في حديقة بقرطبة ارتطم رأسه بحجر أملس، مد يده وتحسسه بلطف دون أن ينظر إلى الأعلى، ذهل من قوة النور الذي ملأ عينيه، تلعثم، ثم وقف كالمسمار. قال: -إلهي ما هذا، بشر أم حجر؟ - أنا ابن رشد، ألم تعرفني، هكذا صوروني في هذا التمثال.. - لا، سيدي، عرفتك، لكنني لم أصدق، وكنت أعتقد أن ابن رشد هو نور الشريف. - ماذا تقول أيها الأبله..من هو نور الشريف هذا. - ممثل مصري، لعب دور ابن رشد في فيلم (المصير) ليوسف شاهين. - أتمزح معي، أيها الأبله ؟ - لا، أقول لك ما شاهدته بأم عيني. سكت التمثال عن الكلام، لم يجد ما يقنع به عابر البحر هذا، وتركه يأخذ صورا للذكرى. لم تكن الحديقة خالية، بل بها حركة بعض المارة، وفتى وفتاة يقبلان بعضهما البعض بإحساس عميق و نادر. نادى على صديقه الأمين ليلتقط له صورة مع تمثال ابن رشد، رغب الأمين في أخذ صورة مع ابن رشد، قال له:إنه تكلم معي. - يبدو لي أنك لم تنم جيدا، أو أنت مخبول. أيها الغبي، هل هناك تمثال، لا روح فيه، يتكلم. - أقسم لك بالله العظيم أن ابن رشد تكلم معي. أشاح الأمين بوجهه عنه، تابع المسير داخل الحديقة، حل الظلام، والقمر ينير الحديقة وتمثال ابن رشد الحامل في يده لكتاب الحكمة، ثم عاد... قال الأمين: - هل شاهدت الكتاب الذي يحمله ابن رشد في يده؟ - نعم، شاهدته، ذلك هو النور الذي أشع على العالم في الوقت الذي كان يملأه الظلام. كان ابن رشد، أو كما يسميه اللاتينيون AVERROES بحرا في الفيزياء والطب والفلك وأصول الفقه والفلسفة. شرح مصنفات أرسطوطاليس وأضاء ما أغمض من عباراتها. تولى القضاء في إشبيلية.. يقاطعه، قلت إشبيلية: - زرتها ذات يوم زيارة خفيفة، وأتمنى أن أزورها مرة أخرى. قال الأمين: - ستزورها قريبا، يا بني، وسترتاد في الليل ناديا لم تشاهد مثله من قبل، يفوق نادي قرطبة روعة بمليحاته...و... قال: - لنعد إلى موضوعنا...( تولى ابن رشد القضاء في قرطبة مسقط رأسه وفي منصب أبيه وجده). لم أسمع ما قاله الأمين.. كنت من حين لحين ألقي نظرة خاطفة على الفتى والفتاة يقبلان بعضهما، ثم ينظران إلى السماء، لا يثير وجودنا بالنسبة إليهما أي شيء... أحسست بحرارة تتصاعد من كل جسمي..انتفضت..تذكرت بديعة، والليالي الجميلة بلذاتها التي قضيناها معا في تطوان. - قلت في نفسي: آه، لو كانت معي الآن... تحسرت لغيابها. مازلت أتأمل تمثال ابن رشد، صلابته، عظمته، حكمته التي تبرز من عينيه كقنديل نور، قوته التي جعلته يتحمل حرق كتبه أمام عينيه. كل هذا وأكثر.. سألني الأمين: - - فيم تفكر؟ - أفكر في المعالم العربية الإسلامية التي لم تطمس نهائيا، رغم تحويل المسجد الجامع إلى كاتدرائية وتعديل الحديقة الخارجية للمسجد. - ماذا تقول..هل جننت يا صديقي؟ - لا،بل أنا في أتم قواي العقلية. ثمة روح هنا يا صديقي. الروح التي ترفرف في الحديقة وفي أي مكان مشى فيه أجدادنا. ودعت ابن رشد، لم يجبني بأي شيء..أيقنت أنني كنت أكلم تمثالا. ظلت روحه تهيم في الحديقة، روحه الحكيمة النورانية التي أشعت وتشع على العالم. ناديت على الأمين. كان يتحدث مع سيدة إسبانية جميلة مكتنزة، كانا يتضاحكان، تظاهر أنه لا يعرفني. تركته معها في الحديقة، وتابعت المسير لوحدي، كان القمر بدرا، والجو دافئا، كنت أريد الوصول بأقصى سرعة إلى فندق قرطبة.