ظل المشاهد العربي لسنوات طويلة قانعاً بما يراه من قنوات محلية حكومية، تقدم له وجهة نظر واحدة هي وجهة نظر الدولة أو الحكومة على وجه التحديد. وبحيث أصبح على المشاهد أن يتوافق مع وجهة نظر حكومته هذه أو يفكر في مخرج آخر إذا لم يتقبلها. وكان هذا المخرج محدداً بما تتيحه له موجات البث الإذاعي التي تأتي ببعض المحطات غير المتفقة مع وجهة نظر الحكومة، وكان اللجوء للبث الإذاعي الخارجي هو المتاح فقط للمواطن للفارق المعروف بين البث الصوتي عبر الموجات اللاسلكية والقادرة على الوصول لجميع أنحاء العالم، وبين بث الصورة بالنظام الأفقي والذي لا يسمح بتجاوزها حدود الدولة إلى دول أخرى إلا استثناءا إذا ما كانت قريبة جداً منها. ومن هنا راجت لدى المواطن العربي بعض الإذاعات الأجنبية وعلى رأسها إذاعة (بي بي سي) العربية (التابعة لهيئة الإذاعة البريطانية) - أو محطة إذاعة (مونت كارلو) الناطقة بالعربية التابعة للإذاعة الفرنسية، وإذاعة (صوت أمريكا) الناطقة بالعربية. وفي بداية البث المباشر بالأقمار الصناعية كان على المواطن أن يعدل من موقفه مع اقتحام هذا البث التلفزيوني القادم من خارج الحدود لبلده بعد أن أتاحت أغلب الدول العربية ذلك بتسابقها على إنشاء المحطات الأرضية لاستقبال هذا البث، إما مواكبة للعصر أو تحت إلحاح النقد اللاذع لتخلف بعض هذه الدول عن ركب التطور العالمي الذي حدث. ولم يكن الأمر متروكاً لظروف كل مواطن على حدة وقابليته على التعامل مع تكنولوجيا البث الجديد، وإنما جاء الحدث الذي دفع المشاهد العربي إلى اتخاذ موقف سريع بالاستجابه له وذلك باقتناء أجهزة وأطباق الاستقبال بشكل كبير بعد حرب الخليج الثانية (العراق- الكويت) والتي نقلت المواطن نقلة نوعية كبرى من خلال انتقال سلطة البث المباشر لأحداث هذه الحرب وما تلاها من تدخل الولاياتالمتحدة عسكرياً بضربها للعراق، ومتابعة المعارك الدائرة عبر الشبكة الاخبارية الأمريكية الوليدة ( CNN) والتي استخدمت عملية البث من دون الحاجة إلى اقتناء (دش) أي عن طريق استقبالها عبر عدد من الدول العربية وبثها أرضياً (البث الأفقي) كأي قناة محلية، والتي قدمت دقيقة بدقيقة تطورات ما سمي (عاصفة الصحراء)، أو بالأحرى انتقلت سلطة البث الخطير من خلال العباءة الإعلامية لهذه الدول إلى سلطة إعلامية آتية من خارجها، وبمواصفات مذهلة من حيث الحيوية وسرعة ملاحقة الأحداث والتنوع في برامج هذه القناة الفضائية، مع التطور المذهل في نقاء ووضوح الصورة وجمالها، كذلك فقرات الربط ومقدمات البرامج القائمة على استخدام أكثر الأساليب تطوراً في (الكمبيوتر جرافيك). ويمكن أن نخلص مما حدث إلى أن هذا الحدث شكل نقلة كبرى للمواطن العربي حيث وضعه على أبواب ثورة إعلامية جديدة ممثلة في التالي: 1. فتح ثغرة في منظومة التغطية الإعلامية المحلية التي استمرت لعقود قبل هذا بلا منافس. 2. نقلت المشاهد العربي من موقف المتابع عن بعد إلى موقف أكثر قرباً من الأحداث بحكم تقنيات الاتصال الحديثة التي أتاحت له رؤية عمليات الحرب في مواقعها الميدانية، ولا يزال المشاهد العربي يذكر عمليات ضرب مدينة بغداد في الظلام وتغطية (بيتر آرنيت) مراسل هذه الشبكة، حيث كان المراسل الوحيد الذي نقل الحرب من بغداد، عبر وسيلة مستحدثة وهي الإرسال المباشر إلى القمر الصناعي، ثم إعادة البث عبر القناة للمشاهد. 3. أنها وضعت المشاهد العربي في موقف معرفي جديد باطلاعه على إمكانيات الإعلام الحديثة وأبجدياته وقدرته في تنوع أساليب العرض والتقديم وسرعة الانتقال إلى موقع الحدث، وهو ما يختلف جذرياً مع أسلوب الإعلام السائد، كما أنها أحدثت تغييراً هاماً في حياة المشاهد نفسه من حيث إعادته لترتيب أولوياته الإعلامية والمادية، وهو ما أثر في النهاية على موقفه من الأحداث الجارية يومياً وعلى حصيلته الثقافية. انطلاق القنوات الخاصة إذا كانت حرب الخليج هي أهم تجليات الثورة الإعلامية الجديدة بالإضافة إلى كونها السبب الأساسي لإقناع المشاهد العربي بهذه الثورة، ومن ثم إقباله فيما بعد على الخروج من قوقعة البث الحكومي إلى عالم البث القادم من خارج حدوده، فإن هناك من العرب من أدرك سريعاً أهمية هذه الثورة، من هنا انطلقت محطة تلفزيون (MBC) والتي يملكها سعوديون، لتكون أول محطة تلفزيونية عربية خاصة تنطلق بعيداً عن العواصم العربية متخذة من لندن مقراً لها، وبعيداً عن دلالات هذا الانطلاق فإن وجود هذه القناة أنعش الآمال لجهات عديدة في العالم العربي كانت تراقب الموقف العام وخاصة موقف الجهات الإعلامية العربية الحكومية في قضية البث المباشر ذاتها، ومعروف أن حكومات عربية حظرت هذا البث في بدايته، وعاقبت من يضبط بحوزته طبق الاستقبال بمصادرته، غير أن حركة التاريخ لا يمكن أن تمضي إلى الوراء، ومن هنا تراجعت إجراءات الحظر والمصادرة، وتقدمت إجراءات أكثر ذكاء وهي لجوء الحكومات نفسها إلى إطلاق قنوات بث فضائية معبرة عن سيادة الدولة وسط الفضاء. وكالعادة وفي إطار الحدود التي تلتزم بها الحكومات العربية في إعلامها، فإن القنوات الفضائية الحكومية جاءت معبرة عمّا يمكن تسميته بالأطر المسموح به في الإعلام الرسمي أو شبه الرسمي. صحيح أن الأمر لم يخلو من بعض الجرأة أو الممارسة المهنية الممتازة على هامش هذه القناة أو تلك، إلا أن الصيغة النهائية لعمل هذه القنوات ظلت محكومة بالإطار السابق ذكره لسنوات طويلة حتى بداية العام 2001 عندما استطاعت قناة أبو ظبي الحكومية الفضائية أن تطور وتبتعد كثيراً عن القالب الغالب على القنوات الحكومية. الجمهور العربي والقنوات الفضائية في بداية إرسال قناة (CNN) الإخبارية الأمريكية عمد أصحاب هذه القناة إلى تكوين جمهور مبدئي لهم، وذلك من خلال الاسلوب الرأسمالي المعروف، وهو البث المجاني لفترة ثم الإعلان عن الفواتير، وفي مصر وعلى سبيل المثال فقد أبرمت هذه الشبكة اتفاقاً مع وزارة الإعلام المصرية تم بمقتضاه إدخال بثها مجاناً للبيوت المصرية منذ العام 1990 حتى إنتهاء حرب الخليج الثانية. وكان هذا البث الذي اعتبر وقتها بث تجريبي لأول شبكة إخبارية متخصصة في تاريخ الإعلام التلفزيوني بمثابة حرث الأرض، واستطلاع لإمكانية التعامل مع المشاهد العربي. وبعد الحرب أوقفت (CNN) هذا البث المجاني بالنظام الأفقى، بعد أن تمكنت من إقامة الجسر المطلوب مع عشرات الآلاف من المصريين الذين بادروا على الفور بشراء الأطباق وأجهزة الاستقبال والتي تعمل بنظام (الأنالوج) عن طريق خاصيتين وهما (C Band, KU Band) وقد خلقت (CNN) من خلال بثها التجريبي قناعة لدى المشاهد المصري، بأن التعامل معها مرادف للإطلاع على أخبار وأحداث لا يراها عبر تلفزيونه المحلي، وهو ما أضاف لهذا الشاهد شعور بالثقة لكونه يقف على قدم المساواة مع المشاهد الأوروبي أو الأمريكي، أو على الأقل مع نخبة من المشاهدين التي تتعامل مع هذه القناة بلغتها الإنجليزية. ومن جهة أخرى فإن وجود عائق اللغة حال دون زيادة شعبية هذه القناة في مصر والعالم العربي إلى الدرجة القصوى، وإن لم يمنع تغلغل نفوذها لدى النخبة من العاملين في حقل الإعلام المرئي والمكتوب، خاصة المحللين السياسيين، إذ سيطرت على هؤلاء قناعة عميقة بأن هذه القناة هي أحد أجنحة السياسة الأمريكية منذ اللحظة التي انفردت فيها باحتكار تغطية حرب الخليج، ودخل مراسلوها الكويت مع القوات الأمريكية لهذا الغرض. ومع ذلك فقد أدت هذه القناة خدمة جليلة لكل من قنوات البث المباشر الأخرى وللمشاهد العربي أيضاً، فمن خلال إرسالها التجريبي الأول أدرك المشاهد أن هناك إعلاماً آخر غير إعلامه المحلي، وألهم هذا الإدراك المشاهد إلى قرار الخروج إلى ساحة الإعلام الحر. وسواء كان هذا المشاهد يتقن الإنجليزية أو يجهلها، فقد أصبحت حاجته إلى مشاهدة الجديد في كل شيء كان محروماً منه، أكثر إلحاحاً من التحدث بلغات أخرى. من هنا سارع المشاهدون للتعامل مع كافة القنوات الفضائية التي تزايدت بشكل سريع وغير مسبوق، بعد إطلاق العديد من أقمار الاتصالات والتي تبث من جميع أنحاء العالم، والتي وصل عددها في الفترة من عام 1990 إلى عام 1995 خمسة أقمار صناعية، وحيث جمع المشاهد العربي بين نظامي البث (الأنالوج) فأصبح يشاهد دفعة واحدة أكثر من مائة قناة فضائية أجنبية، بالإضافة إلى نظام الاشتراك في باقات مختارة من القنوات مثل بطاقة (الأوائل) التي ابتدعتها شبكة راديو وتلفزيون العرب (ART) وباقة الشركة المصرية لأخبار (CNN) بالإضافة لمجموعة قنوات (ٍShow Time) وشبكة (أوربيت)، وكلها قنوات شركات خاصة للبث. ظهور قناة (الجزيرة) ظل المشاهد العربي منذ بداية التسعينات يبحث عن مرساة يلقي بها بمجذافه بين كافة القنوات الحكومية والخاصة، حتى عثر على قناة الجزيرة التي بدأ بثها من قطر في نوفمبر 1996 كأول قناة فضائية عربية إخبارية متخصصة. وقد جاء هذا التخصص موفقاً في وقت أصبحت فيه للأحداث السياسية أهمية كبرى في إطار التغييرات العالمية التي ألغت الثنائية القطبية، وظهور الولاياتالمتحدة كقوة عظمى وحيدة تسعى لفرض هيمنتها على العالم من خلال نظام العولمة، وتداعيات هذا على الموقف العربي وحيث اتسعت الأزمات السياسية العربية خاصة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية وتفاعلاتها، وقضية العلاقة مع إسرائيل والموقف العربي تجاهها، والتشرذم العربي في مواجهة التكتلات الدولية ..إلخ. لم يكن أكثر المتفائلين من المراقبين للعمل الإعلامي يتوقع الصعود القوي والسريع لهذه القناة على النحو الذي حدث، فإلى جانب إستقطابها لشرائح متعددة من المواطنين العرب من المحيط إلى الخليج، فإنها أيضاً استطاعت استقطاب العرب في المهاجر المختلفة وبحيث أصبح صوتهم أساسياً ضمن الرسائل والمداخلات الخاصة بالبرامج. وبعد فترة زمنية قياسية، أصبح للجزيرة وجود حقيقي قوي ومؤثر في منظومة الإعلام العربي المرئي، وأصبحت قادرة على إقناع المشاهد بالإنصات لها حتى لو اختلف معها أو وجد منها بعض الشطط أو ما لا يرضيه أحياناً. بيد أنه من المهم هنا التأكيد على أن الجزيرة استقطبت المشاهدين على هذا النحو برغم التهديد الكبير من القنوات التي أصبح المشاهد يتعامل معها، وخاصة بعد أن بذلت الحكومات العربية جهداً ملموساً في تطوير قنواتها الفضائية الرسمية، ومنها مثلاً القناة الفضائية المصرية الأولى ثم الثانية، وأيضاً القنوات الفضائية الكويتية، العمانية والبحرينية وقناة دبي والشارقة والسورية، خاصة فيما يتعلق ببرامجها الإخبارية شكلاً ومضموناً، بالإضافة إلى إطلاق مصر لقناة إخبارية متخصصة هي قناة النيل للأخبار التي تم بثها بعد إطلاق القمر الصناعي المصري (نايل سات 101) في نوفمبرعام 1998. وبرغم أن قناة النيل للأخبار تعد من أفضل القنوات العربية المتخصصة، وشبكة الأخبار العربية (ANN) وهي قناة خاصة تبث من لندن ويملكها سوريون، وأيضاً استمرار قناة الأخبار الأمريكية (سي إن إن) في اجتذاب الكثير من المشاهدين العرب، برغم كل هذا فقد استطاعت الجزيرة أن تصبح القناة الفضائية العربية الأكثر تفضيلاً لدى قطاعات لا يستهان بها من المشاهدين العرب لأسباب متعددة: أولها: ما يخص كونها أول قناة إخبارية عربية متخصصة تحقق في قوة اندفاعها نجاحاً يجعل المشاهدين يتتبعونها حتى مع تغيير نظام البث وخروج قنوات أخرى إلى عالم المشاهد. أما السبب الثاني: فهو كون هذه القناة تتمتع بإمكانيات مادية عالية كفلت لها مقدرة الحركة السريعة والنشطة واستخدام كافة الوسائل المتاحة لتوفير المادة الإخبارية وخدمتها بأسلوب يضاهي في كثير من الأحيان ( ال سي إن إن) نفسها، سواء من حيث التغطية المشبعة ومن موقع الحدث، بجيش من المراسلين في جميع أنحاء العالم، وفي أماكن لا يوجد فيها مراسلون لقنوات عديدة ليست عربية فقط بل أجنبية أيضا. السبب الثالث: هو كونها تتمتع بحرية أكبر من القنوات الحكومية العربية، مهما كانت نسبة هذه الحرية، خاصة وأن المشاهد أصبح لديه نوع من الشكوك فيما يصدر من المؤسسات الإعلامية التي تدور في فلك السلطة، مهما كان ما تقدمه قوياً وجريئاً. والسبب الرابع: أنها أثبتت أنه من الممكن نجاح قناة تلفزيونية دون أن تعتمد على الدراما والمنوعات، وأن المادة الإخبارية والوثائقية يمكن أن تكفي للاستحواذ على المشاهد إذا ما أحسن عرضها وتقديمها. ومن جانب خامس: فإن هذه القناة رغم اتهام الكثيرين لها بالشطط وبالتحيز لتيار سياسي على حساب تيارات أخرى أحياناً، وبلجوء بعض مقدمي برامجها إلى استفزاز ضيوفهم في أحوال أخرى، إلا أنها بالمقابل استطاعت أن تكسر أغلب قواعد الحظر في طرح موضوعات برامجها، بحيث غلب على خطها البياني الصعود في نوع المواجهات بين ضيوفها، والذي قد يراه البعض (صراع ديكة)، بينما البعض الآخر يراه رأي ورأي آخر طبقاً لشعارها أو صرخة قوية كانت مطلوبة وتحققت، بعد طول عجز وفشل في تناول القضايا السياسية العربية والدولية بحرية حقيقية. وهي في هذا تنسجم مع التهديد من القنوات الإخبارية الأجنبية، أو كما عبر أحد مقدميها في تعقيب على هذه الاتهامات، أنه ماذا تفرق بعض برامجها عن برامج مثل (هاردتوك) الإنجليزي في قناة (بي بي سي) الإنجليزية ، أو برنامج (لاري كنج) في ( ال سي إن إن) ، وغيرهما. خلاصة القول أن قناة الجزيرة مهما اختلفت حولها الآراء تظل حتى هذه اللحظة تمثل جزءاً مهماً من الثورة الإعلامية على النمط الذي ظل المشاهد العربي يقتات عليه لسنوات طويلة، حيث يمكن تشبيه ظهورها كمن ألقى بحجر في بركة مياه راكدة، أو بالأحرى أن هذه القناة استطاعت أن تخلق منافسة غير مسبوقة بين الجميع وبينها من أجل الأفضل، أي أصبحت النموذج الذي يقارن به تقدم أي قناة إخبارية عربية. * بقلم ماجدة موريس كاتبة صحفية وناقدة للتلفزيون والسينما. نائب رئيس تحرير جريدة الجمهورية المصرية.