منذ التسعينيات، وتحديدا منذ انطلاق بث قناة الجزيرة، أصبحت كلمة «الثورة الإعلامية العربية» إحدى المفردات الرئيسية في المعجم الدولي السمعي-البصري. تزامن هذا الحدث مع انتقال المجتمعات العربية-الإسلامية، وخاصة منها المنتجة للنفط والغاز، إلى قطب اقتصادي وتجاري بقوة دفع وجذب هائلة. مكنتها هذه الإمكانيات من استملاك أحدث الأساليب التكنولوجية في مجال الإرساليات والبث الفضائي. لكن إلى اليوم يبقى المشكل قائما في كون هذه الثورة التكنولوجية الإعلامية لم ترافقها بالموازاة صحوة ديمقراطية. الشيء الذي يوفر لنا مشهدا بقالب حداثي وقلب تقليدي. شكلت التسعينيات منعطفا هاما في المشهد السمعي البصري العربي، نتيجة تسارع إيقاعات العولمة، وانبثاق معارضات من صنف جديد (إسلاموية، مدنية)، وبسط شبكة الإنترنيت لخيوطها في مجالات جديدة وبتقنيات غير مألوفة، وتراكم باقة الفضائيات الوطنية والدولية، المستقلة منها والرسمية، وتطور تكنولوجيات التواصل عبر الجيل الجديد من الهواتف النقالة الخ...كانت هذه التحولات ولا تزال موضوع دراسات تقنية، إبستيمولوجية، تاريخية، أنثروبولوجية، سيميائية. ونال ما سمي بالثورة الإعلامية العربية حيزا وفيرا منها. في هذا الاتجاه يعتبر الكتاب الصادر حديثا عن منشورات سندباد في عنوان «العرب يخاطبون العرب.. الثورة الإعلامية في العالم العربي» تحت إشراف إيف غونزاليث كيخانو (أستاذ محاضرات بجامعة ليون)، وثريا غيباص، (أستاذة محاضرات بجامعة كليرومون-فيران)، امتدادا لهذه الدراسات. فالكتاب يستجمع الكثير من الأسئلة ليعيد طرحها بشكل منهجي ونظري متناسق بتوقيع أقلام مرجعية في الميدان، عربية منها وأجنبية. والكتاب الجماعي، بأقلام 16 باحثا، يفتح لنا آفاق حقول رحبة نتعرف فيها على الآليات الذهنية والتنظيمية لمجتمعات مجبرة على المدى البعيد على الانخراط في المجتمع الرقمي وفي الزمن الافتراضي. الانخراط في الإعلام الشمولي ينقسم الكتاب إلى ثلاثة محاور رئيسية كبرى: محور أول خصص لانبثاق فضاء عمومي عربي جديد. محور ثان انصب على تليفزيونات الأقمار الاصطناعية. محور ثالث عالج الإنترنيت العربي. في مستهل الكتاب قدم المنسقان، إيف غونزاليس كيخانو وثريا غيباس ورقة تمهيد وتأطير للموضوع بعنوان «الثورة الإعلامية بالعالم العربي»، ليؤرخا مرجعيتها عند منتصف التسعينيات غداة إطلاق أمير قطر قناة الجزيرة. غيرت هذه الثورة عمق المشهد الإعلامي المحلي ووفرت للمنطقة في نفس الوقت إمكانية هائلة لولوج طور الإعلام الشمولي. منذ ذلك الحين تأكد أن قناة الجزيرة «علبة لعود ثقاب» كما أسماها الرئيس حسني مبارك. قناة قادرة على إذكاء فتيل الفتنة في المنطقة إلى درجة تحفيز الولاياتالمتحدة على محاولة مقاومة نفوذها بإطلاقها قناتين منافستين، هما قناتا الحرة والعربية. اليوم يخاطب العرب العرب عن طريق قنوات تابعة للدولة أو قنوات خاصة، إما حرة الاستقبال أو مشفرة. ويناهز عدد القنوات التي تبث باللغة العربية المائة قناة، أغلبها عمومي تقترح برامج، تتماهى مع بعضها البعض في الشكل والمضمون من الأردن إلى المغرب مرورا بلبنان، مصر، مثل برنامج ستار أكاديمي. في الشق الغالب لهذه البرامج، ثمة نزوع إلى الحفاظ على التقاليد الثقافية للبلد مثل المباريات الشعرية التي تقام على قناة دبي-تي-في، التي يتابعها الألوف من المتفرجين. بواسطة آلة التحكم، لم يبق المتفرج رهينة القنوات الوطنية، التي تتلخص في نشرات أخبار تافهة ومبتذلة تفصل الحديث في حركات وسكنات الزعيم. إذ يمكن للمتفرج أن ينتقل من البرنامج الديني «الرسالة» إلى البرنامج الموسيقي «روتانا» ليعرج على مغامرات مهند ونور الخ...وعليه فرحاب الفضائيات واسع وعريض. الجيل الرقمي وكان لفتح العربية السعودية مجالها على الإنترنيت ثورة ثانية هائلة. وبالرغم من العوائق الاجتماعية، التقنية والثقافية، وعلى الرغم من الحواجز التي نصبتها بعض الأنظمة التي تناهض فتح العالم على مشارف جديدة من الصور، الأصوات والأخبار، فإن شبكة التواصل بين المجتمعات العربية تتوطد يوما بعد يوم. إذ بعد موجة أولى شاهدنا من خلالها تعددية على مستوى المواقع الإلكترونية للجرائد، المجلات، الجمعيات، بل حتى الأحزاب، رسمية أو محظورة، نمت اليوم كالفطر في العالم العربي المدونات الإلكترونية من توقيع أشخاص، أغلبهم من الشباب، ينحدرون من كل الشرائح الاجتماعية. وحسب إحصائيات أولية، يوجد اليوم في العالم العربي 30 مليونا من مستخدمي الإنترنيت. وهم الذين سيحددون مصير المجتمعات العربية غدا. ذاك هو الجيل الرقمي الذي ابتكر لغة جديدة تكتب فيها العربية بحروف لاتينية، والذي ساهم في تفجير التوافق اللغوي الكلاسيكي وتحرير اللغة اليومية ليضعها في موقعها المناسب إلى جانب اللغة الفصحى. وهكذا عاينا انفجارا للمجال الخصوصي. من يقدر اليوم على التنبؤ بعواقب هذا التحول على المجتمعات العربية؟ من له قدرة ادعاء معرفة ترجمتها في الواقع؟ هل ستضاعف «عولمة» الإعلام العربي من خطر «الشرخ» ليس فحسب بين الدول العربية والغرب، بل بين الدول العربية بعضها ببعض؟ هل ستكون هذه الثورة الإعلامية وراء صحوة عروبية في سباقها نحو تحقيق المزيد من معدلات الاستماع والمشاهدة؟ هل سيساهم «نجوم الإعلام الديني» أمثال القرضاوي وطارق رمضان على انبثاق تفاسير دينية أكثر انفتاحا وعلى قراءة حديثة للدين، أم سيحدث العكس؟ تلك هي بعض الأسئلة المطروحة للتساؤل على مخلفات هذه الثورة الإعلامية العربية. أهم شيء اليوم هو إعادة النظر في العلاقة بالسلطة المدنية والدينية. إنها أحد الشروط الضرورية لإعادة تجديد العالم العربي. إلى متى سيبقى هذا الهامش نشطا، خصوصا أن ثمة رغبة تنميها الحكومات العربية في الاستحواذ على الأجهزة الإعلامية؟ تأكدت هذه الرغبة على إثر أحد اجتماعات الجامعة العربية التي دعت إلى وضع ميثاق ل«حسن التصرف»، وهو اسم مقنع للرقابة. هنا أحد المخاطر التي تهدد الثورة الإعلامية العربية. انبثاق فضاء عمومي جديد إعلام جديد وجمهور جديد بالعالم العربي، هو عنوان الورقة التي قدمها كل من جون أندرسون (أستاذ الأنثروبولوجيا بالجامعة الكاثوليكية الأمريكية بواشنطن)، و د.ف. إيكلمان، (أستاذة كرسي ريشار لازاريس بكوليج دارموت بامريكا). ركز الباحثان على مسألة انبثاق تصور جديد للجمهور في العالم العربي-الإسلامي. وهذا الانبثاق وليد عوامل سياسية، اقتصادية، اجتماعية. تجاوز النقاش الوطني الحدود الضيقة لينقل على الفضائيات الدولية وعلى الشبكة العنكبوتية في لمحة بصر. منذ نهاية الفترة الاستعمارية، وظفت السلطات السياسية وسائل الإعلام الحديثة للتعريف، إعادة صياغة وترقية نوع معين من حسن السيرة العمومية. لكن بدْا منذ عام 1970 أن شرعية الدولة في هذا المجال أصبحت غير معترف بها، وتحديدا في الوقت الذي استحوذت فيه الحكومات على حق نشر وتمرير الرسائل والأخبار، سواء عن طريق البث السمعي-البصري أو المكتوب، وفي أيضا الوقت الذي أصبح فيه عدد متزايد من الأشخاص ينادون بحقهم في أخذ مواقف علنية باسم معتقداتهم الدينية. ويلاحظ اليوم استغلال نفس الإمكانيات التكنولوجية التي توجد في حوزة الدولة لتمرير رسائل مضادة ومناهضة. وبهذا تمت مراوغة الحواجز المفروضة من طرف الدولة، وبالتالي العمل على تفتيت السلطة السياسية والدينية. الهاتف، الكومبيوتر، الفاكس، الآلة الناسخة هي مستندات أصبح فيها التبادل والتقاسم أمرا جاريا به العمل. لكن الأمر يتعلق في الواقع بنوع من القرصنة الشرعية لوسائل من المفترض أن تكون مشتركة. ونعاين على إثر هذه الممارسة أن أشكال الخبر أصبحت أكثر فردية وتجد صيغتها في العبارة التالية: «أتكلم باسمي». وعليه فالفاعلون الجدد في الفضاء الجديد يقترحون تأويلات جديدة عبر وسائل إعلامية جديدة. يأتي الباحثان على ذكر ما سمياه بالمثقفين الإسلاميين ذوي الشهرة العالمية مثل الشيخ القرضاوي، طارق رمضان وغيرهما. الرسائل التي يبثها هؤلاء المفكرون مرتبطة بالإطار الخطابي الذي تنطق منه والطرف الذي تتوجه إليه أو تخاطبه. فالخطاب وتقنياته يختلفان من جمهور إلى آخر. وتبقى الرغبة أو الهدف هو خلق تمازج وانصهار مع الجمهور. ويساهم هذا الجمهور في «العولمة من تحت»، التي تعتبر نوعا ما امتدادا لعولمة الأنظمة المالية أو الاستهلاكية. ظهر الجمهور الجديد بفضل التطور المتنامي لأنظمة التعليم وخاصة للنسق الجامعي. وليست النخبة المثقفة هي أحسن ما يمثل هذه الشرائح. فانبثاق المدارس العمومية، ونمو التربية، وانتشار مؤهلات وسجلات ثقافية شوشت على الفواصل المميزة بين الشرائح الاجتماعية، وتدخل النساء في مجال النقاش الديني والسياسي... هي من العوامل المساعدة في المجتمعات الإسلامية على نمو فضاء عمومي وإعلامي فاعل. طريقة جديدة في التفكير إحدى خصائص هذه الفضاءات العمومية الجديدة هي مساهمتها في «إعادة تثقيف» الخطابات الإسلامية والسياسية القديمة بصياغة الأطروحات والافكار في خطاب سهل المنال مع تقريبها من لغة التخاطب اليومي. كما أثرت في طرق التفكير وأساليب البرهان باتكائها على معارف أقل علمية، معارف هي في متناول الجميع. وقد ترتب عن هذا المعطى الجديد، وبفعل كثافة شبكة العلاقات الأفقية، تكاثر سريع للمستفيدين من بروز وسائل إعلام جديدة. أما الباحثة ليلى داخلي، وهي مبرزة في التاريخ، فتطرق بحثها، وهو مقتطف من رسالة دكتوراه، لموضوع «أزمنة التحديث الأولى للحقل الإعلامي العربي»، مع التركيز على الصحافة المكتوبة لما بين الحربين الكونيتين. فلورانس سورونسكي وإيزابيل سوربيس-فيرجي درستا أثر الأقمار الاصطناعية أو الإعلام الفضائي على المجتمعات العربية. إذ كانت الفضائيات وعلى أكثر من مستوى بمثابة مدخل لمقاربة الرهانات الحديثة التي انخرطت فيها المجتمعات العربية. وكان برنامج عربسات الفضائي فاتحة هذه الرهانات. فقد تم إطلاق هذا البرنامج منذ عام 1960 من طرف الجامعة العربية. النظام الثاني هو نيل- سات الذي رغبت مصر في إنجازه منذ نهاية السبعينيات، ثم نظام ثريا، وهو نظام تم إنجازه بإرادة من الإمارات العربية المتحدة وبشراكة عربية وأجنبية. لم تعد الدول العربية اليوم بحاجة إلى أن يعترف بها في مجال الفضائيات، إذ تغطي أنطمتها الفضائية كل المجالات. كما أن الرهانات الأمنية والبترولية تجعل من هذه الدول فاعلا رئيسيا. الأجهزة الإعلامية كصناعة ثقافية أحد المتطلبات اليوم هي القيام بفحص نقدي لوضعية الأجهزة الإعلامية العربية، بالنظر إليها كصناعات ثقافية تتموقع داخل مجال العولمة وأيضا كأجهزة سياسية من الدرجة الأولى باعتبارها تحيل على فضاء وطني. أحد الرهانات الرئيسية هي مسألة الانفتاح ودمقرطة الفضاء العمومي والإصلاحات التي تشهدها أكثر من دولة عربية. لكن الملاحظ هو غموض العلاقة بين السلطة السياسية والإعلام، حتى إن كان هذا الأخير أداة مسخرة لخدمة أغراض الأولى. إذ لا توجد أي قناة في موقع مستقل تجاه النظام، سواء أكان معتدلا أو متشددا. ما فائدة الثورة بدون ديمقراطية؟ إلى هذا السؤال، تنضاف أسئلة أخرى لا يمكن للقارئ أن يغض الطرف عنها بمجرد إنهائه قراءة هذا الكتاب القيم من نوع: ألم يدخل العرب الزمن الرقمي حفاة، عراة من أي تراكم تاريخي ومعرفي، حيث الإنترنيت لا تساعد في الواقع إلا على نشر الأمية وتوسيع رقعة الأميين؟ (راجع الملف الذي أعدته المجلة الفرنسية بوكس). ألم ندخل في قلب تبعية من نوع آخر واستلاب مقنع من نوع جديد؟ يتعلم الأطفال اليوم النقر والدق على الكومبيوتر قبل أن يتعلموا تركيب المفردات والجمل؟ ما هي المعارف التي نتقاسمها ونتصفحها في زمن الفضائيات وأزمنة الاحتمال؟ أهي معارف التجديد والابتكار أم «معارف» التسلية والتكرار؟ مرجعية قناة الجزيرة ما نتحدث عن الإعلام العربي، يحضرنا طبعا نموذج قناة «الجزيرة» التي أصبحت منذ انطلاقتها إحدى المرجعيات الإعلامية والشغل الشاغل ليس فحسب لبعض الدول العربية، بل أيضا لأمريكا التي سعت من دون نتيجة إلى إسكاتها. اعتبرها البعض وخاصة الغربيين صندوق بريد القاعدة، فيما نوه البعض الآخر بسبقها الإعلامي. ولولا حلم وإرادة الشيخ حمد بن خليفة، أمير قطر، كما يشير إلى ذلك هيغ ميلز، لما كان ممكنا لها أن ترى النور. بضخه أموالا باهظة، نجح في تحويلها إلى قناة دولية تنافس بل تهزم أحيانا قناة «سي-إن – إن». ولما فشلت الولاياتالمتحدة في نزع فتيلها، صححت إستراتيجيتها لتتوجه إلى ضرب أحلاف مع وسائل إعلام دول عربية أخرى بالمنطقة. أما الباحث المغربي محمد الوافي، الذي يعمل بمعهد الدراسات السياسية، فيحلل في مداخلته أسباب فشل قناة «الحرة» التي أرادتها الولاياتالمتحدة مشروعا مناهضا لقناة «الجزيرة». إذ عهدت إلى مجموعة صحافيين لبنانيين وأكراد من العراق مهمة الإشراف على القناة ووضعت لهم الاستخبارات الامريكية خطا تحريريا مفاده تلميع صورة أمريكا بالقرب من المجتمعات العربية. لكن هذه الإستراتيجية لم تأت بنتيجة تذكر. إذ لجذور الرفض والكراهية أسباب سياسية، تاريخية ترتبط بالعنف الذي تمارسه أمريكا وحلفاؤها بالمنطقة. ولمحو أثرهما لا يكفي تلميع الصور، بل تقديم حلول راديكالية وعادلة. وفيما عالج بلقاسم مصطفاوي ما أسماه بالانفتاح المراقب ووسائل الإعلام الجديدة بالجزائر، وانبثاق الأنترنت كحدث أساسي في المشهد الإعلامي الجزائري، وتطرق رياض الفرجاني إلى المكونة الاقتصادية للتلفيزيون التونسي كسلعة تخضع لقوانين العرض والطلب ويتحكم فيها عامل الربح والترفيه، درس باتريس شوفالييه ما أسماه بصحافيي النيت باليمن، عارضا لمقاومة حفنة من الصحافيين للرقابة، التخويف، الحجز. إذ فتحوا منتديات، وديوانيات شخصية، وأجروا تحقيقات ميدانية. وتعتبر شبكة «مأرب-بريس» نموذجا في هذا المجال. في مقالها «وهم السلطة الرابعة: مدونون مغاربة يبحثون عن اعتراف»، أشارت نادية بن سلام إلى أن المدونين المغاربة استغلوا الهامش الديمقراطي لينخرطوا بعشرات الألوف في العالم الاحتمالي ويتبوؤوا على إثر ذلك موقعا مميزا في مجموع شمال إفريقيا. وقد ساعد اتساع رقعة الاتصالات المغربية على هذه الطفرة. ويحظى «الفضاء الديواني» المغربي Blogosphère بلغته الجريئة، سواء تعلق الأمر بالسياسة، أو قضايا المجتمع، أو الدين، الخ...