من خلال هذه الحلقات العلمية القيمة، سنجول مع الدكتور التهامي الراجي الهاشمي في حدائق القراءات القرآنية المتواترة، حيث، سيمهد للقارئ بفضل خبرته الطويلة في هذا الميدان العلمي الذي يصح أن نقول إنه حجة فيه الطريق إلى اكتشاف كنوز هذه القراءات، تاريخا، وحفظا، وأداء، وقواعد، وأسرارا. آخر ما تحدثت عنه، كما لاشك تذكرون، وأنا أبحث في قراءة قتادة هو تحليل قراءته، رحمه الله، للآية 16 من سورة الإسراء التي أداها كما يلي: «وإذا أردنا أن نهلك قرية آمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرْنها تدميرا»؛ أعني قرأ قوله «أمرنا» «آمرنا» على وزن «عامرنا». كنت وجهت قراءته هذه وذكرت من شاركه من القراء في أدائه لها. وأواصل اليوم، معكم، بعون الله وقوته، البحث في قراءة هذا القارئ الكبير رضي الله عنه وأرضاه، فأقول: وقرأ، رحمه الله، الآية 64 من سورة الإسراء كما يلي: «واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجالك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا»؛ قرأ: «رجالك» هكذا بكسر الراء وفتح الجيم وهي اللفظة التي وردت بصيغتين في المتواتر، أولا، هكذا «ورجلك» بفتح الراء وكسر الجيم وبها قرأ حفص عن عاصم. ثانيا،» ورجلك «بفتح الراء وتسكين الجيم وهذه قرأ بها كل القراء من السبعة إلا حفص. شارك عكرمة في هذه القراءة قتادة. قالوا: ثلاثة رجلة (بفتح فكسر) ورجلة (بفتح فسكون)، ومثله الأراجيل والمرجل. منهم من يرى أن «الرجلة» للعبيد أكثر، قال الأعشى: وأية أرض لا أتيت سراتها وأية أرض لم أردها بمرجل أي: برجال يقال: رجل جمع راجل كتاجر وتجر. هذا عند سيبويه اسم للجمع غير مكسر بمنزلة الجامل (القطيع من الإبل مع رعاته) والباقر (جماعة البقر)، و هو عند أبي الحسن تكسير راجل وتاجر، وقال زهير: هم ضربوا عن فرجها بكتيبة كبيضاء حرس في جونبها الرجل ويكون الرجال جمع راجل كتاجر وتجار، قال الله تعالى في الآية 239 من سورة البقرة: «فَرجَالا أوْ رُكْبانا». ومن ذلك قراءة الحسن وأبي عمرو وعاصم بخلاف عنهما: «بخَيْلكَ ورَجِلِكَ» بكسر الجيم. روى قطرب، رحمه الله هذه القراءة عن أبي عبدالرحمن، وقال: «الرَّجل الرِّجَال. وقرأ، رحمه الله، كذلك الآية 106 من نفس السورة، سورة الإسراء كما يلي: «وقُرْآنا فرَّقْناهُ لِتقْرَأهُ علَى النَّاس عَلَى مُكْثٍ ونزَّلْنَاه تنْزيلا»؛ أي: أنه قرأ قوله تعالى «فَرَّقْنَاهُ» بالتشديد. مذهب سيبويه أن قوله تعالى في هذه الآية «قرآنا» «منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر. وقرأ الجمهور: «فَرَقْنَاهُ» بتخفيف الراء ومعناه بيناه وأوضحناه وفرقنا فيه بين الحق والباطل ونزلناه شيئا بعد شيء لا جملة، واحدة دليله قوله تعالى «على مكث». شارك قتادة في قراءته هذه لهذه اللفظة علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وابن عباس وعبد الله بن مسعود وأبي بن كعب رضي الله عنهم والشعبي والحسن وأبو عمرو بخلاف عن هذين الأخيرين وأبو رجاء وحُميد بن عمرو بن فائد. وقرأ، رحمه الله، كذلك الآية 102 من سورة الكهف كما يلي: «أَفَحَسْبُ الَّذينَ كفرُوا أن يتَّخذُوا عبَادي منْ دوني أوْليَاء إنَّا أعْتدْنا جَهَنَّم للكَافرين نُزُلا»؛ قرأ قوله تعالى الذي يقرأه الجمهور: «أَفَحَسبَ» بكسر السين وفتح الباء؛ أقول : قرأه «أفَحَسْبُ» بسكون السين وضم الباء ليكون المعنى عنده: «أفَحَسْبُ الَّذين كَفَرُوا وحَطَّهم ومطلوبهم أنْ يتَّخذوا عبَادي منْ دوني أوْلياءَ؟ بل يجب أن يعتدوا أنفسهم مثلهم، فيكونوا كلهم عبيدا وأولياء لي، تماما مثل ما نقرأه في الآية 22 من سورة الشعراء؛ قال فيها سبحانه: «وتلْكَ نِعْمَة تَمنُّها عَلي أنْ عَبًّدْتَ بني إسرائيل»، أي: اتخذتهم عبيدا لك. وهذا أيضا هو المعنى إذا كانت القراءة: «أَفَحَسْبُ الَّذين كَفَرُوا»، إلا أن (حَسْبُ) ساكن السين أذهب في الذم لهم؛ وذلك لأنه جعله غاية مرادهم ومجموع مطلبهم، وليست القراءة الأخرى كذلك. شاركه في هذه القراءة كل من علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وابن عباس، رضي الله عنه وابن يعمر والحسن ومجاهد وعكرمة وابن كثير لكن بخلاف عنه ونُعيْم بن مَيْسرة والضحاك ويعقوب وابن أبي ليلى. وقرأ، رحمه الله، كذلك الآية 6 من سورة مريم كما يلي: «يَرثُني وَارثٌ منْ آلِ يَعقوبَ واجْعَلْهُ رَبِّ رضيا»؛ فأثبت الفاعل من قوله: «يَرثُني» وهي الآية التي يقرأها نافع المدني وابن كثير المكي وابن عامر الشامي وعاصم الكوفي وحمزة من السبعة هكذا: «يَرِثُني ويَرثُ منْ آلِ يعْقُوبَ واجْعَلْه رَبِّ رضيّا» بفعلين مضارعين مرفوعين عُطف الثاني على الأول بالواو. ويقرأها أبو عمرو والكسائي من السبعة كما يلي: «يَرِثْنِي ويَرثْ منْ آل يعْقوب واجعَلْه رب رضيا» بجزم الفعلين: «يَرثْني ويرِثْ». يقول الشيخ أبو الفتح عثمان بن جني عن قراءة الإمام قتادة في الجزء الثاني من محتسبه، صفحة 38: «هذا ضرب من العربية غريب، ومعناه التجريد؛ وذلك أنك تريد «فهبْ لي من لدُنْك وليّاً يرثُني منه أوْ به وإرثُ منْ آل يعقوبَ»، وهو الوارث نفسه، فكأنه جرّد منه وارثاً. ومنه قوله تعالى في الآية 28 من سورة فصلت: «لهم فيها دارُ الخُلْدِ»، فهي نفسها دار الخلدِ، فكأنه جرد من الدار داراً، وعليه قول الأخطل: بنَزْوةِ لصٍّ بعدَ مَا مرَّ مُصْعبُ بأشْعثَ لايُفْلى ولاَ هُوَ يَقْملُ ومصعب نفسه هو الأشعث، فكأنه استخلص منه أشعث، ومثله قول الأعشى: لاتَ هُنَ ذكْرَى جُبَيْرَة أمْ منْ جاءَ منْها بطائِفِ الأهْوال وهي نفسها طائف الأهوال.» ثم يقول: إنه موضع غريب لطيف وقد ذكرناه. شارك قتادة في هذه القراءة؛ أي قراءة: «يَرِثُني وارثٌ منْ آل يَعْقوبَ» كل من علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما وابن يعمر وأبو حرب علي بن أبي الأسود والحسن والجحدري وأبي نهيك وجعفر بن محمد. وقرأ الإمام قتادة، رحمه الله، كذلك الآية 96 من سورة طه كما يلي: «قالَ بصُرْتُ بما لمْ يبْصُروا به فَقَبصْتُ قبْصة من أثرِ الرسول فنَبَذتُها وكذلك سوَّلت لي نفسي»، بالصاد فيهما عوض الضاد، وقراءة الجماعة، كما نعلم، هي هذه: «قالَ بصُرْت بما لمْ يبْصُروا به فَقبَضْت قبضة منْ أثر الرسول فنَبذتُها وكذلك سوَّلَتْ لي نفْسي» بالضاد في قوله: «فَقَبضتُ قبْضة». وقرأ الحسن، لكن بخلاف عنه: «قُبْصة» بالصاد وضم القاف. «القبْضُ» بالضاد معجمة يكون باليد كلها، وبالصاد غير المعجمة بأطراف الأصابع. يدخل هذا في ذلك الضابط الذي ذكرناه مراراً وهو: «تقارب الألفاظ لتقارب المعاني»؛ من هنا نقول: ما جعلت الضاد لتفشيها واستطالة مخرجها إلا عبارة عن الأكثر، وما جعلت الصاد لصفائها وانحصار مخرجها وضيق محلها إلا عبارة عن الأقل. وأما (القُبصَة) بالضم فالقدر المقبوص، كالحسوة للمحسو، شارك قتادة في هذه القراءة عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب وعبد الله بن الزبير ونصر بن عاصم والحسن وابن سيرين وأبو الرجاء لكن بخلف عن هاذين الأخيرين. وفي ألفاظ هذه الآية خلاف آخر في قراءتها. وفعلاً لقد اختلفوا في قراءة قوله تعالى: «يبْصُروا به» الذي قرأه: «تُبْصروا به» بالتاء الأخوان حمزة والكسائي، وقرأه: «يبْصُروا به» بالياء الباقون من السبعة. كما قرأ الإمام قتادة، رحمه الله، كذلك الآية 98 من نفس السورة؛ سورة طه كما يلي: «إنّما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسّع كلّ شيء علما»؛ قرأ بالتشديد في الفعل «وسعَ» ففي هذه الحالة يكون المعنى: «خرّق كل مصمت بعلمه؛ لأنه بطَن كلّ مُخْفى ومستبهم، فصار لعلمه فضاء متّسعا بعد ما كان متلاقيا مجتمعا لأنه سبحانه وتعالى لا يفعل الفعل إلا عن علم. ومنه قوله تعالى في الآية 30 من سورة الأنبياء، قال سبحانه فيها: «إنّ السماوات والأرض كانتا رتْقا ففتقناهما؛ فهذا في العمل وذلك في العلم. لم يشارك قتادة في هذه القراءة هذه المرة إلا الإمام مجاهد رضي الله عنهما. وقرأ، رضي الله عنه في نفس السورة، سورة الأنبياء، الآية 95 بقراءتين الأولى هكذا: «وحرِمَ على قرْيةٍ أهلكناها أنّهم لا يرجعون» بفتح الحاء والميم بينهما راء مكسورة. و«حرم» هذه فعل لازم من «حرِمَ» كقلق من قَلِقَ وبطر من بطرٍ؛ ومن هنا يقولون: «حرم فلان فهو حرمٌ وحارمٌ إذا قُمر مالُهُ، أي سلب ماله في القمار. ويقولون: أحرمتُهُ: قمرتُهُ؛ قال زهير: وإن أتاهُ خليلٌ يومَ مسألةٍ يقولُ لا غائبٌ مالي ولا حرمُ و«الخليلُ» في هذا البيت هو الفقير شارك قتادة في قراءته هذه عبد الله بن عباس وسعيد بن المسيب وعكرمة الثانية: «وحرمَ على قرْيةٍ أهلكْناهَا أنهمْ لا يرجعون» بفتح الحاء والراء والميم. شاركه في هذه القراءة مطر الوراق في هذه اللفظة قراءات أخرى، أجملها فيما يلي: «وحرمُ على قريةٍ أهلكناها أنّهم لا يرجعون» بفتح الحاء وسكون الراء مخففة وتنوين الميم وهو من «حرم» على لغة بني تميم، هذه قرأ بها ابن عباس لكن بخلف عنه» فهو كبطرٍ من بطِرَ وفخْدٍ من فخِدَ وكلمة من كلمة. قال أبو وعْلة: لا تأمننْ قوْماً ظلمتُهمُ وبدأتهُمْ بالشّرِ والحرْمِ استعمال الشاعر: «الحرْمِ» مكسورة الحاء لأن هذا يصلح أن يكون من معنى اللجاج والمحك ويصلح أن يكون من معنى الحرمان، أي: ناصبتهم وحرمتهم إنصافك. وفي هذه اللفظة قراءة أخرى غير متواترة هي «حرِمٌ» بفتح الحاء وكسر الراء وتنوين الميم قرأ بها عكرمة بخلاف عنه. وفيها قراءتان متواترتان هما: 1 «حرْمٌ» بكسر الحاء وسكون الراء وعلى الميم تنوين الضم؛ قرأ بها من السبعة شعبة وحمزة والكسائي، وخلف العاشر، وافقهم الأعمش. 2 «حرامٌ» بفتح الحاء وراء ممدودة بفتح وتنوين الضم على النون؛ قرأ بها نافع المدني وابن كثير المكي وأبو عمرو البصري وحفص الراوي الثاني عن عاصم.