، وهذا مما ليس متحققا، فإن قسما غير قليل من البلدان العربية مازالت أراضيه رازحة تحت الاحتلال: كلا او بعضا، وما زالت سيادته متراوحة بين الفقدان الكامل والفقدان الجزئي والاستباحة الدائمة! فإلى فلسطينالمحتلة منذ عام 1948 من قبل الحركة الصهيونية، انضاف احتلال العراق من قبل الولاياتالمتحدة وبريطانيا وحليفاتهما في 2003، بينما ظل الجولان السوري ومزارع شبعا اللبنانية قيد الاحتلال الصهيوني، وظلت مدينتا سبتة ومليلية والجزر الجعفرية المغربية محتلة منذ مئات السنين من طرف اسبانيا، وجزر «طنب الكبرى» و«طنب الصغرى» و«أبو موسى الاماراتية محتلة من قبل إيران منذ سبعينيات القرن الماضي، وخضع جزء من أراضي الصومال لتدخل إثيوبي مسلح منذ 2006. هذا فضلا على أراض عربية أخرى تم الاستيلاء عليها ولم تعد الدول العربية المعنية تطالب بها. ان خطورة مسألة الاستقلال الوطني والقومي، والامن الوطني والقومي استطرادا، تدفعها الى موقع الاولوية من ضمن أولويات أخرى في المشروع النهضوي، وتفرض الحاجة الى صوغ استراتيجية عمل شاملة لتناولهما في وجهيها المترابطين: الاستقلال والامن، لاتصال ذلك بتأمين القاعدة الارتكازية لتحقيق سائر عناصر المشروع النهضوي العربي وأهدافه الاخرى. وتتزايد الحاجة الى هذه الاستراتيجية في ضوء الخبرة التاريخية التي أثبتت أنه كلما أخفق الوطن العربي في صناعة أمنه القومي وحماية استقلال إرادته وقراره، اخفق في صون أمنه وحماية اراضيه وسيادته من الاطماع الاجنبية بل من جيوش الغزاة الزاحفين عليها. وكان فشله في تسوية نزاعاته الداخلية - ومنها النزاعات الحدودية بين دوله - مدخلا الى تمكين القوى الاجنبية المعادية من التدخل في شؤونه والنيل من سيادته، كذلك أصبح احتلال هذه القوى المعادية أراضيه، وبصفة خاصة الاحتلال الصهيوني لفلسطين والاحتلال الامريكي للعراق، مدخلا الى إعادة تمزيق كياناته الوطنية من خلال دق الاسفين بين الجماعات المختلفة المكونة للجماعة الوطنية، وتوظيف تمايزاتها الثقافية او الاثنية في توليد انقسامات سياسية وانتاج فتن طائفية وحروب أهلية ترهن الوطن برمته لسياسات الدول الاستعمارية وإدارتها. أولا: استراتيجية الاستقلال الوطني والقومي يقع ضمن هذه الاستراتيجية تحقيق أهداف خمسة: تحرير الارض من الاحتلال، مواجهة المشروع الصهيوني، تصفية القواعد العسكرية الاجنبية، مقاومة الهيمنة الاجنبية، بناء القدرة الاستراتيجية الذاتية. 1- تحرير الأرض العربية لا يستقيم استقلال وطني أو قومي ولا يكتمل إلا ببسط السيادة على كامل الأرض العربية وتحريرها من أي احتلال أجنبي. ومن أجل هذا الهدف، يتعين استخدام كافة الوسائل المتاحة، وفي مقدمتها المقاومة بكل أشكالها ومستوياتها، لاسيما العسكرية، الشعبية منها والنظامية حيث أمكن. لقد أثبتت تجارب الأمة السابقة والمعاصرة سلامة خيار المقاومة لتحرير الأرض واستعادة الحقوق، وأكدت أن المقاومة معركة إثر معركة، ومرحلة بعد مرحل، بدأت تتحول الى عامل حاسم في صيانة الأمن القومي، وإلحاق الهزيمة بمشاريع أعداء الأمة، الأمر الذي يتطلب انكبابا عربيا شاملا، شعبيا ورسميا، على دعم المقاومة واحتضان فصائلها ومناضليها، وإبراز أبعادها الاستراتيجية والسياسية والثقافية والإعلامية والاقتصادية و التربوية، والسعي الى توحيد فصائلها على مستوى القطر، وعلى مستوى الأمة، من أجل تعزيز فعاليتها وتسريع إنجازاتها في تحرير الأرض وطرد المحتل. إن تنامي الاعتماد على المقاومة، سلاحا وخيارا، في مواجهة أعداء الأمة، يتطلب أيضا من حركات المقاومة تطوير أدائها وخطابها، وتعميق علاقاتها الوطنية والقومية والدولية، بما يعزز الوحدة على مستوى الأقطار وعلى مستوى الأمة، ويحول دون استدراجها الى حالات انقسامية أو ممارسات فئوية تبعدها عن هدفها الرئيسي. 2- تصفية القواعد العسكرية الأجنبية إن وجود أية قاعدة عسكرية أجنبية علي أية بقعة من الأرض العربية مظهر خطير من مظاهر فقدان الأمن والاستقلال والسيادة. وقد ناضلت الحركة القومية العربية، في سنوات الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، من أجل تصفية القواعد الأجنبية وإلغاء التسهيلات العسكرية الممنوحة لقوى أو لأحلاف خارجية. ولقد أتت هذه القواعد تطل برأسها من جديد على منطقتنا بعد التحولات التي طرأت في النظامين العالمي والإقليمي منذ انهيار الاتحاد السوفياتي والحرب الأطلسية على العراق في مطالع التسعينيات من القرن الماضي. واليوم، تعج أجزاء كثيرة من الوطن العربي بقواعد وتسهيلات عسكرية أصبحت تتجاوز مجرد فرض القيد على القرار والإرادة والاستقلال إلى تهديد أمن الوطن العربي وسلامته. إن تصفية هذه القواعد، وإلغاء هذه الامتيازات والتسهيلات العسكرية الممنوحة للقوات الأجنبية، تقع في مقدمة الأهداف التي على حركة النضال العربي، المسترشدة بالرؤية النهضوية الشاملة، العمل من أجل تحقيقها صونا لأمن الوطن وسلامة أبنائه، وحماية لإرادته واستقلالية قراره. وإن نجاح قوى المشروع النهضوي العربي في تصفية هذه القواعد سيرتبط - من ضمن ما سيرتبط به - بمدى نجاحها في استيلاد آليات فعالة لتسوية المنازعات العربية - العربية بالوسائل السلمية من جهة، وإيجاد نظام فعال للأمن الجماعي القومي يدرأ التهديدات الخارجية، ويدفع الأخطار المحدقة بالوطن العربي. 3- مواجهة المشروع الصهيوني بات يتعبن على الأمة العربية ونخبها وقواها الحية أن تستعيد إدراكها لخطورة المشروع الصهيوني على مستقبل الوطن العربي ومصيره - وضمنه مستقبل فلسطين ومصيرها - و أن تطلق برنامجا قوميا لمواجهة طويلة الأمد، مرتكزا إلى العناصر والأسس التالية: 1- تعزيز وحدة الشعب الفلسطيني وتمسكه بأرضه وحقوقه كاملة، وتقديم الدعم المادي والسياسي له عبر إحداث صندوق خاص لهذا الغرض يفي بسائر احتياجاته الحياتية والمدنية، ويرفع عنه ضائقة الحاجة والفقر والتهميش، ويضمن للاجئين من أبنائه في البلدان العربية حقوقهم المدنية والسياسية كافة، مع التمسك برفض مبدأ التوطين باعتباره آلية لتصفية حق العودة. ب- التشديد على إفلاس نهج التسوية مع اسرائيل، وتقديم الدعم والإسناد للمقاومة وللمؤسسات الوطنية في فلسطين، ورعاية حوار دائم بينها من أجل تعزيز الوحدة الوطنيةووحدة قوى المقاومة، وتطوير منظمة التحرير الفلسطينية، بما يواكب التغير في الخريطة السياسية الفلسطينية. ج- التمسك العربي بالثوابت القومية المتمثلة في عدم التفريط بأي حق من حقوق الأمة العربية في فلسطين، وفي عدم الاعتراف بشرعية الكيان الصهيوني، أو التنازل له، أو عقد اتفاقات معه،و التمسك بمبدأ مقاطعته اقتصاديا ومقاطعة المؤسسات المتعاملة معه. د- الضغط من أجل تفعيل معاهدة الدفاع العربي المشترك، وتبني استراتيجية دفاعية لمواجهة خطر المشروع الصهيوني تسخر لها - و فيها - كافة الموارد العسكرية والمالية والسياسية المطلوبة والمناسبة. ه- أن يؤخذ بعين الاعتبار في رسم السياسات الخارجية العربية تجاه القوى الدولية والإقليمية موقفها من الصراع العربي - الصهيوني ومن الحقوق الوطنية الفلسطينية والحقوق القومية العربية، واستعمال العرب أوراق الضغط التي في حوزتهم، وبصفة خاصة النفط، والأرصدة المالية لدفع القوى الحليفة للكيان الصهيوني الى مراجعة مواقف الانحياز لديها. 4- مقاومة الهيمنة الأجنبية بأشكالها كافة ولقد زادت وطأة هذه الهيمنة بعد زوال الحرب الباردة وانهيار التوازن الدولي وانفراد القطب الواحد الأمريكي بإدارة شؤون العالم، ثم بانهمار وقائع العولمة وما في جوفها من تحولات باعدت الفجوة بين الأقوياء والمستضعفين في العالم .وإذا كان دفع تحديات الهيمنة والعولمة يحتاج إلى ترتيب الداخل العربي من خلال إجراء الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المطلوبة، قصد التكيف مع عالم أصبح ينهض فيه العلم والتقانة والمعلومات بدور حاسم في تشكيل معايير القوة ومحدداتها ومؤشراتها، وقصد كف الأشكال المختلفة من الاستباحة التي يتعرض لها الوطن العربي للاستيلاء على موارده وثرواته أو لمصادرة حرية قراره وفرض شروط أو صفقات غير متكافئة عليه. فإن نهوضه بأمر مواجهة تلك التحديات قد يتجاوز قدرته وإمكانياته الذاتية وحده، إن لم ينخرط في علاقات من التعاون والتنسيق مع كافة الأمم والدول والقوى المتضررة من فعل قوى الهيمنة العالمية، والمناهضة للعولمة المجحفة أو المطالبة بعولمة أكثر إنسانية، والداعية إلى قيام نظام عالمي متعدد ومتوازن القوى والمصالح. 5- بناء القدرة الاستراتيجية الذاتية إن الوطن العربي لا يملك حماية استقلاله وأمنه ومكتسباته دون حيازة قدرة استراتيجية ذاتية: دفاعية وتنموية وعلمية وتقانية، يتحصن بها الاستقلال والأمن. إنه في حاجة إلى انتهاج استراتيجية تستهدف الاستخدام الأمثل للموارد والقدرات المتاحة بشكل منهجي ومدروس وتجنيدها في سياسات تنموية قادرة على توفير أجوبة للحاجات الاقتصادية الاجتماعية للوطن والمواطنين. وهو في حاجة إلى تنمية علمية يتغذى منها المجال المعرفي وتتغذى منها التنمية الاقتصادية،وهو في حاجة إلى إعادة توطين التقانة وصولا إلى انتاجها. ثم إنه في حاجة إلى تطوير منظومته الدفاعية بتطوير البحث العلمي في المجال الدفاع وبناء صناعة عسكرية عربية مشتركة متقدمة وعصرية لتحرير القرار الدفاعي العربي من شروط وإملاءات القوى المتحكمة في سوق السلاح. وليس في وسع أية دولة عربية بمفردها أن تنهض بذلك لأن مواردها المحدودة لا تسمح به. وعليه، لا مناص من إطلاق استراتيجية قومية عربية للتنمية تعتمد التكامل والاندماج من أجل تعظيم القوة وبلوغ هدف حيازة القدرة الاستراتيجية الذاتية. ولكي تضمن استراتيجية حماية الاستقلال الوطني والأمن القومي العربي النجاح في مواجهة التحديات والضغوط الخارجية، وبصفة خاصة الصهيونية والأمريكية، لا محيد لها عن أن تكون جزءا من استراتيجية ممانعة كونية بين القوى المتضررة من الهيمنة الأمريكية على مصير العالم، والرافضة لتلك الهيمنة، في أفق تصحيح حال الخلل القائمة في التوازن الدولي، وإصلاح مؤسسات الأممالمتحدة على مقتضى العدالة والديمقراطية والمشاركة المتوازنة في صناعة القرار، وبما يضمن مصالح الإنسانية جمعاء، وخاصة شعوب «العالم الثالث»، من أجل بناء نظام عالمي جديد حقا للأمن والسلم التعاون والفرص المتكافئة. ولاشك أن القوى التي تجمعنا بها قواسم حضارية مشتركة تأتي في مقدمة القوى المؤهلة، لأن تكون حليفة للعرب في مسعاهم من أجل بناء هذه الاستراتيجية. ثانيا: استراتيجية الأمن الوطني والقومي إن نقطة الانطلاق في تصحيح وضعية الاستباحة للأمن العربي بشقيه الوطني والقومي تكمن في صياغة مفهوم عربي مشترك يستند إلى المصلحة القومية، ويضع المصالح القطرية في اعتباره، مع التشديد على أن هذه المصالح لا يجب أن تشكل أدنى تهديد للأمن العربي ككل. 1 استراتيجية الرّدع وتقوم على مبدأ تنمية المقومات والعناصر اللازمة لردع العدو عن القيام بأي عمل عسكري ضد أية بقعة من بقاع الوطن العربي. وهذا يتطلب بناء منظومة دفاعية من قوات بحرية وجوية وبرية عصرية مجهزة بأحدث المعدات ومدرَّبة على أحدث فنون القتال وبأعداد كبيرة، ومن نظام معلومات ورصد واستخبار عسكري متطور. ومن دون قيام صناعة عسكرية عربية متقدمة تلبي احتياجات الجيوش، سيظل استيراد السلاح قيداً على استراتيجية الردع، كما أنه من دون حيازة قوة ردع استراتيجية مثل السلاح النووي إذا ما تعذر إخلاء منطقة الشرق الأوسط من الأسلحة النووية لن يكون في وسع الوطن العربي رد الأخطار التي تُحدق بأمنه واستقلاله. وهذا ما أدركته، في السابق، دول مثل الصين والهند وباكستان وكوريا الشمالية، فكان حافزاً لها على الانصراف الى إقامة صناعة عسكرية تلبي احتياجاتها، وإلى بناء منظومة ردع نووي تقيها الأخطار الخارجية. 2 مواجهة التهديدات غير العسكرية وفي مقدمتها الأطماع الغربية التي لم تتوقف منذ اتفاقية سايكس بيكو، تلك التي قسمت الوطن العربي الى مناطق نفوذ. فقد ظلت الدول الغربية حتى في مرحلة ما بعد الاستقلال حريصة على ربط الوطن العربي من خلال سلسلة من المشروعات استهدفت تكريس تجزئته، وضمان استمرار تبعيته، كان آخرها مشروع الشرق الأوسط الكبير أو الموسع، وغيرها من المشروعات المماثلة، التي تعاقبت موجاتها خلال الحقب المختلفة. ولن يستطيع الوطن العربي الفكاك من إسار التبعية ومواجهة محاولات اختراقه من الخارج، إلا إذا تصدى بنجاح لهذه المشروعات، واتخذ منها موقفاً موحداً، وتبنى منهجا جماعياً في التعامل معها. ولأن مصادر تهديد الأمن القومي العربي لا تقتصر على الأطماع الخارجية واحتمالات غزوه واحتلاله عسكرياً، وإنما تتسع لتشمل مصادر أخرى غير عسكرية تتعدد أوجهها وأبعادها، فمن الأهمية بمكان أن يتبنى النظام العربي مفهوما شاملا للأمن يتضمن بالإضافة الى البعد العسكري والسياسي الاستراتيجي، أبعاداً أخرى تشمل: أ الأمن الغذائي حيث يواجه الوطن العربي انكشافاً غذائياً خطيراً بسبب عدم قدرته على تحقيق الاكتفاء الغذائي في السلع الأساسية، إذ إنه يعاني عجزاً غذائياً أخذ يتزايد في السنوات الأخيرة على نحو خطير بسبب الزيادة السكانية وعوامل التصحر وشح المياه وتدهور الإنتاجية الزراعية في عدد من البلدان العربية، مما يعرضه للرضوخ للضغوط الخارجية، ويهدد استقراره الاجتماعي. لذا يتعين على الوطن العربي أن يشرع فوراً في وضع المخططات اللازمة لسد الفجوة الغذائية من خلال زيادة الاستثمارات وتحقيق التكامل في السياسات الزراعية. ب الأمن المائي يواجه العالم وضعاً حرجاً بسبب تناقص الموارد المائية المتاحة واللازمة لسد احتياجاته المتزايدة، خاصة في مجالات النشاط الإنتاجي كالزراعة والصناعة وغيرها. ونظراً الى الخلل الشديد في توزيع الموارد المائية المتاحة على صعيد الوطن العربي تبدو الحاجة ماسة الى بلورة خطط لتنمية الموارد المائي وترشيد استهلاك المياه وتحقيق التكامل المائي على مستوى الوطن العربي ككل، وضمان حقوقه المائية التي يكفلها له القانون الدولي تجاه الدول المحيطة التي تأتي منها النسبة الأكبر من الموارد المائية السطحية العربية. ج الأمن البيئي مع تزايد المخاطر البيئية التي يتعرض لها كوكب الأرض، خاصة بسبب التغيرات المناخية والارتفاع المستمر في درجة الحرارة وما سيصاحبهما من ظواهر عديدة، سوف تتعرض مناطق كثيرة داخل الوطن العربي للغرق أو التصحر أو الجفاف، مما يفرض عليه إنشاء معاهد رصد، وإجراء البحوث اللازمة لدراسة التأثيرات البيئية والتحسب للمخاطر الناجمة عنها، ووضع الخطط والبرامج الكفيلة بمواجهة هذه المخاطر وتداعياتها. د الأمن الاجتماعي تواجه مناطق كثيرة في الوطن العربي، خاصة في الدول النفطية قليلة السكان، ظواهر اجتماعية خطيرة، في مقدمتها ظاهرة العمالة الأجنبية الوافدة التي ازدادت بشكل لافت للنظر خلال السنوات الأخيرة إلى درجة أن نسبة عدد المواطنين الى الأجانب أصبحت في بعض الأحيان أقل من 5.1 ولا يخفى ما لهذه الظاهرة من آثار سلبية في الهوية الوطنية والقومية، وفي الاستقرار السياسي والاجتماعي. ومع التشديد على ضرورة حصول العمالة الوافدة للدول العربية على حقوقها الاقتصادية والاجتماعية، فإنه يتعين في الوقت نفسه وضع استراتيجية قومية للعمالة والتوظيف تستهدف، على المدى الطويل، تصحيح الخلل القائم، والمحافظة على الهويات الوطنية والقومية لمختلف الأقطار العربية.