من خلال هذه الحلقات العلمية القيمة، سنجول مع الدكتور التهامي الراجي الهاشمي في حدائق القراءات القرآنية المتواترة، حيث، سيمهد للقارئ بفضل خبرته الطويلة في هذا الميدان العلمي الذي يصح أن نقول إنه حجة فيه الطريق إلى اكتشاف كنوز هذه القراءات، تاريخا، وحفظا، وأداء، وقواعد، وأسرارا. قرأ قتادة، رحمه الله، الآية 24 من سورة سبأ كما يلي: »قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وظن داوود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب«؛ قرأ هكذا »فتَنَاه« بتخفيف التاء والنون. المراد بهذه التثنية في قراءة قتادة المَلَكان، وهما الخصمان اللذان اختصما إليه، أي: علم أنهما اختبراه، فخبَّراه بما ركبه من التماسه امرأة صاحبه؛ فاستغفر داوود ربه. شارك قتادة في هذه القراءة كل من أبي عمرو في قراءة عبد الوهاب بن عطاء بن مسلم أبو نصر الخفاف العجلي البصري وعلي بن نصر بن صهبان أبو الحسن الجهضمي البصري وعبيد بن عمير وابن السميْقع. في هذه اللقطة قراءة أخرى قرأ بها الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ لقد قرأ: »وظن داوود أنما فتَّناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب« بتشديد التاء والنون ففعلْناه؛ وهي للمبالغة. ولما دخلها معنى نبَّهناه ويقَّظناه جاءت على فعَّلناه؛ انتحاء للمعنى المراد ومعلوم أن الجمهور يقرأها كما هي: »وظن داوود أنما فتنَّاه فاستغفر ربه وخرَّ راكعا وأناب« بتخفيف التاء وتشديد النون. وقرأ قتادة أيضا، رحمه الله، الآية 33 من سورة حم عسق؛ وهي السورة التي تعرف عند الجم الغفير من الناس ب»سورة الشورى«؛ أقول: »قرأ هذه الآية كما يلي: »إن يشأ يُسكن الرِّيح فيظللن رواكد على ظهره إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور«؛ نعم، لقد قرأ »فيَظْللن« بكسر اللام الأولى. ومعلوم أن الجمهور يقرأها هكذا: »إن يشأ يُسكن الريح فيظللن رواكد...« بفتح اللام الأولى.. قراءة قتادة هي على (ظَلَلْتُ أظِلُّ) كفررْت أفرُّ، والمشهور فيها: »فعِلْت أفْعلُ: ظلِلْتُ أظِلُّ«. لقد تصدى الزمخشري لهذه القراءة فقال عنها في الجزء الرابع من كشافه، صفحة 178: »وقرئ: »الريح فيظللن« بفتح اللام وكسرها: من ظل يظِلُّ ويَظُلّ؛ ونحو ظَلَّ يظِل ويظَلُّ نحو ظلَّ يَظِلُّ ويَظَلُّ، وليس كما ذكر، لأن يظل بفتح العين من ظلِلْتُ بكسرها في الماضي ويظِلُّ بكسرها من ظَلَلْن رواكد على ظهره« أي: فتبقى السفن سواكن على ظهر البحر لا تجري. وقرأ قتادة أيضا، رحمه الله، الآية 4 من سورة الأحقاف كمايلي: »قُلْ أرأيتم ما تدْعون من دون الله أرُوني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شِركٌ في السماوات ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثرة من عِلم إن كُنتمْ صادقين«؛ قرأ »أو أثرةٍ« بغير ألف. شارك قتادة في هذه القراءة كل من عبد الله بن عباس، رضي الله عنه، لكن بخلف عنه وعكرمة وعمرو بن ميمون، ورويت كذلك عن الأعمش. أما علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، فقرأها: »أو أثْرة«، ساكنة التاء. شارك علياً في هذه القراءة أبو عبد الرحمان السَّلمي. قراءة العامة« أو أثارة« بألف بعد الثاء. قال ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: »هو خط كانت تخطه العرب في الأرض«؛ ذكره المهدوي والثعلبي، وقال ابن العربي: »ولم يصح«. علق أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي على هذا في الجزء السادس عشر، صفحة 179 من تفسيره »الجامع لأحكام القرآن »فقال: »هو ثابت من حديث معاوية بن الحكم السلمي؛ خرجه مسلم أسنده النحاس: حدثنا محمد بن أحمد قال حدثنا محمد بن بندار قال حدثنا يحيى بن سعيد عن سفيان الثوري عن صفوان بن سليم عن أبي سلمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله عز وجل »أوْ أثارة مِن عِلْم«، قال: »الخط« وهذا صحيح أيضا. قال ابن العربي: واختلفوا في تأويله؛ فمنهم من قال: جاء لإباحة الضرب؛ لأن بعض الأنبياء كان يفعله، ومنهم من قال جاء للنهي عنه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: »فمن وافق خطه فذاك« ولا سبيل إلى معرفة طريق النبي المتقدم فيه. قال ابن خويزمِنداد: قوله تعالى: »أو أثارة من عِلْم« يريد الخط، وقد كان مالك رحمه الله يحكم بالخط إذا عرف الشاهد خطه وإذا عرف الحاكم خطه أو خط من كتب إليه حكم به، ثم رجع عن ذلك حين ظهر في الناس ما ظهر من الحيل والتزوير. وقيل: »أو أثارة من عِلْم« أو بقية من علم؛ قاله ابن عباس والكلبي وأبو بكر بن عياش وغيرهم. والصحاح »أوْ أثارة مِنْ عِلْم« بقية منه وكذلك الأثْرة (بالتحريك). ويقال: سميت الإبل على أثارة أي بقية شحم كان قبل ذلك. وأنشد الماوردي والثعلبي قول الراعي: وذات أثارَةٍ أكَلَتْ عَلَيْها * نباتا في أكمَّته ففارا وقال الهروي: والأثارة والأثَرُ: البقية؛ يقال: ما ثمَّ عين ولا أثَرُ. وقال ميمون بن مهران وأبو سلمة بن عبد الرحمن وقتادة: »أوْ أثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ« خاصة من علم. قال مجاهد: »رواية تأثرونها عمن كان قبلكم« . وقال الزجاج: »(أوْ أثَارَةٍ): أي: علامة. والأثارة مصدر كالسماحة والشجاعة، وأصل الكلمة من الأثر وهي الرواية؛ يقال: أثرتُ الحديث آثُرُهُ أثْراً وأثَارَةً وأثْرَةً فأنا آثِر، إذا ذكرته عن غيرك. ومنه قيل: حديث مأثور؛ أي: نقله خلَفٌ عن سَلَفٍ، قال الأعشى: إن الذي فيه تماريتما * بُيِّن للسامع والآثر وقرئ »أوْ أثْرَةٍ« بضم الهمزة وسكون الثاء. ويجوز أن يكون معناه بقية من علم، ويجوز أن يكون معناه: »شيئاً مأثوراً من كتب الأولين«. والْمأثُورُ: ما يتحدث به مما صح سنده عمن تحدث به عنه. وقرأ قتادة أيضاً، رحمه الله، الآية 25 من نفس السورة المذكورة أعلاه؛ سورة الأحقاف كما يلي: »تُدَمِّرُ كُلَّ شيْء بأمر رَبِّها فأصبحوا لا تُرى إلا مَسَاكِنُهُم كذلك نجزي الْقَوْمَ المُجرِمينَ« ؛ نعم لقد قرأ »لا تُرى« بالتاء مضمومة، »إلاَّ مسَاكِِِِنُهم« بالرفع. شارك قتادة في هذه القراءة الحسن وأبو الرجاء والجحدري وعمرو بن ميمون والسلمي ومالك بن دينار والأعمش وابن أبي إسحاق، واختلف عن الكل إلا أبا رجاء ومالك بن دينار. وقرأ الأعمش: »إلاَّ مَساكنهُم« وهو ما يروى كذلك عن الثقفي ونصر بن عاصم. قام أبو الفتح عثمان بن جني، كعادته، بتوجيه هذه القراءة، فقال في الصفحة 266 من الجزء الثاني من محتسبه: »أما« تُرى« بالتاء ورفع (المساكن) فضعيف في العربية، والشعر أولى بجوازه من القرآن؛ وذلك أنه من مواضع العموم في التذكير، فكأنه في المعنى لا يرى شيء إلا مسَاكِنُهُم. وإذا كان المعنى هذا كان التذكير لإرادته هو الكلام. فأما »تُرى« فإنه على معاملة الظاهر، والمساكن مؤنثة، فأنث على ذلك. وإنما الصواب: »ما ضرب إلا هند« ولسنا نريد بقولنا: إنه على إضمار أحد وأنَّ هنداً بدَلٌ من (أحدٍ) المقدر هنا، وإنما نريد أن المعنى هذا؛ فلذلك قدمنا أمر التذكير. وعلى التأنيث قال ذو الرمة: بَرَى النَّحْزُ والأجْرَالُ ما في غُروضِهَا * فمَا بَقِيَتْ إلاَّ الصُّدورُ الجَرَاشِعُ »النَّحْز«: الركل بالعقب. و»الأجْرالُ«: جمع جرل - بالتحريك - وهو المكان الصلب الغليظ. و»الغْروضُ«: جمع غرض - كسَهْم - وهو للرِّحْل كالحزام للسرج و»الجَراشِعُ«: جمع جرْشَع وهو الغليظ. والذي ينتظر أن نفهمه من قول ذي الرمة هو: ما بقي إلا الصدور؛ لأن المراد ما بقي شيء منها إلا الصدور. وأما »مسكنهم« فإن شئت قلت واحد كفى من جماعته وإن شئت جعلته مصدرا وقدرت حذف المضاف، أي: »لا تُرى إلا آثار مساكنهم« فلما كان مصدرا لم يلق لفظ الجمع به كما قال ذو الرمة: تقول عجوز مدرجي مُتروِّحاً على بابها من عِند أهلي وماليا فالمدرج هنا مصدر، ألا تراه قد نصب الخال؟ ولو كان مكانا لما عمل، كما أن المُغار في قول الطماح بن عامر بن الأعلم بن خويلد العقيلي: وما هي إلا في إزار وعِلقةٍ مُغارا بن همام على حي خثعما مصدرا أيضا، ألا تراه قد علق به حرف الجر؟ وهذا واضح، وحسن أيضا أن يريد (بمسكنهم) هنا الجماعة، وإن كان قد جاء بلفظ الواحد؛ وذلك أنه موضع تقليل لهم وذكر العفاء عليهم، فلاق بالموضع ذكر الواحد لقلته عن الجماعة، كما أن قوله تعالى في الآية 5 من سورة الحج: »ثُم نُخرجكم طفلا« أي »أطفالا«. وحسن لفظ الواحد هنا لأنه موضع تصغير لشأن الإنسان وتحقير لأمره، فلاق به ذكر الواحد لذلك لقلته عن الجماعة ولأن معناه أيضا »نخرج كل واحد منكم طفلا«. وقرأ قتادة أيضا: رحمه الله، الآية 15 من سورة النجم كما يلي: »عِنْدها جَنَّة المَأوى« وهي الآية التي تقرأها الجماعة هكذا: »عندها جنة المأوى«. شارك قتادة في هذه القراءة علي كرم الله وجهه وابن الزبير وأنس، لكن بخلاف عن هاذين القارئين، وأبو هريرة وأبو الدرداء وزر بن حُبيش ومحمد بن كعب.