بدأت فكرة المشروع النهضوي العربي في التبلور منذ عام 1988 في أعقاب انتهاء مركز دراسات الوحدة العربية من إنجاز مشروعه العلمي الكبير الذي حمل اسم: مشروع استشراف مستقبل الوطن العربي (الذي أصدر المركز دراساته الجزئية والتركيبية) وطرحت توصياته - في جملة ما طرحت - الحاجة الى مشروع نهضوي (1). وقد أدرج المركز ضمن مخططه العلمي الموضوعات والقضايا التي تمثل مادة المشروع النهضوي كمسائل فكرية ذات أولوية في برامج النشر والندوات من أجل توفير مادة علمية يبنى عليها لبلورة رؤية نهضوية. في هذه الاثناء، كلف المركز بعض اصدقائه الباحثين بتقديم مقترحات حول تصور المشروع ومخططه، وتوصل الى مجموعة منها عرضت على مناقشات داخلية في عام 1996 وفي ماي 1997 عقد المركز حلقة نقاشية في القاهرة حضرها عدد من الباحثين العرب تدارست على مدى يومين مخطط المشروع الأولي، وادخلت عليه تعديلات، كما وضعت المخطط الاولي لندوة المشروع الحضاري النهضوي العربي. وقد عقد المركز هذه الندوة في فاس في عام 2001، وشارك فيها ما يزيد عن المئة باحث من التيارات الفكرية كافة، تناولت بحوثها ومناقشاتها - على مدار اربعة ايام - القضايا النهضوية الست التي تشكل اهداف المشروع وهي: الوحدة العربية، والديمقراطية، والتنمية المستقلة والعدالة الاجتماعية، والاستقلال الوطني والقومي، والتجدد الحضاري، ونشر المركز الوقائع الكاملة للندوة ضمن كتاب صدر عنه في نهاية العام نفسه (2)، وشكل المركز، عقب الندوة مباشرة، لجنة صياغة مخطط المشروع في ضوء بحوث الندوة ومناقشاتها، وقد عقدت اجتماعها التمهيدي التشاوري في فاس. وكلف المركز باحثين بإعداد مقترحات لمخطط المشروع لعرضه على اللجنة في اجتماع قادم. وقد عقد الاجتماع هذا في لبنان في يوليوز 2001، وتناول خلال يومين من المداولات - مواد المخطط الأولي بالدرس والتدقيق، منتهيا الى اقرار صيغة شبه نهائية له، ما لبث المركز أن أقرها في صيغة نهائية في غشت 2001 مشكلا فريقا لتحرير فصوله من اعضاء لجنة الصياغة. وقد أعدت اللجنة الأوراق الثماني الخلفية لنص المشروع، في ضوء حصيلة ندوة فاس ومرفقات أخرى من مواد مرجعية للاستعانة بها لهذا الغرض. ثم سمي المركز أحد اعضاء لجنة الصياغة منسقا، وكلفه في صيف عام 2004 بتحرير المسودة الاولى لنص المشروع اعتمادا الى اوراق وبحوثه الخلفية ومادة ندوة فاس. و بعد انجاز المسودة الاولى، دعا المركز الى عقد اجتماع للجنة الصياغة في القاهرة (يوليوز 2005) لمناقشة المسودة حضره خمسة عشر عضوا من اعضائها الثمانية عشر، وبعد يومين من المناقشة أحيلت الملاحظات الى منسق التحرير قصد ادخال التعديلات اللازمة على النص. ثم دعيت لجنة الصياغة الى الاجتماع ثانية في القاهرة في يوليوز 2006 لمناقشة المسودة الثانية. غير ان العدوان الصهيوني على لبنان في حرب يوليوز 2006 واغلاق المطار والحصار الذي ضرب على لبنان حال دون سفر خمسة من اعضائها الى القاهرة، مما اضطر الى تأجيله لينعقد في شكل ندوة موسعة في بيروت في نونبر 2006، دعي الى المشاركة فيها باحثون من خارج لجنة الصياغة. ثم ادخل منسق التحرير ثانية التعديلات على مسودة النص لتعرض المسودة الثالثة بعد ذلك باشهر على المؤتمر القومي العربي (2007) وترسل الى عدد كبير من الشخصيات الفكرية والسياسية العربية لإبداء الرأي فيها، وتنشر على الموقع الالكتروني للمركز لعموم القراء العرب، للغاية نفسها. وبعد أن تجمعت حصيلة وفيرة من تعليقات لجان المؤتمر القومي العربي، وآراء المفكرين والباحثين والخبراء، كلف احد اعضاء لجنة الصياغة بإدخال التعديلات الواجبة على المشروع ليصير إلى مسودته الرابعة، وعقب ذلك عقدت لجنة الصياغة اجتماعا نهائيا في بيروت في 2009 لإبداء الرأي في المسودة لإدخال آخر تعديلات عليها. لقد حرص مركز دراسات الوحدة العربية، منذ بداية عمله في هذا المشروع، على مشاركة التيارات الفكرية كافة في انجازه (من قوميين واسلاميين ويساريين وليبراليين) حتى يأتي ممثلا نظرة الاطياف الفكرية والسياسية كافة بحسبانه مشروعا للأمة جمعاء لا لفريق منها دون آخر. ولقد كان الجميع مشاركا في المراحل كافة: من اعداد المقترحات والتصورات، الى فرق العمل التي ناقشت المخطط واقرته، الى الباحثين والمشاركين في ندوة فاس، الى اعضاء لجنة الصياغة وفريق التحرير. وهاهو المركز يطرح المشروع النهضوي العربي في صورته النهائية على الامة، واثقا من انه سوف يكون دافعا قويا لنضالها من أجل تجسيد اهدافه الستة في الواقع العربي، وناظما فعالا لهذا النضال. الفصل الرابع الديمقراطية إذا كان للمشروع النهضوي العربي الجديد، ما يميزه من سواه، من مشاريع النهضة التي سبقته، منذ القرن التاسع عشر، فهو في مضمونه الديمقراطي الذي يقوم عليه، أي في حسبانه الديمقراطية ركنا مكينا من أركان النهضة، ورافعة من رافعاتها. كان يمكن القول، في ما مضى، إن النهضة تتحقق بمقدار ما ينجح مجتمع أو أمة في إنجاز التصنيع، ونشر التعليم، وبناء الجيش الحديث، وتعظيم الثروة. وقد يصح ذلك الى حد بعيد. لكن الذي ثبت بالدليل التاريخي أن الطريق الى ذلك كله هي الديمقراطية بما هي النظام الذي يحرر مواطنيه من العبودية السياسية والخوف، ويطلق الطاقات الاجتماعية للإنتاج والإبداع والتنافس وتحقيق التراكم: المادي والمعنوي ويعزز اللحمة الوطنية والقومية استنادا الى رابطة المواطنة. وما أحوج الأمة العربية، التي يعطل الاستبداد طاقات أبنائها ويستعبدهم من المشاركة في صنع مصيرهم، الى الديمقراطية وسيلة لطلب التقدم، ونظاما لتحقيق الآمال النهضوية المعلقة منذ قرنين من الزمان، وذلك دون السقوط في شرك الوهم بأن الديمقراطية وحدها كفيلة بمواجهة كافة العقبات التي تعترض تجسيد المشروع النهضوي الجديد في الواقع العربي، فالديمقراطية شرط ضرورة وليس شرط كفاية. أولا: في ضرورة الديمقراطية حاجة الوطن العربي الى الديمقراطية حاجة حيوية لا غنى عنها حتى تستقيم أوضاعه وتنفتح أمامه سبل الخروج من أصفاد الكبت السياسي والاستبداد، ويتحصل أبناؤه حقوقا لهم أهدرتها حقب القمع، فكيف إذا كان الهدف بناء نهضة: هذه التي لا طريق إليها سوى طريق التطور الديمقراطي. الديمقراطية إذن ضرورة تاريخية وسياسية بالمعاني الثلاثة التالية: 1 إنها ضرورة، ابتداء لكونها حقا عاما للشعب والأمة. فهي ليست ترفا سياسيا يطلبه المواطنون العرب لهم، بل حاجة أساسية لهم. إنها في جملة ما لهم من حقوق أسوة بغيرهم من شعوب الأرض. وهي حقوق ليست قابلة للحجب أو للانتقاص تحت أي عنوان آخر، والمساس بها في مقام العدوان عليها. وهي ليست منة من حاكم يقدمها بالتقسيط، بل استحقاق تفرضه المواطنة وعائداتها السياسية على من يفترض أنهم مواطنون يتمتعون بحقوق المواطنة، إنها «الضريبة السياسية» التي على الدولة أن تدفعها للمواطنين مثل الأمن تماما لقاء الضرائب التي يدفعها المواطنون للدولة. 2 وهي ضرورة، ثانيا، لأنها الوسيلة الأمثل لإطلاق طاقات المجتمع والشعب، وتحريرها من السلبية والتواكل، والزج بها في معركة البناء الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي. فالمجتمع العربي كغيره من المجتمعات البشرية لا يملك أن يكسب معركة التنمية أو يجابه تحدياتها المتلاحقة دون تسخير طاقاته البشرية كافة. ولا يكون ذلك إلا بفك قيد العبودية السياسية عنها وتحرير إرادتها المصادرة، ونيلها فرص المشاركة في صنع المستقبل والمصير وطنيا وقوميا. 3 ثم إنها ضرورة ثالثا لأنها القاعدة التي تبنى عليها العلاقة بين الدولة والمجتمع في المجتمعات الحديثة، التي ينبغي بالتالي أن تقوم عليها العلاقة إياها في الوطن العربي. فحين لا تستقيم العلاقة بين الدولة والمجتمع، يشعر المواطنون بأنهم محض رعية للسلطان، وتنشأ أسباب الاحتقان والاضطراب والحراك النازع نحو العنف، وحين تقوم على قاعدة الديمقراطية، يكون المجتمع في صدارة من يحمي الدولة ويدافع عنها على خلفية شعوره بأنها دولته. وما أكثر التحديات التي تتعرض لها الدولة في الوطن العربي اليوم وتهددها في وحدتها السياسية. وما أكثر حاجة الدولة اليوم الى شعب يحميها ويذوذ عن بقائها. ولو أمكن أن تنتظم العلاقة بين الدولة والمجتمع، وبين السلطة والشعب، على مقتضى ديمقراطي، لأمكن تحصين جبهة الوطن الداخلية في وجه أي خطر خارجي أو داخلي. وإن الحاجة الى الديمقراطية في علاقة الدولة بالمجتمع هي عينها الحاجة إليها لبناء العلاقة بين الكيانات العربية صونا لوحدتها وتعزيزا لتماسكها الجماعي في مواجهة التحديات المشتركة. ثانيا: الشورى والديمقراطية مهما قيل إن الديمقراطية نظام سياسي حديث أرسته الثورات الاجتماعية العاصفة، المتشبعة بفكر الأنوار، ضد الأنظمة الإقطاعية والملكيات المطلقة المستبدة، ورسخته الثورات الاجتماعية اللاحقة في القرنين التاسع عشر والعشرين، فإن مما لاشك فيه أن حضارتنا العربية الاسلامية وتعاليم الدين الاسلامي الحنيف زودتنا بمبادئ ترتبط في محتواها بالمبادئ عنها التي قام عليها النظام الديمقراطي: سلطة الأمة ومرجعيتها والرقابة على الحاكم. وهي التي عبر عنها مفهوم الشورى الاسلامي: في دلالته القرآنية وفي بعض التطبيق التاريخي، وخاصة في عهد الخلافة الراشدة. إن مقتضى الشورى، مفهوما، أن أمر السياسة والحكم متروك للجماعة تتوافق عليه. وتطبيقها ان السلطة في المسلمين تقوم من خلال اختيار الحاكم، لا بالتعيين أو بالتوريث، وأن الاختيار يقع بمقتضى عقد (المبايعة) يشترط على الحاكم شروطا عليه التزامها وإلا انتقضت بيعته. كما ان الجماعة التي اختارته تملك حق الاحتساب (الرقابة) عليه، وتملك حق خلعه إن نقض ميثاق التولية. وأمام محاولات «الخلفاء» الالتفاف على مبدأ الشورى وإفراغه من محتواه القرآني، قرر المجتهدون من فقهاء ذات طابع إلزامي لا يقبل التحلل منه، فهي ملزمة وليست معلمة. وقد يقال إن الشورى لم تتسع في تطبيقها التاريخي لإمكانية مشاركة الأمة والجماعة كافة في اختيار الحاكم وممارسة الحسبة، وإنما حصرت في «أهل الحل والعقد» وهو ما يخالف النظام الديمقراطي الذي يوفر حق الاختيار للعموم من خلال الانتخاب والاقتراع. غير أنه وجد من مفكري الاسلام المحدثين، منذ القرن التاسع عشر حتى اليوم، من اعتبر «أهل الحل والعقد» هو نواب الأمة في المجلس النيابي اليوم، وفي الاحوال جميعا، من المهم الانصراف عن عقد مقارنات غير تاريخية بين شكلين من النظام السياسي، والانصراف الى التشديد على الجامع والمشترك بينهما وهو: سلطة الأمة على نفسها واختيارها من يحكمها وحقها في ممارسة الاحتساب على من يقوم على أمرها. إن محاولة دق إسفين بين الديمقراطية والشورى وفك الارتباط بين معنييهما بدعوى الاختلاف بينهما في الفلسفة الضمنية المؤسسة لكل منهما، أو بدعوى برانية الديمقراطية عن الاسلام وتلازمها مع العلمانية، لا تخدم النضال من أجل الديمقراطية في شيء. ثالثا: الديمقراطية نظام شامل للحكم إن الديمقراطية نظام شامل للحكم لا تقبل تجزئة عناصرها أو انتقاء بعضها دون آخر، ولا يوصف نظام سياسي ما بأنه ديمقراطي إلا متى اجتمعت فيه المبادئ والقواعد كافة التي تقوم عليها الديمقراطية كنظام سياسي. وثمة عناصر / مبادئ سبعة كبرى تؤسس هذا النظام وتمنحه ماهيته: أولها، الحرية: حرية الرأي والتعبير والنشر والتنظيم... أي جملة ما يجعل الأفراد مواطنين: يمارسون حقهم في مواطنتهم، من دون قيد على حرياتهم إلا ما يفرضه احترام حريات الآخرين، ومن دون رقابة على أفكارهم إلا ما كان يدعو منها الى تهديد نظام الحريات والديمقراطية ويحرض على العنف السياسي الأهلي، ومن دون انتقاص من الحق في التنظيم وتشكيل الجمعيات السياسية إلا ما كان يقوم منها على أساس عرقي أو طائفي أو مذهبي أو عشائري... وثانيها، التعددية السياسية والحق في المشاركة، أي إقامة السياسة على مقتضى الحق العام أو الإقرار بأنها حق عام لطبقات المجتمع وفئاته ونخبه، بما يعني منع أي شكل من أشكال احتكار التمثيل السياسي من قبل حزب حاكم واحد، أو حزب قائد لجبهة أحزاب «حاكمة»، وأي شكل من أشكال مصادرة الحياة السياسية وإسقاط نظام الحزبية بدعوى عدم تمزيق وحدة الشعب! ولا يكفي إقرار التعددية السياسية إن لم يكفل حق كافة الاحزاب والمنظمات في المشاركة السياسية وفي التنافس المشروع على التمثيل السياسي وكسب الرأي العام بالوسائل الديمقراطية. وثالثها، النظام التمثيلي (المحلي والنيابي) المشمول بالضمانات القانونية والدستورية التي تكفل: حرية الاقتراع لكل المواطنين البالغين حق التصويت والمسجلين في القوائم الانتخابية، وإحاطة العملية الانتخابية بأسباب الشفافية والنزاهة، ومنع أي شكل من أشكال مصادرة الإرادة الشعبية وتزوير التمثيل، إما من خلال التدخل غير المشروع للإدارة في نتائج الانتخابات، وإما من خلال استعمال المال السياسي لشراء الأصوات والذمم والضمائر والتحكم في اتجاهات اختيار الناخبين. حق الرقابة على السلطة وممارستها من خلال وسائط الرقابة كافة: المساءلة النيابية للسلطة التنفيذية، والرقابة على صرف المال العام، والرقابة الشعبية على إدارة السلطة. إن النظام التمثيلي في الديمقراطيات الحديثة هو الشكل المؤسسي للتعبير عن مبدأ السيادة الشعبية أو عن المبدأ القائل بأن الشعب مصدر السلطة: يمارسها عبر ممثلين ينتخبهم بحرية. ورابعها: إقامة النظام السياسي على قاعدة الفصل بين السلطات واحترام استقلالية القضاء. وخامسها، التداول الديمقراطي للسلطة وإقرار مبدأ حق الأكثرية السياسية التي أفرزتها الانتخابات النزيهة في تشكيل السلطة التنفيذية وإدارتها عملا بمبدأ ان السلطة حق عام للشعب والأمة، وليست حقا خاصا لحزب أو فئة أو أسرة أو فرد. وسادسها، الذي تتوقف عليه سائر المبادئ المذكورة، هو النظام الدستوري، الذي يمثل النظام الأساس للدولة وينظم سلطاتها كافة والعلاقات بين أجهزتها والحقوق المدنية والسياسية لمواطنيها. وهو النظام الذي ينبغي أن توكل كتابته الى هيئة تأسيسية منتخبة ويجري إقراره بواسطة الاستفتاء الشعبي عليه. وسابعها، نظام اجتماعي اقتصادي عادل يتمتع فيه المواطنون بحقوق متساوية، وفرص متكافئة على النحو الذي يوفر لهم الحماية ضد انتهاك إرادتهم السياسية، وحريتهم في التعبير عن آرائهم، واختيار من يرونه الأصلح لتمثيلهم. إن تطبيق مبدأ من هذه المبادئ دون آخر يسقط عن النظام ماهيته الديمقراطية، فالديمقراطية نظام شامل وكل لا يقبل التجزئة. رابعا: آليات تحقيق الديمقراطية وتعزيزها ولتحقيق الديمقراطية، ثمة آليات من شأنها أن تهيئ الشروط التحتية لإشاعة الثقافة والقيم الديمقراطية في المجتمع العربي، وأن تسرع من وتائر الضغط الشعبي في اتجاه تحقيق عملية الانتقال الديمقراطي، وأن تساهم في توحيد الجهد النضالي من أجل الديمقراطية على الصعيد القومي، ومن أهم هذه الآليات: 1 نشر ثقافة الديمقراطية وحقوق الإنسان وتعزيزها وطنيا وقوميا، من خلال إقرار موادها في المقررات المدرسية وفي معاهد تكوين الشرطة وأجهزة الأمن، كما من خلال تسخير وسائل الاعلام المكتوب والسمعي البصري لهذا الغرض. 2 تفعيل حركة حقوق الإنسان داخل كل بلد عربي وعلى الصعيد القومي، وتوحيد جهدها النضالي وبرامج عملها على نحو يتعاظم فيه تأثيرها في مجال إنتاج رأي عام ديمقراطي، وفي مجال الضغط على النخب الحاكمة من أجل إقرار حقوق الانسان بمعاييرها الكونية واحترامها. 3 إحداث آليات للعمل الديمقراطي على الصعيد القومي وإطلاق مؤسساته من قبيل إنشاء منظمة عربية لحقوق المرأة، عربية لحقوق الطفل، ومنظمة عربية لحماية البيئة، ولجنة حقوقية عربية موحدة لمراقبة نزاهة الانتخابات، ومجلس دستوري عربي، ومجلس أعلى للقضاة العرب، وبرلمان شعبي عربي، وما شاكل ذلك من مؤسسات قومية للعمل الديمقراطي. خامسا: الديمقراطية كنظام اجتماعي ليست الديمقراطية نظاما سياسيا أو نظاما للدولة فحسب، وإنما هي أيضا نظام اجتماعي أو نظام للمجتمع. ولا يكفي، من منظور المشروع النهضوي، أن ينصرف النضال من أجل الديمقراطية الى النضال من أجل «ديمقراطية» الدولة فحسب، بل ينبغي أن ينصرف في الوقت نفسه الى النضال من أجل «ديمقراطية» المجتمع. وقد يكون من الأولى أن يقال، في هذا الباب، إنه كلما تقدمت العلاقات الديمقراطية داخل المجتمع، تعظمت فرص قيام النظام السياسي الديمقراطي. وفي الحديث عن الديمقراطية بوصفها نظاما اجتماعيا، ينبغي التشديد على الوظائف الاجتماعية الأربع للديمقراطية. أولها، أن الديمقراطية إذ تؤسس علاقة المواطنة، بوصفها علاقة تشد أفراد المجتمع الى ولاء عام للدولة يعلو على علاقاتهم الاهلية وولاءاتهم الفرعية، ويقيم المساواة بينهم في الحقوق والواجبات بصرف النظر عن الدين والجنس والعرق، تقدم في الوقت نفسه قاعدة لحل مسألة الاندماج الاجتماعي التي تعانيها المجتمعات العربية نتيجة هشاشة النسيج الاجتماعي وثقل الموروث العصبوي والتفاوت في مستوى مشاركة الجماعات الاجتماعية في السلطة. وهكذا، كلما ترسخت الديمقراطية وسادت علاقة المواطنة، أعيد صوغ النسيج الاجتماعي على نحو تتضاءل فيه الانقسامات العمودية الموروثة، وتتسع وشائج الترابط والاندماج الاجتماعيين. وكلما اتسع نطاق الاندماج الاجتماعي، توطدت أركان الديمقراطية ورسخت علاقاتها في الدولة والنظام السياسي. وثانيها، أن الديمقراطية السياسية لا تستقيم في الوطن العربي إلا متى أمكن للمرأة أن تخرج من هامشيتها أو تهميشها واستبعادها لكي تشارك مشاركة فعالة في الحياة السياسية أسوة بالرجل. ولا يمكن لذلك أن يتم إلا بمقاومة ثقل التقليد الذكوري في المجتمع العربي، وإقرار علاقة المساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق والفرص كافة، دون تمييز أو انتقاص. إن الديمقراطية في العلاقة بين الرجل والمرأة هي رافعة للديمقراطية في المجتع والدولة على السواء. وثالثها، أن الديمقراطية السياسية لا تستقيم بغير إعادة تأهيل النظام الأسري والنظام التربوي على القيم الديمقراطية بحيث تسود فيه، وينتظم بها أمر العلاقة بين الآباء والأبناء، بين المربين والمتعلمين، وبحيث تصبح الأسرة والمدرسة مؤسستين للتنشئة والتربية على القيم الديمقراطية من أجل خلق المواطن الديمقراطي في وطننا العربي. أما رابعها، فهو أن إقامة النظام السياسي الديمقراطي ممتنعة عن التحقق إن لم تكن أدوات النضال الديمقراطي نفسها ديمقراطية. إن المبدأ القائل إنه لاديمقراطية من دون ديمقراطيين صحيح من غير شك. وعليه، إذا لم يكن في وسع المؤسسات الحزبية والنقابية والمنظمات الشعبية في الوطن العربي أن ترسى العلاقات الديمقراطية في عملها العام وفي أطرها التنظيمية، وأن ترسخ القيم المؤسسية فيها، وتفتح مواقع المسؤولية فيها أمام مبدأ التداول، فكيف سيكون في إمكانها أن تناضل من أجل دولة ديمقراطية، ومن أجل تداول ديمقراطي للسلطة؟ بل أية صدقية ستبقى لمطالبها الديمقراطية أمام جمهور يعاين غياب الديمقراطية فيها؟ إن تصحيحا ديمقراطيا لأوضاع المؤسسات الشعبية في الوطن العربي، هو المدخل الذي لا مدخل سواه الى ترشيد النضال الشعبي العربي من أجل الديمقراطية. يفترض المشروع النهضوي العربي أن المعركة من أجل النهضة تمر من بوابة المعركة من أجل الديمقراطية، وبناء دولة الحق والقانون. لكن هذه أيضا تتلازم في الوقت نفسه مع النضال من أجل الديمقراطية في المجتمع: في الأسرة والمدرسة والنقابة والحزب والجمعية، وفي العلاقة بين الجنسين. أما التشديد على مبدأ التلازم بين المعركتين، فمرده الى أن كل واحدة منهما تستدعي الأخرى وتتغذى من نتائجها. أما الفصل بينهما بدعوى أولوية السياسي على المجتمعي أو العكس، فلن تكسب منه المعركة من أجل الديمقراطية سوى تبعثر الصفوف وفقدان البوصلة التي تسترشد بها.