منذ أول مقدمة الكتاب الجديد " تغني الأرض : أرشيف النهضة وذاكرة الحداثة" ( النادي الأدبي بحائل بالاشتراك مع الانتشار العربي، بيروت 2010) للناقد أحمد الواصل ، وهو شاعر وروائي أيضاً، يحدد بعداً نظرياً يقوم عليه معظم تحليله الأنثروبولوجي لفن الغناء في منطقة الخليج من الجزيرة العربية، وهو أن " الموسيقى توحد الشعور لا تنعكس عن أي شي آخر". العنوان ذو مدلولات تحليل سوسيوثقافية بين بعدي " أرشيف النهضة وذاكرة الحداثة "، بحيث أن زمن النهضة تحول إلى أرشيف، حين فقد الزمن ولكن بقي يؤثر في الذاكرة، وبما أن الحداثة فعل زمني مستمر فإن منها ما تحول إلى ذاكرة، ولا يترك الواصل هذا دون أن يجعل من كل ما تناوله في هذا الكتاب المتمم لأطروحته السابقة في كتابه " سحارة الخليج " ( دار الفارابي ، 2006) يمثل نماذج، وليس نموذجاً واحداً. فعلى المستوى الجندري يحقق في الفصل الأول " مقدمة منفتحة لاكتمال لا ينتهي لرصد الريادات والعلامات لنساء غرسن حناجرهن في تراب وماء وهواء ونار الجزيرة العربية". وأما في الفصل الثاني يتناول تراثاً غنائياً شفوياً عريقاً هو فن السامري .وأما الفصل الثالث فهو إتمام لمسيرة من شخصيات صناعة الأغنية في الجزيرة العربية منذ منتصف القرن العشرين،وإذا كان تناول تجربة تمثلها،وهي تجربة عبد الكريم عبد القادر في كتاب سابق ( سحارة الخليج، 2006)،ومروره المتأمل لكل من تجربتي:سناء الخراز وهدى عبد الله،وهما من جيل لاحق للحداثة في غناء الجزيرة العربية،فإنه يعود إلى أسماء أخرى تركت ظلالاً لا تمحى وما زالت فاعلة رغم وفاة الأول طلال مداح واستمرار كل من رباب وخالد الشيخ وعارف الزياني. حنجرة تختصر مجتمع ! ..يحاول الكتاب في تركيزه على شؤون الغناء في الجزيرة العربية من خلال مسيرة تغطي القرن العشرين بمقدِّمتين تخص كل واحدة غناء الرجل والمرأة،وما كان داعي الفصل بين النوعين إلا لأسباب بحثية صرفة – على حسب قوله - كما هو مبرر أيضاً اختيار فن السامري مع إمكانية الانفتاح على فن الفجري أو فن المجرور أو فن الدان وسواها. ويذكر الواصل أن "اختيار تجربة كل من طلال مداح ورباب وخالد الشيخ وعارف الزياني،فهو مقصود لنتائج تكشفها عن كل واحد منهما الدراسة الموضوعة عنه،وقد تحقق لي الكثير خلالهما على مستوى البحث والتأمل". ينطلق الكتاب في إطار اجتماعي واقتصادي وسياسي حين يتناول نماذجه بحثاً وتحليلاً عميقاً معتنياً بالتفاصيل متملكاً أدوات قوية في البحث والتحليل تراعي الحالة والنموذج. فهو يقرأ الحنجرة بوصفها تجربة جيل يمثل حالاته الوجدانية النفسية والاجتماعية والسياسية والإيديولوجية. يتناول الواصل التباس "الشاعرة بالمغنية " في الفصل الأول عند مويضي البرزاية ونورة الحوشان ونورة الهطلاني وموضي العبيدي والدقسي وسواهن، ويطالع تلك "الرغبات ..خلف الستار"، ويفصل في استعراض الفرق الجماعية المستجلبة من أفريقيا باعتبارها "حناجر من اغتراب ونحاس" فرقة سعادة البريكي وخديجة المهنا وعودة المهنا وصالحة حمدية ونعيمة النوبان، ولم تنعكس تحولات المجتمع بالسماح للمرأة بالعمل المهني إلا من بعد فترة كفاح لحقتها تطورات اجتماعية على مستوى اختيار الزوج والحق في التعليم، والغناء أحد نتائج الحياة المدنية الجديدة كذلك معظم الفنون الأخرى فاستطاعت المرأة في الجزيرة العربية أن تتجاوز "برزخ الأنوثة والمدينة " باعتبارها تمثل صوت "إناث يمزقن الستائر" وهو ما حدث مع أصوات مبكرة مثل موزة سعيد وعائشة المرطة ثم ابتسام لطفي وليلى عبد العزيز وعتاب، ومع تطورات الحالة المدنية والطفرة الاقتصادية وأثرها على الحالة العمرانية برغم أن الأخلاق المجتمعية لم تواكب هذه التطورات سريعاً فإنه أتاح أن تتنكب للمرأة تحرير العاطفة والموسيقى من سطوة الرجل وتمثل تجربة رباب أحسن تمثيل لذلك باعتبارها تجاوزت تجربة كل من عالية حسين غير المكتملة وليلى عبد العزيز وعتاب المحدودة إلا أنها مهدت ل"حداثة الأغنية النسوية" المتمثلة في مقدماتها الأساسية من عمق تجربة رباب ودفعتها قدما كل من سناء الخراز ونوال وهدى عبد الله ، واستعرض هذا الفصل حناجر "بنات الخليج الجدد" مثل رويدا المحروقي وريم المحمودي ورنا فاروق وسمر وشمس وسواهن.. هل فن السامري آرامي؟ اختيار فن السامري في الأغنية الخليجية، وقراءة حركية الإبداع من التوريث إلى التصنيع تبرر اعتباره من أكثر الفنون القابل للحياة، وللواصل تجربة تجاوزت الدراسة أو البحث في هذا الفن بل جعله موضوع فيلم وثائقي قدمه العام الماضي مع المخرجة هناء العمير " بعيداً عن الكلام" (2008)،واختبر كل من الواصل والعمير هذا الفن بحوار مع فن التانغو من الأرجنتين. وضع الواصل مفردات بحثه مسترشداً بمنهج وصفي وتحليلي للفنون الأدائية بين الدين والثقافة، واعتبر أن السامري من الفنون القديمة حضارياً، من خلال طرح نظريتين في نشوئه: هناك نظرية تفك المعنى المعجمي للمفردة (الافتراض بالأصل اللغوي الآرامي)والمجازي من الاصطلاحي (طقس أدائي)، والنظرية الأخرى يمكن بناؤها من طريقة أداء أخرى حفظت قديماً عن القبائل المترحلة عن الجزيرة العربية إلى الهلال الخصيب،ونتج عن دراسة السامري انتشاره إلى شمال أفريقيا من بوابتها سيناء مع بني هلال.. إلا أن المحصلة التي توصل إليه الواصل هي ان فن السامري من فنون الأداء التي عايشت لعبة التفريغ المضموني، فمن استخدامه في الطقوس الدينية ثم تحوله إلى الفنون الدنيوية، وتواصل بقاء هذا الفن الغنائي مواكباً لتغذيته بفن الشعر النبطي على مستوى الكلام إلا أنه استطاع أن يكتمل بأنماط لحينة خاصة وأسلوب للأداء ممايز كذلك اختص بالرقص الرجالي والنسائي سواء كان مشتركاً أو منفصلاً، وارتباط هذا الفن بمناسبات عدة في ليالي السمر. وقد استعرض نشوء الأغنية الخليجية(القوالب والألوان والأنواع) عند ملحنين ومغنين مثل سعود الراشد وأحمد باقر وطارق عبد الحكيم ، ومحاولات منتصف القرن الماضي في تأهيل الموروث الغنائي الشفوي(الأداء والشكل) عند أحمد الزنجباري وحمد الرقيب وغنام الديكان وعمر كدرس. تطور فن السامري ( الأنواع والموازين) في فترة متواصلة مقابل توقف فنون أخرى عند صيغها الموروثة في الأداء مثل فن الدان والمجرور والخماري واللعبوني والفجري وسواها.. واستطاعت تحولات الحياة الاجتماعية والاقتصادية في تطور صناعة الأغنية أن تجعل من فن السامري مكوناً فنياً لم يندثر وجوده وفاعليته من خلال تجارب مغنين وملحنين كثر مثل غنام الديكان ويوسف المهنا ( وهو الملحن الأبرز لفن السامري)،ومن جيل لاحق خالد الشيخ وعارف الزياني وخليفة زيمان وعبد الله الرميثان وخالد الزايد وأنور عبد الله وصولاً إلى محمد البلوشي ومحمد مال الله مع عبد الكريم عبد القادر وسناء الخراز وأحمد الجميري وهدى عبد الله ونبيل شعيل وعب دالله الرويشد ورباب وعبد المجيد عبد الله وسمر وحناجر أخرى. بقدر ما يحق للقارئ أن يثمن الجهد في تغطية بحثية وتحليلية لمعظم تجربة غناء المرأة في الخليج والجزيرة العربية على مدى القرن العشرين إلا أنه يمكن أن يضع تساؤلات مبدئية عن اختيار طلال مداح وليس فرج عبد الكريم أو محمد عبده أو صالح الحريبي ، برغم الإشارة إلى تناول تجربة عبد الكريم عبد القادر في كتاب سابق. كذلك السؤال يطرح نفسه لماذا رباب ولم تكن ليلى عبد العزيز أو ابتسام لطفي أو نوال أو أحلام، وذات السؤال عن اختيار خالد الشيخ وعارف الزياني ( !!)، وليس عبد المجيد عبد الله أو عبد الله الرويشد أو نبيل شعيل .. صوت الأرض بقدر ما تحتفي الدراسة بصوت الأرض طلال مداح إلا أنها تتوقف مليا عند أكثر من مرحلة، وترى فيها تجاوبا عصرياً في الربع الأخير من القرن العشرين وتتقاطع تجربة مداح وألحان سراج عمر مع تجربة عبد الكريم عبد القادر وعبد الرب إدريس في تأسيس أغنية رومانسية تحوم حول أزمة المشاعر لإنسان المنطقة، ويرى أن صداها تواصل في تجربة محروس الهاجري وعبد الرحمن الحمد، ومحمد المغيص ومحمد عمر.. تجربة مداح متنوعة المراحل والأساليب وربما يفوق تجربة أي مغني آخر بأنه ملحن مهم انتبه إليه المشهد الغنائي العربي أواخر الستينيات إلا أن فعالية مداح في وضعه عتبة التجديد والخروج من عباءة استعادة الموروث والتورط في تكراره، ومنح الأغنية العربية أغنية جديدة تطرح أزمات الإنسان وإخفاقاته من أغنية شعبية راقصة مثل" عطني المحبة" إلى " مصدر أحزاني"، ومن أغنية وصفية مثل " طفلة تحت المطر" إلى أغنية " يا كريم"، ومن أغنية شعبية مكشوفة المشاعر " حبك سباني " إلى أغنية مباشرة " عملة مغشوشة".. حنجرة الحداثة يعد هذا الفصل من أكثر الفصول خصوبة في تنوع تغطيته ومجال دراسته لتجربة غنائية محولاً رباب إلى حالة غنائية اجتماعية ثقافية درس تجربتها العاطفية والاجتماعية ووضعها الثقافي والاقتصادي، ودرس إيحاءات التجربة نفسها بين موضوعات التقطت ببراعة عن الاغتراب المكاني والأنثوي المضاعف، والحالة الجندرية في الهوية الملتبسة، وواصل في منهج مقارن بين وضع تحولات الغناء العربي والأوروبي فترة السبعينيات والثمانينيات، وتجربة الغناء الخليجي والعربي، والمتغيرات السياسية والاجتماعية على الغناء في المنطقة. حالة رباب فريدة في هذه الدراسة ولا يصدق كيف يحدث أن تهمش تجربتها من خلال انعدام جنسية لها، ومجاهلة تجربتها الغزيرة والحيوية ذات الفعالية الباقية. تساؤلات تجاوزتها الدراسة ولكن أضاءت الكثير من المجهول داخل التجربة . ثور خارج القطيع هذا الوصف عنوان القسم الثالث من الفصل الثالث عن خالد الشيخ منذ بداية تجربته عام 1982 كملحن قبل أن يصدر أول أعماله. هذا الملحن والمغني الإشكالي، الذي وصفه بفرد "جيش الألحان " في تجربة الغناء الخليجي بين الإطار اليساري وتقلباته اليمينية لاحقاً. علاقته في استثمار الكثير من تراثات الغناء العربي في جولات منوعة بين النصوص الشعرية والأنماط اللحنية والأنواع الإيقاعية، ليصنع توليفة خاصة به، وبرغم تطورات الأغنية الشيخية إلا أنها تعيش انفصاما حاداً بين التجربة الشخصية وأسلوب التعبير والأداء الذي يعزل مشاعره عن وضعها في التجربة الغنائية نفسها، وهو ما قايسه بين تجربة أم كلثوم وعبد الحليم حافظ ومحمد عبده. تبقى تجربة الشيخ ملفتة ومعبرة عن ذهنية فائقة يخونها المعنى أحياناً. بين يدي عارف الزياني ثلاث موضوعات شغلت تجربة الزياني، وهي التي وضعت عتبة دخول للقسم الرابع من هذا الفصل، وهي : الحب ، البداوة، الحرية. وتيرة هذه الدراسة توهمك بالهدوء برغم أن توترات النموذج الزياني مثيرة للانتباه، فهو المغني- الملحن، والذي سمح مثل طلال مداح أن يغني لغيره بينما هو على العكس من خالد الشيخ الذي يغني لنفسه وليلحن لغيره، حيث استثمرت إمكانيات صوته مراراً مع خالد الشيخ في أكثر من لحن إلا أن الزياني أنتج الكثير من أعماله المتنوعة بين القوالب والألوان، فهو تناول قالب النشيد والقصيدة ، وأنماط الغناء الموروث كالسامري والردحة والقادري، وألوان الأغنية الجديدة كالشعبي والرومانسي والراقص.. تعطي تجربة الزياني حالة من الالتباسات المفهومية والمعرفية عن البداوة المستحدثة ، وأبلسة الحب، واختناق الرغبة. ويعلق السؤال الفاجع عن سبب توقف المغني بعد تجربة ثرية بين عامي 1985-1995 . هل اختنق الزياني بنفسه، وتوقف كيلا يقع في الانفصامية الثقافية فتنعزل التجربة الشخصية عن التجربة الثقافية ؟. نفير الختام.. في ختام الكتاب تناول ، في عملية تأملية ،مأزق الكثير من الشخصيات الثقافية في مجالات الفنون والآداب حين لا تصنع الذاكرة لها أرشيفاً يحولها إلى نماذج تأسيسية بقدر ما تبقى تداور في صورها كحالات فردية تحاول الخروج من الدائرة المغلقة وينظر إليها كمنحرفة،وتحاول التجاوز عن السائد والمكرور وتصنف بأنها ظاهرة. وطرح تساؤلات منها عن قدر الحداثة وتحولاتها حين بقيت تكرِّس من وجود مفقود وتبحث عن صورها التاريخية عبر حقبة جديدة بلا اسم أو وجه أو ذاكرة. فهل استراح طلال مداح لم يعد لديه الهم في صنع أغنية جديدة ولا ينتظر على أبواب شركة إنتاج تشترط عليه وربما تضغط عليه أو تقصيه وتحاربه مثلما يعاني أبناء الحداثة الطلالية مثل رباب وخالد الشيخ وعارف الزياني.. هذا الكتاب هو مطالعة تكرس الذاكرة عبر الكتابة قبل أن تستحيل في النسيان ويمتنع الخيال. ===================== أسماء العبودي خاص / البوصلة