إن مقاربة الوضع الموسيقي الحالي في العالم العربي من باب عنوان الدراسة يتطلب منا أن نتوقف عند مفردات العنوان قبل محاولة الإجابة عن السؤال. المقصود بالأنماط الموسيقية، الأشكال، أو القوالب، وهي موسيقانا التراثية نوعان اثنان هما: الأشكال أو القوالب الآلية، والأشكال أو القوالب الغنائية. أما الأولى فيندرج تحتها: البشرف والسماعي واللونغا والتحميلة والدولاب والتقسيم، في حين يندرج تحت الثانية: الموّال والقصيدة والدور والموشّح والطقطوقة والمونولوج. هذا التقسيم التقليدي المبدئي يدخل ضمن عنوان عريض هو: الموسيقى الشرقية والغناء العربي. المقصود بالأنماط الموسيقية: الأشكال أو القوالب، وهي في موسيقانا التراثية نوعان: الأشكال الآلية والغنائية. أما لماذا أطلقت على الموسيقى صفة الشرقية فلأنها تعتمد أساسا على مقامات ليست حكرا على موسيقانا العربية وإنما تشترك فيها موسيقانا مع موسيقات أخرى (فارسية - تركية). وفي هذا كله تبسيط في العرض والشرح، إذ لا مقام لنا فيها في هذا السياق. أما صفة العربي التي ألصقناها بالغناء فلأن غناءنا يعتمد حاملا لسانيا أساسيا هو اللغة العربية يُعرف بها وتُعرف به. الأنماط الموسيقية هي هنا إذن الأشكال الآلية والأشكال الغنائية بآن معاً. إبداعنا الموسيقي هذا أدرجناه في بابين اثنين وليس لنا في هذا سبق، فأمم الأرض كلها، مهما كان حظها ضئيلا من أسباب الحضارة، لها غناؤها وموسيقاها. وما يعنينا من هذه المقدمة هو أن قسمة ما نملك من تراث موسيقي بالمعنى المطلق العام للكلمة سواده الأعظم الأعم غنائي. الغناء أولا: الغناء آخرا الغناء عند العرب أسبق في الظهور من الموسيقى الآلية الصرفة. ولم يلتفت العرب إلى الموسيقى الآلية على أنها فن مستقل بذاته، ووسيلة تعبير مكتفية بذاتها، إلا بعد ظهور الإسلام وانتشاره وانتقال أهله من البداوة إلى الحضر. أول أشكال الغناء المتقن جاءت بلاد العرب من فارس وبيزنطة. دخل هذا الغناء أرض الحجاز عن طريق القيان اللواتي حملهن تجار مكة الأثرياء من رحلات تجارة شتائهم وصيفهم إلى العراق، وكانت متأثرة بفارس، وإلى سوريا، وكانت متأثرة ببيزنطة. فرّق محمد أبو نصر الفارابي (950.784 م) في مقدمة كتابه الموسيقى الكبير الذي ألّفه في القرن العاشر بين الغناء والموسيقى الآلية، وميّز بين موسيقات ثلاث: أولاها تسبب اللذة فقط، والثانية تعبّر عن الأهواء وتحرّضها، وثالثها تخاطب الخيال، وهو يرى أن الموسيقى التي تشتمل على الميزات الثلاث الآنفة الذكر هي أكمل الموسيقى وأرفعها شأنا. ويرى الفارابي أن الأثر الأعظمي، يتأتى عن طريق الغناء وعن طريق الصوت البشري الجميل، وأن الموسيقى تمتلك أحيانا بعضا من هذه الخصائص إلا أنها عندها أدنى منزلة وأضعف أثرا من الغناء الذي يجمع بين الصوت الجميل واللحن المتقن والشعر الجميل والإيقاع. والفارابي بتأكيده على تسيّد المُغنى والصوت البشري يترك للموسيقى دور المساعد المساند المصاحب للصوت. ويرى الفارابي أن هناك موسيقات آلية لا تُطرب يُضرب بها لتثقيف الأذن أو للتدريب على الضرب بالعود والنفخ في الناي وعزف الربابة. كما يرى أن الأصوات التي تُصدرها الآلات الموسيقية أقل قيمة وجودة من الصوت البشري، وأن صوت العود هو أقرب أصوات الآلات إليه، وأن الربابة هي أصلح الآلات الموسيقية لمرافقته. يمكننا أن نستخلص من هذا أنه كان هناك في زمن الفارابي موسيقيون يعزفون دون غناء، وأن الموسيقى الآلية كان لها وقتئذ على الأقل مريدوها، ولو أن الغلبة قولا وفعلا هي للغناء، ومازالت كذلك حتى اليوم. ويبدو أن هذا الخلاف بين الموسيقى الآلية والغناء مازال بين ظهرانينا حتى يومنا هذا. هناك فريق يرى أن الموسيقى الشرقية الآلية الصرفة قد تطورت على يد الترك والفرس وأن العرب ليس لهم فيها باع ولا نصيب. ولا شك، أن الموسيقى الآلية يحتاج الاستماع لها إلى تفكر وتأمل وهي مسألة تدرب واعتياد، وممارسة سطوة الكلمة في ثقافتنا جعل الموسيقى أسيرتها لا تكاد تحسن الإفلات منها، فضلا عن أن الثقافة الموسيقية العامة مازالت حتى اليوم ثقافة غناء لا ثقافة موسيقى صرفة. إن ما يلفت النظر حقا في الموسيقى العربية أن المقالات والكتب التي ألّفها العلماء العرب، وما أوردوه فيها من مشكلات خصوصا تلك المتصلة بالغناء والموسيقى الآلية، لاتزال صحيحة إلى اليوم، فلا تزال الكلمة المغنّاة، قصيدة كانت أم زجلا، هي التي تتصدر نتاجات وسائل الإعلام، بينما تبقى الموسيقى الآلية مقصورة على حلقات خاصة وأحيانا عامة تنظمها جهات ثقافية أجنبية عموما أو ثقافية أكاديمية وطنية أحيانا. صحيح أن لها جمهورها المخلص لها، المتابع لفعالياتها ونجومها، إلا أنها تبقى محدودة الأثر في الذوق العام الجارف باتجاه الغناء وحده. الغناء عند العرب أسبق في الظهور من الموسيقى الآلية الصرفة. وأول أشكال الغناء المتقن جاءت بلاد العرب من فارس وبيزنطة أشكال الموسيقى الشرقية الآلية والغناء العربي: أولا: الأشكال الآلية: 1- البشرف: وهو قالب موسيقي آلي فارسي - تركي - عربي. يقع في خمسة أقسام يتخللها فواصل تسمى تسليم. لم يكتب المؤلفون الموسيقيون العرب كثيرا من البشرف قياسا إلى التركة الهائلة التي خلّفها الأتراك فيه، وقد أحجم المؤلفون العرب عن التأليف في هذا القالب بسبب صعوبة قواعده التأليفية. 2- السماعي: يقع قالب السماعي في 4 خانات و4 تسليم مكرر بين الخانات، وهو في شكله العام يشبه البشرف، إلا أنه يفرق عنه في أن خانته الرابعة تُضرب بالمقياس 4/3 سماعي دارج، أو الفالس، أو بمقاييس مركّبة تتولّد عنه كمقياس 8/9 سماعي أقصاق. ويكون السماعي عادة أقصر من البشرف. ولئن أحجم المؤلفون العرب أو أقلعوا عن تأليف البشرف، فلقد أجادوا وأكثروا في تأليف السماعي. ولعل مزاج البشرف أن يكون في تركيبته وبنياته أقرب إلى المزاج التركي، في حين لاءم قالب السماعي ببنيانه وقواعد تأليفه المزاج العربي. الثقافة الموسيقية العامة مازالت حتى اليوم ثقافة غناء لا ثقافة موسيقى بحتة.. ولاتزال الكلمة المغناة، قصيدة كانت أم زجلا، هي التي تتصدر نتاجات وسائل الإعلام، بينما الموسيقى الآلية مقصورة على حلقات خاصة، وهي محدودة الأثر في الذوق العام. الغناء عند العرب أسبق في الظهور من الموسيقى الآلية الصرفة وأول أشكال الغناء جاء ت بلاد العرب 3- اللونغا: قالب موسيقي رشيق يقع في أربع خانات وتسليم وأحيانا في ثلاث خانات وتسليم. تعزف اللونغا في ضرب إيقاعي بسيط سريع، وهي مع قصرها عموما إلا أنها تتميز بكثرة انتقالاتها المقامية الجذابة، وبجملها الرشيقة السريعة وبصعوبة أدائها عزفيا، يستعرض فيها الملحق والعازف معا براعتهما في التأليف والتنفيذ. 4- الدولاب: تأليف آلي قصير المدة يمهد لوصلة غنائية عنوانها مقام الدولاب الذي يُعزف ليُظهر شخصية المقام المراد الغناء فيه دون حليات وزخرفات وإنما سكة مقامية واضحة ترسخ المقام في الأسماع وتهيّئ السامعين لما هم مقدمون على سماعه من مزاج نغم. 5- التحميلة: هي جاز الموسيقى الشرقية. يعزف التخت الشرقي جملة موسيقية من مقام تُبنى عليه التحميلة ثم يترك عازفو التخت المجال لإحدى آلات التخت يرتجل عازفها ارتجالا موقعا في مقام التحميلة وتفرعاته ما تجود به مخيلته اللحنية وبراعته التقنية وحذقه ومهارته بخفايا آلته، ثم يسلم آلات التخت ثانية ليعزفوا الجملة الموسيقية التي بدؤوا بها التحميلة وليفسحوا المجال لآلة أخرى يجود فيها صاحبها بما في روحه وعلمه من إحساس وفكر في الارتجال. تستمر التحميلة على هذا النحو قُدما حتى تأتي على آلات التخت كافة ثم تُختم بمثل ما بُدئت به. القوالب الغنائية في الموسيقى العربية: ثانيا: الأشكال الغنائية: وسنعرف منها الدور، ونأتي لاحقا على الأشكال الأخرى التي تعنينا في دراستنا. الدور: وهو قالب غنائي مصري المولد والنشأة والصنعة والتطور، ظهر في القرن التاسع عشر وزها وتطور في النصف الأول من القرن العشرين. يقع الدور في أقسام ثلاثة وختام، هي على النحو التالي: - القسم الأول: المذهب، ويقع في ثلاث فقرات لحنية مختلفة. أهم الأشكال الغنائية في الموسيقى العربية: الدور وهو قالب غنائي مصري المولد والنشأة والصنعة والتصور ويقع في ثلاثة أقسام وختام. - القسم الثاني: تكرار اللحن الأول من القسم الأول بكلمات مختلفة، يستعرض المطرب بعدها مقدراته الصوتية ومخيلته اللحنية في التفريد والعرض الصوتي. - القسم الثالث: يتبادل فيه المطرب الإفرادي مع السنيدة الآهات صدا وردا يُظهر فيه الملحق والمطرب مقدرتهما كليهما على الارتجال والإبداع في التفريد الغنائي. - الختام ويكون بإعادة اللحن الأخير من القسم الأول ويُقفل به الدور. يغني الصوت الإفرادي القادر القسم الأساسي في الدور بمصاحبة السنيدة (المذهبجية - المجموعة - الرديدة) والتخت الشرقي الموسيقي. الموسيقى الشبابية الجديدة: وإذا ما نظرنا بعد هذا العرض التعريفي بأشكال الموسيقى والغناء عندنا إلى ما يستمع له اليافعون في عالمنا العربي من موسيقى اليوم، نقول إن المشكلة كانت ومازالت مشكلة أجيال، بين الجيل القديم والجيل الجديد، وليست مسألة مضمون وثورة. ودليلنا على ذلك أن ما كنا نستمع إليه عندما كنا يافعين لم يعد يرضينا اليوم، وما كنا نعرف عن الاستماع إليه أصبح مع الزمن والخبرة يستهوينا. ونحن لسنا ضد الجديد من «الموسيقات»، ولا ننكر علينا وجودها، لكننا نعتقد أنه من المفيد الحديث والكتابة عنها وعن طريقة صنعها وأدائها ومقاصدها في إطار زمني - اجتماعي محدد لمناقشتها، أو ليناقشها بعدنا آخرون، بعد أن يكون الإطار الزمني - الاجتماعي قد تغير لتقويمها وتتبع حركتها على المدى الطويل. الموسيقات الشبابية الجديدة: ثقافة الجموع المستهلكة والسؤال: هل صمدت هذه الموسيقات أمام التيارات الموسيقية الأخرى؟ هل تطورت؟ هل حافظت على كتلها الجماهيرية باعتبارها موسيقى تخاطب الجموع، ويستمع إليها الجموع، في سياق الجموع، ومكان وجود الجموع، بآذان الجموع؟ قد تبدو الفكرة غريبة، فكرة «الجموع» هذه التي نسوقها، إلا أن المتتبع لهذه الظاهرة «المجلوبة» أصلا، قائمة على ثقافة الجموع المستهلكة، وليس الفرد المستقبل، لكن المشكلة الخطيرة هنا هي أن الظاهرة الاستماعية الجمعية التي نشاهدها في الحفلات التي تنظم في الملاعب أو الساحات العملاقة هذه أوجدتها مجتمعات معينة في ظروف معينة. نعني بأشكال الموسيقى الشرقية الآلية: البشرف السماعي اللونغا الدولاب والتحميلة (وهي جاز الموسيقى الشرقية).