ليس الجواب على السؤال المطروح في هذه الورشة أمراً سهلاً، ذلك أن الحديث عن فضائيات المتخصصة في بعض مجالات التراث الشعبي في الوطن العربي اليوم، يدفعنا إلى التساؤل، هل توجد فعلا فضائيات تعنى بالتراث الشعبي، أم أن الفضائيات العربية تكتفي على وجه العموم بتقديم بعض البرامج التي لها علاقة بالتراث الشعبي؟ ثم هل هناك اتفاق على دلالة المفهوم المركب في عنوان الورشة « التراث الشعبي» ؟. وهل يكفي في حال وجود هذه الفضائيات، أو وجود برامج متنوعة تعني ببعض ظواهر التراث، أن نكون فقط امام رسالة أو مجرد برامج في الترفيه؟ ألا يمكن أن نفترض أن الرسالة تستوعب الترفيه، كما يستوعب الترفيه رسالة معينة؟ ألا يمكننا أن نرصد بعض الاحتمالات الأخرى التي يمكن ان توضع لهذه الفضائيات في حال وجودها، من قبيل تفكيك التراث نقد التراث الشعبي، إبداع التراث، رصد أنواع التعبيرات التراثية...إلخ. سنكتفي فيما سنقدم في هذه المداخلة بفحص أَوَّلِي للمفردات المستعملة في رسالة التكليف التي وصلتنا، عسى أن نتمكن أثناء عمليات الفحص من تركيب خطاطة عامة قد تشكل مدخلا نظرياً مناسبا لموضوع نعتقد بصعوبة الاقتراب منه في الظروف الراهنة على الأقل. بعد هذه المقدمة ننطلق في التفكير في موضوعنا من أوليتين* : تضعنا الأولى منهما أمام تحولات المشهد الإعلامي الكوني والعربي، فنحن اليوم نعيش في ظل عمليات انفجار إعلامية واسعة تعكس بدورها ثورة معرفية جارفة، الأمر الذي يدعونا إلى الاستفادة من المكاسب التي أتاحتها ثورة الفضائيات في المجتمع وفي الذهنيات. ومقابل ذلك نجد أن فضاء الإعلام العربي عرف بدوره جهودا كبيرة، لكن وسط مختلف هذه الجهود تنشأ يوميا وباستمرار فضائيات تروم تعميم أنماط من الفكر العتيق، المعادي للعقل وللتنوير، والمخاصم لجوانب عديدة من مكاسب عصرنا. ويبدو أن بعض القنوات الدينية الدعوية وبعض القنوات التي تقدم برامج في السحر والشعوذة والنجوم على سبيل المثال، والتي عادة ما تدرج بدورها في إطار قنوات التراث الشعبي ، تدعونا إلى الاحتراس واليقظة حتى لا يزداد فضاء الإعلام العربي اختلاطا. أما الأولية الثانية، فتتعلق مباشرة بموضوع الورشة، وهي تشير مباشرة إلى صعوبة تصنيف القنوات الفضائية العربية. ففي تقرير صدر مؤخراً عن مؤسسة الفكر العربي بعنوان « التقرير العربي الأول للتنمية الثقافية العربية 2008 «، نجد ملفا عن الإعلام العربي يستوعب معطيات مهمة في مجال تصنيف القنوات الفضائية العربية المتخصصة، وهو يعدد ما يقرب من 312 فضائية ويحصر داخلها 40 تخصصا، ودون أن يتضمن أي إشارة إلى قنوات التراث الشعبي، علما بأن تعيينه للقنوات الدينية وقنوات الأدب والثقافة، وقنوات الأزياء والجمال، وقنوات السحر والكهانة والقنوات الطبية والفنية، وقنوات الطهو والملابس، يستوعب جزءا من محتوى الفضائيات الموسومة بالتراث الشعبي ، وفي رسالة الدعوة التي وصلتنا من المنتدى، نعثر أيضا على إشارات إلى قنوات التراث الشعبي مُمَثَّلَةً في فضائيات الشعر التي ترسلها بعض دول الخليج من قبيل الواحة والساحة والدانة..إلخ. نحن إذن أمام صعوبة في التصنيف مردها في تصورنا إلى عمومية مفردة تراث والتباس كلمة شعبي، وقد حاولنا التخلص من التفكير في قنوات التدين التي ندرجها ضمن المنظور السائد عن التراث الشعبي، إلا أننا عندما انتبهنا إلى رسالة الدعوة التي وصلتنا من منتدى الإعلام العربي تبينا وجود ورشة أخرى مخصصة لموضوع الإفتاء والفتاوى الفضائية في القنوات الدينية والبرامج الدينية، زاد شعورنا بصعوبة التصنيف، كما زاد اقتناعنا بأن 58 من القنوات الدينية والتي تستوعب ما يقرب من 20 في المائة من عدد القنوات العربية، لا يمكن إلا ان توضع تحت خانة نوع من التوجه الديني الشعبي الذي يقوم بتقديم محتويات لا تتجاوز في روح ما تقدم نوعا من التدين الشعبي الناعم *( تشير النعومة هنا إلى رقة الملمس، كما تعطي إيحاء بحدة مضاء الجسم الذي يوصف بها، فهي تفعل في الملتقي ما يفعله الجسم الذي يقطع بفعل ملامسته)، بل المخدر، التدين الذي يطرح كثيرا من المشاكل، بعضها موصول بتأويل معين للإسلام وبعضها مرتبط بسؤال العقائد الروحية في عالم متغير... فكل ما سبق جعلنا ندرك صعوبة الموضوع ومغامرات التصنيف**( راجع الجدول رقم 37 التقرير العربي الأول للتنمية الثقافية العربية 2008 ص 283و284 (. ٭ عمومية التصنيف والنمذجة : لنتقدم في معالجة الموضوع، ولنفكر في الصعوبات التي تتعلق بتصنيف قنوات التراث الشعبي، ذلك أنه لا يمكن اختصار التراث الشعبي في الشعر، وإذا كان هذا الأخير كما يقال، هو ديوان العرب، فإن الشعر في مختلف عهود التاريخ العربي ظل عنوانا بارزاً لقدرة الصفوة العربية على إغناء الوجدان العربي بالبيان الذي يتضمن كثيرا من الرهافة والقدرة على شحذ الخيال، وصناعة الصور المليئة بالإيقاع، إنه يندرج أولاً ضمن الثقافة العَالِمَة، أما قنوات الشعر الشعبي أو الرقص والموسيقى الشعبية أو أشعار البوادي، فإنها تندرج ضمن أشكال من التواصل الاجتماعي الذي يعكس نوعا من الثقافة المتداولة في أوساط بعينها، وهو قبل ذلك مجرد شكل من أشكال الموروث الاجتماعي والثقافي. نحن نتصور أن التراث الشعبي أو الموروث الثقافي الشعبي في معناه العام، يستوعب ما يتجاوز القصيدة بمختلف تلويناتها، فالتراث هو الأثر الناتج عن الفعل التاريخي الإنساني في مختلف أبعاده، كما يركبه شعب في مختلف مدارات التاريخ. إن التراث اكبر من التراث الشعبي، وهو يتجاوز المنظور الفقير الذي تقدمه قنوات السحر والتطبيب الشعبي والتدين الناعم والأشعار البدوية.. ومن القضايا التي تطرحها عمومية التصنيف في قنوات التراث الديني على سبيل المثال، نذكر أن هذه القنوات وبدون استثناء لا تستوعب أي سؤال عن حال الدين ودوره في مجتمع اليوم؟ كما لا تبحث دور الدين في مجتمع المواطنة؟ إن مجتمع المواطنة في تصورنا لا يلغي الإيمان الديني، بل إنه يرسخ مبدأ حرية الاعتقاد. وفي هذا السياق من التفكير نجد أنفسنا امام قضية نظرية عامة، قضية الموقف من التراث، وذلك لتركيب تصور يساعد على توضيح دلالة التراث أولاً. ثم بناء معطيات تسمح بإنتاج قنوات تعي دورها ضمن دائرة هذا الموقف، أي توظف الإعلام المرئي لإنتاج برامج مبدعة للتراث لا تابعة له وخاضعة لمنطقة. وإذا كنا نعرف أن أغلب الفضائيات الدينية تقوم في أغلبها بتنميط المعرفة الدينية، كما تعمل على اختزال الوعي الديني في جملة من الظواهر والطقوس، دون عناية بمتطلبات التطور التاريخي، أدركنا فقرها وبؤسها .. فقد تحولت البرامج في هذه القنوات في أغلبها إلى برامج دعوية تقليدية سطحية، منتجة لما أطلقنا عليه «التدين الناعم» التدين اللذيذ، الذي يكتفي بتغذية نوع من الرخاوة والهروب، إنه تدين لا يحفز على تطوير المعرفة، بل إننا نكون في هذه الفضائيات أمام تراتيل وأدعية نفضت يدها عن الواقع ( الفضائية السادسة في المغرب). أما الفضائيات المتخصصة في الأشعار البدوية*( مكننا اطلاعنا على بعض التعليقات في المواقع الإلكترونية التي تعنى بقنوات التراث الشعبي، من تبين غياب أي مساءلة لمنطلقات التسمية، ولهذا اتجهنا في هذه الورقة إلى التركيز على الإطار النظري)، فإنها لا تتجاوز نوعاً من التمثل التكراري الكاشف عن نمط من التراث الغريب عن الزمن الذي ترسل فيه**( يمكن ان نضيف هنا أيضاً ضرورة مقارنة برامج فضائية النور، وهي قناة عربية مسيحية مع بعض قنوات التراث الديني، لنتبين الفروق القائمة بين المقاربة المسيحية للتراث الكنسي والمقاربة المُنتجة والمقدمة في فضائيات التدين الشعبي الإسلامي). وقفنا أمام الفضائيات الدينية التي يتزايد عددها بإيقاع كبير، انطلاقا من اعتبارنا أنها تندرج ضمن الفضائيات التي تستدعي مكونا مركزيا من مكونات تراثنا، ويمكن أن نقف أيضاً أمام ما تقدمه البرامج المصنفة في باب التراث الشعبي، من قبيل تحويل العناية بالتراث إلى مناسبة لرصد الغريب دون اهتمام بالقيم التي كانت تلحم وجودنا التاريخي، ولا شك أن الانتباه لسؤال القيم في علاقتها بالتاريخ سيجعلنا نتبين أن القضية الأساس تتمثل في كيفية تحويل المكون التراثي إلى أداة لبناء المعطيات الداعمة والمعززة لمشروعنا في النهضة العربية. إن التراث في روحه العامة هو مخزون الذاكرة العربية، وهو مخزون حمال أوجه وعلامات، والمطلوب منا بحث أفضل السبل للاقتراب منه بالصورة التي تجعل محتواه قادراً على مساعدتنا في تجاوز مظاهر التأخر العربي. ٭ في كيفيات إبداع التراث وإعادة بناء الذات العربية لم تنجح الحركة الفكرية العربية المعاصرة في بناء تصور دينامي وتاريخي لعلاقة الماضي بالحاضر، ولم توفق في بناء ما يسعف بتجاوز المواقف الحدية في النظر إلى علاقة الإسلام بالحداثة، وذلك لعدم اعتمادها الرؤية التاريخية في معالجة الإشكاليات الكبرى التي ترتبط بواقعنا، ومنها إشكالية المواءمة بين الماضي والحاضر، بين الإسلام والحداثة، وبين التاريخ والمستقبل. إن الماضي في ذهننا مؤسطر ومحمل بكثير من المعطيات المختلطة، ولهذا تستمر إشكالية التراث حاضرة بكل ثقلها في أسئلة الحاضر والمستقبل المنظور، وفي هذا الإطار ندعو إلى ضرورة إعادة النظر في مفهوم التراث في مختلف أبعاده، من أجل بناء الذات العربية في عالم متغير بأقصى ما يمكن من الإبداع المنفتح على الحاضر والمستقبل، وذلك لبناء ما يسمح بتجاوز قيود النظر التراثي إلى التراث. لا يَبْقَى من التراث بحكم أفعال التاريخ إلا قليله، وذلك بحكم مفعول الزمن وتأثيره في المادة التراثية. ويترتب عن هذا أن الموقف السليم من التراث هو الموقف الذي يرى أن الوسيلة المناسبة للتعامل مع منتوجات الماضي هي إعادة إنتاجها، بما يعني ويفيد إعادة إبداعها لتطابق الأسئلة الجديدة، التي ما تفتأ تنشأ في التاريخ. لا ينبغي أن يفهم مما سبق أي موقف انتقائي، بل ينبغي أن يفهم في الإطار الذي يعي جيداً أن المكون التراثي ليس معطى جاهزاً، بل إنه يستدعي التركيب والبناء الموصول بإرادة الحاضر والمستقبل. وإذا كان التراث واقعة لا غنى عنها إطلاقا، بحكم أنه مركب جوهري من مركبات وجودنا التاريخي إن فك الحصار المعرفي عن فعاليتنا التاريخية يعد أمراً مطلوبا، من أجل المساهمة الفعلية في عمليات إبداعه، وذلك بإنشاء مركبات تراثية جديدة مطابقة لأحوالنا التاريخية في مختلف مستوياتها وأبعادها. أما استخدام التراث في ظل الطفرة الإعلامية الحاصلة اليوم فإنه يجعلنا نواجه عالما تعجز مفاهيمنا التقليدية عن استيعابه. ويقترب من هذا النوع من المقاربة، جهد آخر يبحث في التراث عن جاذبية الماضي، وعبق روح الأجداد، جذور التاريخ وهي تتآكل. يتعلق الأمر بالمحاولات المنهجية السيميائية التي تعيد بناء المتخيل التراثي، والمنتوج التراثي والأثر التراثي عموما، بتوسط أدوات مدارس النقد الجديد، المبلورة لوسائل تتيح إمكانية قراءات تخوض في طقوس نسج العبارات والمعاني والأدوات والطقوس والعلامات كما حفظتها متون ماضينا، خارج أسئلة التاريخ والزمان. نحن نطلق على هذا النوع من التعامل مع التراث، «قراءة المتعة»، تَلَقِّي المتعة بحثا عن لذة التراث»، حيث تقوم الكفاءة التخييلية المعاصرة بإعادة بناء المتخيل التراثي في الأشياء والكلمات، في إطار من لعبة كشف المخبوء، وإزاحة الغطاء عنه، لتجليته وتعريته. وقد تكون هذه المقاربة التي تهتم بلذة الأثر ( نصاً أو فعلاً او شكلاً )، أكثر اقتناعا بمبدأ القطيعة ، وكونية الموروث الإنساني، خارج أقنوم الهوية، وذلك بحكم أن إشكالية الهوية وتوابعها لا تندرج ضمن أفقها في القراءة والإبداع. ننتقل بعد هذه التوضيحات النظرية حول تصورنا للتراث، إلى بعض النتائج السلبية البادية في القنوات التي يطلق عليها بكثير من التجاوز إسم التراث الشعبي، حيث نكتشف آليات توظيفها للهجات التي تمثل فئات قبلية معينة، وذلك قصد إبرازها بدلا من تفكيكها وربطها بتاريخها المفترض، حيث يتم إغفال المتغيرات التي أنتجها المجتمع الحديث في المجتمعات العربية، دون أن يعني هذا عدم دراسة هذه اللهجات، بل القصد هو توقيف عمليات تحويلها إلى قضايا كبرى تفوق حجمها الفعلي داخل المجتمع. إن القيم اليدوية ليست هي التراث، واللهجات ليست عنواناً له، والتركيز على الطابع الفلكلوري لموروثنا لا يجعلنا نقدر على تملك التراث، ولا يجعل ما نسميه تراثاً قادراً على لحم وجودنا التاريخي، وعندما نلاحظ غياب وجود قنوات تعنى بالتاريخ العربي أو بمكونات الحضارة العربية في الفنون والآثار المختلفة في المعمار والصناعات والحرف المنتجة، وكل ما يحدد مجال فاعلية وفعالية الإنسان في التاريخ. ندرك أننا لم نتجه بعد إلى العناية بذاكرتنا وماضينا. وأخيراً نتساءل هل نوفق في ضوء ماسبق، في حسم إشكال علاقتنا بالتراث؟ هل نتمكن من تحقيق الوعي التاريخي بالمفارقات الناشئة عن علاقة الوعي بالتاريخ، والماضي بالحاضر في فكرنا المعاصر؟ أم أننا نتجه ونحن ننشئ هذا النمط من الفضائيات إلى منح الماضي المحنط طريقا آخر لإغلاق نوافذ وأبواب المستقبل؟.