من خلال هذه الحلقات العلمية القيمة، سنجول مع الدكتور التهامي الراجي الهاشمي في حدائق القراءات القرآنية المتواترة، حيث، سيمهد للقارئ بفضل خبرته الطويلة في هذا الميدان العلمي الذي يصح أن نقول إنه حجة فيه الطريق إلى اكتشاف كنوز هذه القراءات، تاريخا، وحفظا، وأداء، وقواعد، وأسرارا. موجز عن ترجمته قتادة بن دعامة أبو الخطاب السدوسي البصري الأعمى. كان، رحمه الله، مفسرا بارعا للقرآن الكريم وأحد الأئمة الكبار في حروف كتاب الله. له اختيار يرويه لنا شمس الدين أبو الخير محمد بن محمد الجزري من كتاب الكامل وغيره. سمع القراءة عن أنس بن مالك ورواها عنه وعن أبي الطفيل وسعيد بن المسيب وغيرهم. روى عنه الحروف أبان بن يزيد العطار وأيوب وشعبة الراوي الأول عن عاصم وأبو عوانة وغيرهم؛ كان، رضي الله عنه يضرب به المثل في الحفظ؛ توفي سنة سبع عشرة ومائة. ولأنه، كما قلنا، أحد الأئمة في حروف القرآن كان الناس يسعون إلى لقائه والاستفادة منه. هذا ما يخبرنا به أبو الفتح عثمان بن جني الذي يخبرنا عما فعله خالد بن عبد الله القسري مع الحكم بن عمر الرعيني مبديا رأيه الصريح في القراءات التي يقرأ بها قتادة. أعتقد أنه يحسن، نظرا لأهمية ما ذهب إليه القارئ قتادة وما قابله به ابن جني أن أورد ما أبداه صاحب المحتسب في هذا الموضوع؛ قال في صفحة 82 من الجزء الثاني من المحتسب: »قال ابن مجاهد: حدثني عبد الله بن محمد بن شاكر العبدي البغدادي، قال: حدثنا خالد بن مرداس، قال: حدثنا الحكم بن عمر الرعيني قال: أرسلني خالد بن عبد الله القسري إلى قتادة أسأله عن حروف من القرآن، منها قوله تعالى في البقرة الآية 54: »فاقتلوا أنفسكم«، فقال قتادة: »فاقتالوا أنفسكم«من الاستقالة. قال أبو الفتح: اقتال هذه افتعل، ويصلح أن يكون عينها واوا كاقتاد وأن يكون ياء كاقتاس. وقول قتادة: »إنها من الاستقالة«، يقتضي أن يكون عينها ياء؛ لما حكاه أصحابنا عموما، من قلت الرجل في البيع أقلته. وليس في قلت دليل على أنه من الياء؛ لقولهم: خِفت ونِمت وهما من الخوف والنوم لكنه في قولهم في مضارعه: أقيله. وليس يحسن أن يحمله على مذهب الخليل في طِحت أطيح وتِهت أتيه: أنهما فَعِلت أفْعِل من الواو لقلة ذلك. وعلى أن أبا زيد قد حكى: ماهت الركيَّة تميهُ ودامت السماء تديم لقلة ماهت تميه ولأن أبا زيد قد حكى في دامت تديم، المصدر وهو دَيْماً، فقد يكون هذا على أن أصل عينه ياء. يقول ابن جني: »وحدثني أبو علي بحلب سنة ست وأربعين قال: قال بعضهم: إنَّ قلت الرجل في البيع ونحوه إنما هو من: قُلت له افسخ هذا العقد، وقال لي: قد فعلتُ، فهي عند من ذهب إلى ذلك من الواو. قال أبو علي: ويفسد هذا ما حكوه في مضارعه من قولهم: أقيله؛ فهذا دليل الياء. قال: ولا ينبغي أن يحمل على أنه فِعلِ يَفْعِلُ من الواو؛ يريد مذهب خليل، لقلة ذلك. قال: لكنه من قولهم: تَقَبَّلَ فلان أباه: إذا رجعت إليه أشباه منه، فمعنى: أقلته على هذا: أني رجعت له عما كنت عقدته معه، ورجع هو أيضاً؛ فقد ثبت بذلك أن عين استقال من الياء. ولا يعرف في اللغة »افْتَعَلْت« من هذا اللفظ في هذا المعنى ولا غيره؛ وإنما هو استفعلت استقلت. وقد يجوز أن يكون قتادة عرف هذا الحرف على هذا المثال، وعلى أنه لو كان بمعنى استقلت لوجب أن يستعمل باللام، فيقال: استقلت لنفسي أو على نفسي، كما يقال: استعطفت فلاناً لنفسي وعلى نفسي، وليس معناه أن يسأل نفسه أن تقيله، وإنما يريد: أنه يسأل ربه (عز وجل) أن يعفو عن نفسه، وكان له حرىً (حرى: وجه، فمن معاني الحرى: الناحية)، لو كان على ذلك أن يقال: »فاقْتَالُوا لأنفُسِكُم«، أي: استقيلوا لها، واستصفحوا عنها. فأما اقتال متعديا فإنما هو في معنى ما يجتره الإنسان لنفسه من خير أو شر ويقترحه، وهو من القول. قال: ولَوْ أنَّ مَيْتاً يُفْتدى لفَدَيْتُهُ بِمَا اقْتَالَ مِنْ حُكمٍ عَلِيَّ طبيبُ أي: بما أراده واقترحه واستامه، وليس معنى هذا معنى الآية، بل هو بضده؛ لأنه بمعنى استلينوا واستعطفوا. هذا ما يُحضره طريق اللغة ومذهب التصريف والصنعة، إلا أن قتادة ينبغي أن يُحْسَنَ الظِّنُّ به؛ فيقال: إنه لم يرد ذلك إلا بحجة عنده فيه من رواية أو دراية. وقرأ قتادة، رحمه الله، الآية 74 من سورة البقرة؛ تلك الآية التي تقرأها الجماعة كما يلي: »ثمَّ قسَتْ قُلوبُكمْ من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشَدَّ قسْوَةً وإنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَمَا يَتفَجَّرُ منْهُ الأَنْهَارُ وإنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَقَّقُ فَيخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وإنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ومَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ«؛ يقرأها، هو هكذا: »ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بعْدِ ذلكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أو شَدَّ قسْوةً وإن مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهارُ وإنْ منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون« مخففة النون في قوله تعالى »وإنّْ مِنهَا لَمَا يَهْبطُ مِنْ خَشْيَةِ الله« علق ابن مجاهد على هذه القراءة قائلا:« أحسبه أراد بقوله »مخففة« - الميم - لأني لا أعرف لتخفيف النون معنى«. يعلق ابن جني على هذا الحكم الذي أصدره ابن مجاهد فيقول في الصفحة 91 من الجزء الثاني من المحتسب: »هذا الذي أنكره ابن مجاهد صحيح وذلك أن التخفيف في »إن« المكسورة شائع عنهم؛ ألا ترى إلى قول الله تعالى في الآية 42 من سورة الفرقان: » إن كاد ليضلنا عن آلهتنا« وكذا في قوله تعالى في الآية 51 من سورة القلم:« وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم«؟ أي: إنهم على هذه الحال. وهذه اللام لازمة مع تخفيف النون فرقا بين » إن« مخففة من الثقيلة وبين»إن« التي للنفي بمنزلة (ما) في قوله سبحانه في الآية 20 من سورة الملك: »إن الكافرون إلا في غرور« وكقول فروة بن مسيك المرادي: فما إن طبنا جبن ولكن منايانا ودولة آخرينا وهذا واضح«. وقرأ أبو الخطاب قتادة، رحمة الله، أيضا الآية 102 من سورة البقرة؛ وهي الآية التي يقرأها الجمهور كما هي مثبتة في مصحف الإمام؛ لنقرأ مقطعا منها كما تقرأه الجماعة:»... وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمان منهما ما يفرقان به بين المرء وزوجه«؛ أقول: يقرأها هو:».. وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلاتكفر فيتعلمان منهما ما يفرقان بين المر وزوجه« بفتح الميم وكسر الراء خفيفة من غير همز؛ فتصير »المرء« التي تقرأ بها الجماعة: »المر« عند الإمام المقرئ قتادة، رحمه الله. شارك قتادة في هذه القراءة الحسن؛ جاءت قراءتهما على التخفيف القياسي، كقولك في الخبء: هذا الخبُ، ورأيت الخبَ ومررت بالخَبِ؛ تحذف الهمزة وتلقى حركتها على الباء قبلها، وتقول في الجزء: هذا الجزُ ورأيت الجزو مررت بالجز. وعليه قراءة الآية 35 من سورة النمل: »الذي يخرج الخَبَ في السموات والأرض« (وهي قراءة ينسبها الجم الغفير من الناس لأبي وعيسى). أما الأشهب فقرأ: »المرء« بكسر الميم والهمز. وأما الزهري فقرأها: »المر« بفتح الميم وتشديد الراء. قياس هذه القراءة أن يكون أراد تخفيف المرء على قراءة الحسن وقتادة إلاأنه نوى الوقف بعد التخفيف، فصار »المر« ثم ثقل للوقف على قول من قال : هذا خالد. وهو يجعل، ومررت بفرج، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف فأقر التثقيل بحاله كما جاء عنهم قوله: ببازل وجناء أو عيهل كأن مهواها على الكَلْكَل وقرأ ابن أبي إسحاق: »المرء« بضم الميم وسكون الراء والهمز. ف »المرء« بهذا الضبط لغة فيه، وكذلك من قرأ: المرء، بكسر الميم. ومنهم من يضم الميم في الرفع ويفتحها في النصب ويكسرها في الجر، فيقول: هذا المرء ورأيت المرء ومررت بالمرء. وسبب صنعة هذه اللغة: أنه قد ألق الإتباع في هذا الاسم في نحو قولك: هذا امرؤ ورأيت امرأ ومررت بامرئ، فيتبع حركة الراء حركة الهمز. فلما أن تحركت الميم وسكنت الراء لم يكن الاتباع في الساكن فنقل الاتباع من الراءإلى الميم لأنها متحركة؛ فجرى على الميم لمجاورتها الراء ما كان يجري على الراء؛ كما يقول ناس في الوقت: هذا بكُر ومررت بِبَكَر؛ لما جفا عليهم اجتماع الساكنين في الوقف وشحّوا على حركة الإعراب أن يستهلكها الوقوف عليها نقلوها الى الكاف. وكما قال من قال في صوم: صُيم وفي قوم قيم لما جاورت العين اللام أجراها في الاعتلال مجرى عات وعتي وجاث وجفي. وقرأقتادة،رحمه الله، أيضا الآية 103 من سورة البقرة؛ تلك الآية التي تقرأها الجماعة كما يلي: »ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون«؛ أقول: قرأها، رحمه الله هو: »ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون«. قرأها بتسكين التاء وفتح الواو خفيفة.