بدأت فكرة المشروع النهضوي العربي في التبلور منذ عام 1988 في أعقاب انتهاء مركز دراسات الوحدة العربية من إنجاز مشروعه العلمي الكبير الذي حمل اسم: مشروع استشراف مستقبل الوطن العربي (الذي أصدر المركز دراساته الجزئية والتركيبية) وطرحت توصياته - في جملة ما طرحت - الحاجة الى مشروع نهضوي (1). وقد أدرج المركز ضمن مخططه العلمي الموضوعات والقضايا التي تمثل مادة المشروع النهضوي كمسائل فكرية ذات أولوية في برامج النشر والندوات من أجل توفير مادة علمية يبنى عليها لبلورة رؤية نهضوية. في هذه الاثناء، كلف المركز بعض اصدقائه الباحثين بتقديم مقترحات حول تصور المشروع ومخططه، وتوصل الى مجموعة منها عرضت على مناقشات داخلية في عام 1996 وفي ماي 1997 عقد المركز حلقة نقاشية في القاهرة حضرها عدد من الباحثين العرب تدارست على مدى يومين مخطط المشروع الأولي، وادخلت عليه تعديلات، كما وضعت المخطط الاولي لندوة المشروع الحضاري النهضوي العربي. وقد عقد المركز هذه الندوة في فاس في عام 2001، وشارك فيها ما يزيد عن المئة باحث من التيارات الفكرية كافة، تناولت بحوثها ومناقشاتها - على مدار اربعة ايام - القضايا النهضوية الست التي تشكل اهداف المشروع وهي: الوحدة العربية، والديمقراطية، والتنمية المستقلة والعدالة الاجتماعية، والاستقلال الوطني والقومي، والتجدد الحضاري، ونشر المركز الوقائع الكاملة للندوة ضمن كتاب صدر عنه في نهاية العام نفسه (2)، وشكل المركز، عقب الندوة مباشرة، لجنة صياغة مخطط المشروع في ضوء بحوث الندوة ومناقشاتها، وقد عقدت اجتماعها التمهيدي التشاوري في فاس. وكلف المركز باحثين بإعداد مقترحات لمخطط المشروع لعرضه على اللجنة في اجتماع قادم. وقد عقد الاجتماع هذا في لبنان في يوليوز 2001، وتناول خلال يومين من المداولات - مواد المخطط الأولي بالدرس والتدقيق، منتهيا الى اقرار صيغة شبه نهائية له، ما لبث المركز أن أقرها في صيغة نهائية في غشت 2001 مشكلا فريقا لتحرير فصوله من اعضاء لجنة الصياغة. وقد أعدت اللجنة الأوراق الثماني الخلفية لنص المشروع، في ضوء حصيلة ندوة فاس ومرفقات أخرى من مواد مرجعية للاستعانة بها لهذا الغرض. ثم سمي المركز أحد اعضاء لجنة الصياغة منسقا، وكلفه في صيف عام 2004 بتحرير المسودة الاولى لنص المشروع اعتمادا الى اوراق وبحوثه الخلفية ومادة ندوة فاس. و بعد انجاز المسودة الاولى، دعا المركز الى عقد اجتماع للجنة الصياغة في القاهرة (يوليوز 2005) لمناقشة المسودة حضره خمسة عشر عضوا من اعضائها الثمانية عشر، وبعد يومين من المناقشة أحيلت الملاحظات الى منسق التحرير قصد ادخال التعديلات اللازمة على النص. ثم دعيت لجنة الصياغة الى الاجتماع ثانية في القاهرة في يوليوز 2006 لمناقشة المسودة الثانية. غير ان العدوان الصهيوني على لبنان في حرب يوليوز 2006 واغلاق المطار والحصار الذي ضرب على لبنان حال دون سفر خمسة من اعضائها الى القاهرة، مما اضطر الى تأجيله لينعقد في شكل ندوة موسعة في بيروت في نونبر 2006، دعي الى المشاركة فيها باحثون من خارج لجنة الصياغة. ثم ادخل منسق التحرير ثانية التعديلات على مسودة النص لتعرض المسودة الثالثة بعد ذلك باشهر على المؤتمر القومي العربي (2007) وترسل الى عدد كبير من الشخصيات الفكرية والسياسية العربية لإبداء الرأي فيها، وتنشر على الموقع الالكتروني للمركز لعموم القراء العرب، للغاية نفسها. وبعد أن تجمعت حصيلة وفيرة من تعليقات لجان المؤتمر القومي العربي، وآراء المفكرين والباحثين والخبراء، كلف احد اعضاء لجنة الصياغة بإدخال التعديلات الواجبة على المشروع ليصير إلى مسودته الرابعة، وعقب ذلك عقدت لجنة الصياغة اجتماعا نهائيا في بيروت في 2009 لإبداء الرأي في المسودة لإدخال آخر تعديلات عليها. لقد حرص مركز دراسات الوحدة العربية، منذ بداية عمله في هذا المشروع، على مشاركة التيارات الفكرية كافة في انجازه (من قوميين واسلاميين ويساريين وليبراليين) حتى يأتي ممثلا نظرة الاطياف الفكرية والسياسية كافة بحسبانه مشروعا للأمة جمعاء لا لفريق منها دون آخر. ولقد كان الجميع مشاركا في المراحل كافة: من اعداد المقترحات والتصورات، الى فرق العمل التي ناقشت المخطط واقرته، الى الباحثين والمشاركين في ندوة فاس، الى اعضاء لجنة الصياغة وفريق التحرير. وهاهو المركز يطرح المشروع النهضوي العربي في صورته النهائية على الامة، واثقا من انه سوف يكون دافعا قويا لنضالها من أجل تجسيد اهدافه الستة في الواقع العربي، وناظما فعالا لهذا النضال. الفصل الثالث الوحدة لكل أمة، في أية مرحلة من تاريخها، قضية كبيرة في الاهمية يتجه اهتمامها إليها وتتطلع الى تحقيق الهدف المتصل بها. وتكون أهميتها عادة حصيلة مشاعر الناس وتفكير النخب وإيحاء الظروف المحيطة. ولقد كانت قضية الامة العربية، منذ ميلاد الوعي القومي المشتبك مع حركة التتريك، وإلى حد الآن، هي تحقيق هدف التوحيد القومي. وبعد مرور عقود على ظهور المشروع القومي - الذي كرسها قضية رئيسة - طرأت على الاوضاع في الوطن العربي وفي العالم تحولات كبيرة كان من الطبيعي ان تلقي بتأثيراتها الكبيرة على القضية هذه: فهما لها وطرائق مناهج وأساليب في العمل من أجلها. وهي التحولات التي تفرض الحاجة الى إعادة وعي مسألة الوحدة في ضوء معطياتها وتحدياتها، واشتقاق الصيغ والاساليب المناسبة لتحقيقها. فقد نجحت القوى الاستعمارية في تكريس التجزئة، ونجحت معها القوى المحافظة - الموجودة على رأس السلطة في الدولة القطرية - في تنمية هذه الدولة وتقويتها وترسيخها في مرحلة أولى، ثم أدى أداؤها وتبعيتها ومصالحها الى إضعافها وتعريضها للتفتيت في مرحلة ثانية. وأتي ذلك كله مترافقا مع تدخل خارجي معاد لمشروع التوحيد القومي، ومع تكريس للمشروع الصهيوني في قلب الوطن العربي. ولم تستطع جامعة الدول العربية ان تخترق السقف السياسي الذي رسمته لها السياسات العربية المحكومة بخلفياتها المحلية، ولا ان تطلق آليات توحيدية تتخطى عقبة السيادة والامن في حدودهما القطرية الى توليد فضاء قومي أرحب للعلاقات الاقتصادية والسياسية والامنية. كما لم تنجح تجربة الوحدة المصرية - السورية في البقاء طويلا الى الحد الذي تطلق فيه آليات للتوحيد في مجمل أقاليم الوطن العربي. وأعقبتها محاولات أخرى فاشلة للوحدة بين بلدين او أكثر لم تكن مزودة برؤية قومية او إرادة سياسية. ثم بدا كما لو أن الميل الوحدوي بدأ يتجه نحو صيغة التجمعات الاقليمية الفرعية، بدل الفضاء العربي الجامع، قبل ان يعلن ذلك الميل عن حدوده المتواضعة وخاصة في أعقاب أزمة الخليج وحربه (1991/1990). ولقد كان يمكن ان تتحول التجمعات الفرعية العربية الثلاثة («مجلس التعاون لدول الخليج العربية»، و«مجلس التعاون العربي»، و«اتحاد المغرب العربي») الى نواة كبيرة لعملية التوحيد القومي لو قامت على أمرها نخب سياسية مؤمنة بفكرة الوحدة - مثلما كان يمكنها ان تتحول الى أطر للتعاون والتكامل الاقتصادي والتجاري والمال تسهل سيرورة الاندماج او الاعتماد المتبادل. والواقع ان العلاقات البنيوية داخل هذه التجمعات لم تكن تمثل حالة أرقى من مثيلتها على صعيد النظام العربي ككل، ناهيك عن أن أحدها كان متعلقا على أعضائه، فيما كان تجمع ثان منفتحا على العضوية من خارج النظام العربي بما يقضي على فكرة ان يكون آلية للتوحيد القومي الشامل. وعموما فقد انتهت الى الاخفاق عند أول امتحان سياسي («مجلس التعاون العربي»، «اتحاد المغرب العربي») فيما يخشى أن يمعن «مجلس التعاون الخليجي» في انكفائه الاقليمي أكثر فأكثر. واذ نجحت تجارب في توحيد الكيان الوطني في دولة، على نحو ما حصل في المملكة العربية السعودية، وليبيا، والامارات العربية المتحدة، واليمن، فقد تعرضت بلدان عربية أخرى لخطر التمزيق وبرزت فيها حركات انفصالية وبرزت فيها حركات انفصالية او مشاريع فيدرالية وتقسيم هددت وحدتها (لبنان، المغرب، السودان، العراق، الصومال، اليمن). ولم تلبث محاولات الانقضاض على النظام الاقليمي العربي ان أخذت جرعة أعلى، في سياق زحف حركة العولمة، فأطلت بصيغ مختلفة مثل «النظام الشرقي اوسطي»، و«النظام المتوسطي»، واتفاقات الشراكة العربية - الاوربية، او مناطق التجارة الحرة مع الولاياتالمتحدة، هادفة الى فك الرابطة القومية والاقليمية بين البلدان العربية، وإعادة ربط هذه بمراكز اقليمية او خارجية وتزوير هويتها. وثمة جدول حول ما اذا كان زحف العولمة حمل معه تحديات قد تكون دافعة نحو أشكال جديدة من الممانعة والتوحيد في مناطق مختلفة من العالم، وخاصة في المراكز الصناعية والرأسمالية المتقدمة فقد ولد في أحشائه «الاتحاد الاوربي»، الذي أخذ في التوسع شرقا، ونشأت بالتوازي معه تجمعات اقليمية ضخمة مثل اتفاقية التجارة الحرة لشمال امريكا «النافتا»، ومجموعة دول جنوب شرق آسيا «الآسيان». ولم تلبث أمريكا اللاتينية ان شهدت أشكالا من هذه الدينامية التوحيدية بين مجتمعاتها. وهو ما قد يرتب اعتقادا بأن العولمة اذ تطيح بحصون الاوطان والوحدود وسياداتها، وتميل الى استلحاق الهوامش بالمراكز، تفتح الباب - في الوقت نفسه - امام خيار التجمع والتوحيد بحسبانه الخيار الوحيد الذي تبقى في حوزة الدول والمجتمعات لكف الآثار السلبية للعولمة وتأهيل نفسها للبقاء وللمنافسة. ومع ذلك فإن حصيلة السعي الى تجسيد هذا الخيار على الصعيد العالمي تبدو محدودة، وهو ما يشير الى الصعوبات التي تكتنف هذه العملية، ناهيك عن السياق العربي الذي تنشط فيه قوى الهيمنة العالمية سعيا الى تمزيق النظام العربيا و إلحاقه بأطر أوسع غير عربية. إن حقائق التراكم الذي حققه النضال من أجل الوحدة، وتجارب الاخفاق او الانتكاس التي تعرض لها، والتحديات الكونية الجديدة التي تفرض نفسها عليه، تؤسس الحاجة مجددا الى إعادة صوغ مطلب الوحدة في ضوء دروس الماضي ومتلبات المستقبل، وذلك من خلال تجاوز الاسباب الذاتية التي أعاقت بناء المشروع القومي الوحدوي على أسس صحيحة وواقعية، والاستفادة من دروسها في عملية اعادة البناء. ان المبدأ الذي يؤسس هذه الرؤية على مركزية الوحدة العربية في مشروع النهضة العربية هو أن لا نهضة للأمة من دون وحدتها القومية.وهو ليس مبدأ نظريا نستفيده بعملية استنباط ذهني، بقدر ماهو ترجمة مادية - وحصيلة موضوعية - للسيرورة التاريخية التي قطعتها مجتمعات وأمم في سبيل تحقيق نهضتها، التي أتى انجاز وحداتها القومية المدخل اليه والرافعة السياسية التي عليها قام. اولا: في ضرورة الوحدة العربية ويرتبط بهذا المبدأ القول ان الوحدة ضرورة حيوية ووجودية للامة العربية. وليس مصدرهذه الضرورة ما يقوم بين العرب - على اختلاف اقطارهم وطبقاتهم - من عوامل الاشتراك في اللغة والقيم الثقافية والمرورث التاريخي والحضاري فحسب، بل تفرضها عليهم المصلحة المشتركة: تحديات الحاضر والمستقبل في ميادين التنميةا لقتصادية والعلمية ولاثاقيفة والامن القومي وضروراتا لبقاء، مثلما يرتبط به القول ان الوحدة القومية حق شرعيو مشروع للامة العربية،لأنها تعرضت للتجزئة الاستعمارية، وجرى تقسيم وحدتها الجغرافية والبشرية بالعنف. وهي حين تناضل من أجل حقها في التوحيد القومي، فهي تفعل ذلك اسوة بغيرها من الأمم التي انجزت وحدتها القومية. ان الوحدة العربية ليست ضرورية فقط لا ننا امة لها عوامل توحيدية من مواريث تاريخها، بل ايضا لاننا نحتاج اليها من اجل التنمية ورفع مستؤى المعيشة للمواطن، ومن اجل حماية الوطن والشعب والدفاع عن الوجوند القومي والمصالح المشروعة، خاصة في عالم تتزايد فيه التكتلات الكبيرة كضرورة للمنافسة والبقاء. وكما ان الوحدة العربية ضرورية للاسباب البديهية التي ذكرنا، فهي ضرورية لسببين لا سبيل الى انكار ما ينجم عن فعلهما من اثار بالغة السوء بالنسبة الى مستقبل الوطن العربي ومصير الامة. اولهما الفشل الذريع الذي منيت به الدولة القطرية في الجواب عن معضلات التنمية والامن والتقدم الاجتماعي. وهو فشل ناجم عن هشاشة تكوينها، وعن محدودية مواردها الاقتصادية وقواها البشرية، وعن انغلاقها الكياني على نفسها مخافة تأثيرات علاقاتها بمحيطها العربي، فلقد باتت الدولة القطرية عالة على نفسها نتيجة ما حصلته من نتائج، وبات خروجها من محيطها الذاتي الخانق نحو علاقة افقية عميقة بنظيراتها في الوطن العربي شرطا لخروجها من حال الاندحار. على أن يكون واضحا ان هذه العلاقة لن تؤتي ثمارها المرجوة ما لم تحكم الدولة القومية بواسطة نظام صالح. وثانيهما الوطأة الشديدة للتحديات الجديدة التي اطلقها زحف العولمة على العالم، ففي قلبها تحدي الاطاحة بالحدود والاوطان والحاق اقتصادات العالم بالمراكز الرأسمالية الغربية الحاق اذناب، وافقاد تلك الاقتصادات دفاعاتها الذاتية ضد الاستباحة الخارجية او قدراتها على المنافسة. وليس امام الوطن العربي لكف اثار ذلك الزحف الجارف للعولمة سوى الوحدة افقا وحيدا وآلية دفاعية للبقاء. اذا كانت الوحدة ضرورية لكل هذه الاسباب، فإن أول ما يطرح نفسه على حركة النضال من اجلها ان تعيد وعي العلاقة الثنائية الاساس الحاكمة للوعي الوحدوي العربي. ثنائية القومي / القطري، بما يبدد الكثير من التباساتها التي لم يستفد منها نضالنا القومي. ثانيا: في العلاقة بين القومي والقطري لقد اثبتت التجربة التاريخية ان الدولة القطرية (او الدولة الوطنية) لا يمكن ان تزول من الوجود لمجرد ان معظمها نشأ نشأة غير شرعية كحصيلة لفعل التجزئة، ولالمجرد وجود ارادة وحدوية في زوالها. ذلك ان هذه الدولة نجحت - عبر اجيال ثلاثة - في بناء بعض من شرعيتها (شرعية الامر الواقع) التي تمدها اليوم باسباب البقاء، خاصة في ظل تأبيد القوى الدولية والداخلية المتضررة من المشروع الوحدوي العربي، بما في ذلك العمل على منع اية اشكال وحدوية تتعارض مع مصالح تلك القوى، مثلما اثبتت التجربة ان خوف الدولة القطرية على نفسها من الزوال بعملية توحيد قومي لا يزيدها الا استنهاضا لفاعلياتها الدفاعية والانكفائية في وجه الفكرة القومية والمشروع الوحدوي. ثم ان الفكرة القومية التقليدية إلى زوالها، لم تقدم شيئا للمشروع التوحيدي، ولا فتحت افقا امام تحقيقه، ولقد آن لإعادة النظر في ذلك الموقف التقليدي من الدولة القطرية على قاعدة الاعتراف بها والمصالحة معها ككيان واقعي، والانطلاق في العمل الوحدودي منها كخامة او كمادة وليس على أنقاضها. مثلما آن الاوان للتسليم بقاعدة جديدة في المشروع القومي التوحيدي، مقتضاها ان وحدة الكيان القطري (الوطني) مدخل نحو الوحدة العربية، وليس العكس. ان المبدأ الذي يؤسس هذه الرؤية على مسألة الوحدة هو انه كلما احرزت الدولة القطرية (الوطنية) تقدما في توحيد كيانها الوطني، وفي تحقيق التنمية الاقتصادية والعلمية، و في توزيع الثروة توزيعا عادلا، وفي بناء أسس حياة ديمقراطية، وفي حفظ امنها الوطني وتنمية قدراتها الدفاعية من اجل ذلك، توافرت لمشروع ا لوحدة العربية مقدماتها التحتية الضرورية. ويرتبط بهذا القول بانه كلما نجحت الدولة القطرية (الوطنية) في تحقيق الاندماج الاجتماعي الداخلي بين الجماعات المختلفة المكونة للكيان، انفتحت الطريق امام تحقيق الاندماج القومي. وفي الحالين، تشكل الدولة القطرية مختبر فكرة الوحدة وعينتها التمثيلية التي تدل عليها سلبا او ايجابا. وفي هذا السياق، من الواضح ان الوحدة العربية تواجه الآن واحدا من اخطر تحدياتها والمتمثل في الخطر الداهم الذي يحدق بالوحدة الوطنية او القطرية في عديد من الاقطار العربية،سواء كان ذلك بسبب هشاشة بنية الدولة والمجتمع او التدخلات الخارجية المباشرة وغير المباشرة. ولذلك فان النضال الوحدوي يتعين عليه من داخل كل دولة عربية دون ان يتعارض ذلك مع ضرورة التحرك السريع لدفع قضية الوحدة الى صدارة اهتمامات الجيل العربي الراهن. ثالثا: في المضمون الاجتماعي والديمقراطي للوحدة لا تكون الوحدة هدفا مطلوبا لدى الامة الا متى وجدت هذه مصلحتها فيها. فحين تكون الوحدة اطارا لتحقيق السوق القومي، وتنظيم الثروة، وتحسين شروط المعيشة للمواطن، وتوفير الحقوق المدنية والسياسية وكفالتها، وتحقيق المشاركة السياسية، وتوزيع الثروة توزيعا عادلا بين الطبقات والفئات والمناطق، وتعزيز الأمن القومي،،، تكون حينها قد قدمت جوابا عن معضلات المجتمع العربي، وتكرست هدفا تناضل من أجله الأمة جمعاء. وليس يعني ذلك أن الوحدة لا تقوم إلا إذا تلازمت مع الاشتراكية، أو كانت ذات مضمون اشتراكي، كما نظر إلى ذلك سابقا. فالوحدة ليست مطلب الطبقات الاجتماعية الكادحة والمثقفين الثوريين فحسب، وإنما يفترض أن تكون مطلب أغلب طبقات المجتمع. فقد تجد قوى الرأسمالية الوطنية مصلحتها فيها، بل قد تنهض بدور رئيس فيها على نحو ما فعلت في الأعم الأغلب من تجارب التوحيد القومي. كما قد تنطوي دولة الوحدة في البداية على دول ذات نظم اقتصادية - اجتماعية متباينة على مثال ما يقوم في الصين اليوم بعد استعادتها هونغ كونغ إلى الوطن الأم. ولذلك، ينبغي عدم إقامة رابط تلازمي مطلق بين الوحدة القومية كهدف مشترك وجامع، وطبيعة النظام الاقتصادي - الاجتماعي الذي هو حصيلة توازن القوى داخل المجتمع وموضوع منافسة سياسية وطبقية فيه، على ألا يخل هذا بأي حال باعتبارات العدالة الاجتماعية باعتبارها ركنا أصيلا من أركان المشروع النهضوي العربي. لكن الوحدة التي نتطلع إليها - من منظور نهضوي - لا يمكن إلا أن تقترن بالديمقراطية من وجهين: من حيث تقوم بواسطة الرضا الشعبي، ومن خلال الاختيار الحر الديمقراطي (عبر الاقتراع أو الاستفتاء)، فلا تأتي بصورة فوقية أو انقلابية أو عن طريق الإلحاق القسري، ثم من حيث تنطوي في تكوينها على مضمون ديمقراطي تقوم فيه المؤسسات الدستورية المنتخبة مقام الفرد/الزعيم، ويعبر من خلالها المواطن عن إرداته بحرية، ويشاركون في صناعة القرار وفي الرقابة على أجهزة السلطة. إن الديمقراطية هي النظام الكفيل بتحقيق مبدأ المواطنة والمساواة الكاملة في الحقوق السياسية، بما يسمح بتحيق الاندماج الاجتماعي والقومي وتنمية ولاء المواطنين للوطن الجامع وللكيان القومي. وهي، في الوقت عينه، النظام الذي يؤمن إمكانية حل قومي لمسائل الاندماج لدى الجماعات الاثنية في الوطن العربي داخل دولة الوحدة. رابعا: في نمط بناء الوحدة تقدم تجربة النضال من أجل الوحدة العربية، والمحاولات التي بذلت في سبيل ذلك، والمراجعات الفكرية التي جرت في إطار الفكر القومي حول جدليات العلاقة بين الوطني (القطري) والقومي، درسا سياسيا غنيا في مسألة الوحدة العربية مفاده أن إطارها الكياني والدستوري الأنسب لن يكون صيغة الدولة الإندماجية ، وإنما صيغة الدولة القومية الاتحادية. إن الدولة الاندماجية قد توحي بأنها تفترض إلغآء كاملا للكيانات القطرية. وهذه حالة لا تبدو شروطها ممكنة في الأفق، وقد لا يقيض لها النجاح أو البقاء إن قامت. أما الدولة الاتحادية، فتقوم من اجتماع الكيانات العربية القائمة و تراضيها على مؤسسات اتحادية مشتركة تنتقل إليها السلطة الجامعة مع استمرار سلطاتها المحلية. وفي الأحوال كافة، لابد من أن يكون الإطار الاتحادي القومي محل تراض وتوافق بين الكيانات والقوى العربية كافة. إن الرؤية النهوضية لهدف التوحيد القومي تضعنا أمام جملة من الحقائق لا سبيل إلى تجاهلها أو القفز عليها، وهي: - إن تحقيق الوحدة العربية ليس نتيجة حتمية تصل إليها الأمة العربية تلقائيا، وإنما هو رهن بتوافر إرادة ومشروع سياسي يعملان من أجل ذلك، ويعبئان كافة الموارد والإمكانات التي تهيئ الشروط لذلك. - إن تحقيق الوحدة العربية مشروع طويل الأمد يجري انجازه بالتدرج: خطوة خطوة وعن طريق التراكم. ويفترض ذلك أن يقع تناول مسألة التوحيد القومي على مقتضى نظرة واقعية سياسية تتسلح بفكرة الممكن دون أن تتخلى عن فكرة الواجب. - إن كافة المداخل إلى الوحدة ممكنة: الاقتصادية والسياسية والأمنية بحسب ما تفرضه الظروف والتطورات وديناميات العلاقات العربية - العربية. لكنها، في مطلق الأحوال، تحتاج إلى مدخل تعاوني عربي بيني يؤسس للترابط والتداخل بين البنى الانتاجية والاقتصادية والأمنية والسياسية العربية، ويطلق ديناميات التفاعل التراكمي بينها. - إن النظرة الواقعية إلى الوحدة تقوم على أساس التعدد في الوسائل والأساليب، إذ لا يوجد قانون واحد لمعالجة قضية كبرى مثل التوحيد القومي. وتعدد الوسائل والأساليب يعني التعامل مع معطيات الواقع حالة حالة وابتداع الوسيلة المناسبة لكل حالة من دون أفكار مسبقة أو تعصب أو تبسيط، وذلك في إطار التمسك بديمقراطية وسائل تحقيق التوحيد القومي وأساليبه بطبيعة الحال. - إن الوحدة هدف للأمة: بمعظم طبقاتها وفئاتها، وبمعظم أحزابها ونقاباتها وجمعياتها وتياراتها الفكرية المختلفة. وهذه جميعها القوى المدعوة إلى النهوض بعبء النضال من أجل تحقيق هدا الهدف، وليس لفريق دون آخر الحق في احتكار هذه القضية، أو استبعاد غيره تحت أي عنوان سياسي أو أيديولوجي. - إن تحقيق الوحدة العربية يواجه مهمة ملحة هي حل المعضلات الموضوعية والذاتية التي تواجه ذلك التحقيق: معضلة التباين في درجة التطور الاجتماعي والسياسي والاقتصادي بين الأقطار العربية التي ستصبح شريكا في الوحدة، ومعضلة المؤسسية الناجمة عن هشاشة فكرة المؤسسة في الوطن العربي، وعن تضخم قوة الفرد على حساب المؤسسة، ومعضلة عدم التوازن في القوة (البشرية، الاقتصادية، العسكرية....) بين أطراف كبرى وأطراف صغرى عربية، والحاجة إلى حله بما يضمن حقوق كل طرف - خاصة الصغرى في الشراكة الوحدوية، ومعضلة الخلاف بين الفصائل القومية وتشرذمها، ثم معضلة التدخل الخارجي المعيق، باستمرار، لمشروع التوحيد القومي. - إن الاتحاد الفيدرالي العربي لا يشترط انضمام جميع الأقطار العربية ابتداء، بل يمكن أن يبدأ من اتحاد بعضها ممن أبدى جهوزيته للاتحاد أو توافرت فيه شروطه، على أن نجاح تجربة الاتحاد الجزئي، والفوائد المادية الناجمة عنه، سيكون - من دون شك - حافزا للأقطار الأخرى للانضمام إليه أو محاكاته. وبقدر قوة المجموعة النواة ونجاح تجربتها الوحدوية سوف يمكن إقناع القوى الجديدة الراغبة في الانضمام إليها بتلبية المتطلبات السياسية والاقتصادية لهذا الانضمام. إن مشروع التوحيد القومي ممتنع عن التحقيق دون أن يتوسل بالوسائل الشعبية والديمقراطية نهجا لتحققه، بغض النظر عن أن التوسل بهذه الوسائل لم يكن دائما في حكم النواميس والقوانين التي جرت تجارب التوحيد القومي بمقتضاها في التاريخ الحديث والمعاصر. كذلك فإن مما لا يجب أن يرقى إليه شك أن سائر الأهداف النهضوية العربية من تنمية، واستقلال، وعدالة، أومن، وتقدم.. إلخ ممتنعة عن التحقيق، بل مستحيلة، دون توحيد قومي.